كلّما نظرتُ إلى خزانة كتبي نظرتْ إليّ العناوين التّي لم أقرأها بعد. ثمّة روايات اشتريتها قبل ثلاث سنوات أو يزيد لكنّني لم أبرمجها إلى حدّ السّاعة. ولأنّ الكتاب كائن حيّ له مشاعرُ مثلما له عقل، فإنّني أحسّ بجمرة العتاب: لماذا قرأتَ عناوينَ أقلّ جودة منّا ولم تقرأنا؟ الأولوية للجودة يا بوكبّة، أم أنّك مثل الحكومة الجزائرية، التّي يجد فيها المتسرّب من المدرسة طريقًا سهلًا إلى البرلمان بينما يبقى المتعلّم عرضةً لتعسّفات الرّاتب الزّهيد أو البطالة المقيتة؟ أنت جرّبت البطالة كيف تبرمجك على الذلّ رغم أنفك فكيف لم تحسّ ببطالتنا؟
حين أشاهد زملائي الإعلاميين الجزائريين، الذين يصنعون مجد المنابر الإعلامية الأجنبية بما يملكون من مواهبَ منافِسة أقول إنّ مقولة "خبز الدار يأكله الأجنبي" قد فعلت فعلتها فينا
أحيانًا أحمل كتابًا من هذا النّوع، فأقرأ منه صفحة أو صفحتين تخفيفًا من حدّة عتابه. وأنا بهذا أشبه الحكومة الجزائرية التّي تخفّف من حدّة احتجاج الشّابّ البطّال بإدماجه في الشّبكة الاجتماعية، حيث يتظاهر بأنّه يعمل، وتتظاهر هي بأنّها تدفع له راتبًا، كما قال رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور.
اقرأ/ي أيضًا: هل سيحرر فيسبوك الجزائريين؟
عثرت في رمضان السابق على كتاب نادر داخل خزانتي كان قد دخلها قبل تسع سنوات. ولست أدري لماذا لم أقرأه إلى غاية تلك اللّحظة، رغم أنّه يدخل في صميم اهتماماتي. وقد زادت حسرتي على التأجيل بمجرد أن أنهيت فصله الأوّل. هل تملك الحكومة الجزائرية مبرراتِ أنّها لم تشغّل مهندسًا في تخصّصٍ نادرٍ أو طبيبًا أو خبيرًا منذ سنوات من تخرّجه؟ كم نموذجًا من هؤلاء؟
أحيانًا ينتابني إحساس بأنني أجمع الكتب، وأحرص على شرائها على حساب قوتي أحيانًا فقط ليُقال إنني مثقف، وإلا كيف لم ألتهمها كلّها رغم قدرتي على ذلك لو كنت جادًّا مع وقتي؟ إنني أشبه الحكومة التّي تعمل على زيادة عدد المدارس والجامعات، ولا يهمّها مستوى التّلاميذ أو الطّلبة أو مصيرهم بعد التخرّج. دخلت محلًّا للإعلام الآليِّ لأنسخ كتابًا، فوجدت طالبة جامعية تنسخ مذكرة تخرّجها عن كتاب "حدّث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي. سألتها إن كانت قد قرأت كتبه الأخرى، فقالت لي إنها لا تملك الوقت، ثم إنّ أستاذها المؤطّر لم يطلب منها ذلك. وأجبت مرّة دعوة مصلحة النشاطات الثقافية لأحد الأحياء الجامعية لإحياء أمسية أدبية، فلم أستطع أن أطيل فيها لتشويش الطالبات، وحين فتح المجال للنّقاش كانت الأسئلة من قبيل ما هي أكلتك المفضّلة.
لماذا لا تعيرني إلى من يستفيد مني قالت لي الكتب، التي لم أقرأها؟ غبيّ من يعير كتابًا والأغبى منه من يعيده قلت لها. لكنني مللت من العطالة قالت لي. إذا شئت غادري خزانتي بمحض إرادتك قلت لها. ألا يحيل وضعها إلى آلاف المواهب الجزائرية في التخصّصات كلّها؟ تنتظر التفاتة ثم تهاجر إلى الخارج بحثًا عن فرصة هناك بعد يأس هنا. لاحظوا الفرق: إنها تمارس الانتظار هنا في حكم اليائس مسبقًا، وتمارس الهجرة في حكم الواثق.
حين أشاهد زملائي الإعلاميين الجزائريين، الذين يصنعون مجد المنابر الإعلامية الأجنبية بما يملكون من مواهبَ منافِسة أقول إنّ مقولة "خبز الدار يأكله الأجنبي" قد فعلت فعلتها فينا، حيث أصبحت ثقافة عامّة. والغريب أنّ السّلطة التّي سكتت على هذا الواقع وعملت على تكريسه هي نفسها تمارس اللّوم في حقّ الإعلام الأجنبي على أنّه يشوّه حقائقها. يا أيّتها السّلطة أنت تملكين جرائد عمومية مثلما تملك هذه الدّول جرائد عمومية، لكن لماذا لا تجعلين جريدة "الشعب" أو "النصر" أو "المساء" أو "الجمهورية" مثل نظيراتها في الخارج؟ لماذا تضخّين لها نصف عدد صفحاتها من الإشهار وهي لا تقرأ خارج الإدارات؟ إنك تملكين قنوات تلفزية مثلما تملك هذه الدول قنوات تلفزية، فلماذا لا تجعلين إحداها مثل قناة الجزيرة مثلًا؟ إنك ترعين تلفزيونك بالملايير رغم أنه لا يستميل المشاهدين إلا في رمضان، بل إنه بدأ يفقد حتى هذه الخاصية في السّنوات الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد
مرّة انتبهت إلى أنني متساهل في إعارة الكتب، التي يطلبها منّي غيري، في مقابل تشدّدهم في أن يعيروني كتبهم، بل إنّ بعضهم يستعير منّي الكتاب بنية مسبقة ألا يعيده. لماذا لا تمنحنا الدّول إطاراتها إلا في إطار واضح وصارم الشّروط، بينما نمنحها نحن إطاراتنا بالآلاف بعيدًا عن أية حماية أو متابعة، حتّى أنّ بعضهم يمارسون الهجرة غير النّظامية؟ هل ندرك ما معنى هذا؟ معنى أن يهاجر إطار جزائري إلى الخارج بحثًا عن كرامة اللّقمة، ونحن نقترب من بالذّكرى الستّين للاستقلال؟ لقد كان مُتفهَما أن يذهب أجدادنا إلى فرنسا قبل الاستقلال وبُعَيدَه للاسترزاق، فما بال أحفادهم بقوا يفعلون ذلك حتّى اليوم؟
مرّاتٍ أشرع في قراءة أكثر من كتاب في الوقت نفسه. أجد متعة في ذلك شريطة أن تكون كلّها إبداعية، ذلك أنّ الكتاب الفكريّ لا يقبل التّشويش، ويحلو لي مرّاتٍ أن ألتقط فقرة من هذا الكتاب وأخرى من ذاك مشكّلًا نصًّا يبحث عن انسجامه، وأنا بهذا أشبه بلادي التي ما زالت تبحث عن انسجامها رغم مرور خمسة عقود من استقلالها.
اقرأ/ي أيضًا: