تلميذٌ في الطور الابتدائي يطعن مُربيته بخنجر، وطالب يعتدي على زمليه في ثانوية، وجماهير كروية تصفر خلال وقفة دقيقة صمت تقديرًا لنجم الكرة البرازيلية بيليه، وملكة جمال أفريقيا متورطة في قضية المتاجرة في مادة الكوكايين.
لقد جاء ميلاد الدولة الوطنية بعد مخاضٍ عسير لم تُحسم فيه الخيارات الديمقراطية ولم تنسجم فيه التوافقات ولم تسوى فيه الخلافات بشكلٍ نهائي
هذه عينة من الواقع المعيشي والمجتمعي من خلال الأحداث التي شاهدناها الأيام القليلة الماضية. قد لا يمكن التعميم والحكم وتقييم حالة التسيب والإهمال وإفلاس المعايير المجتمعية، لكن هذه الحوادث بالتأكيد تحمل رسائل ومؤشرات تبعث عن عدم الاطمئنان حول الحاضر والمستقبل.
على ضوء كل هذا، يتعيّن علينا جميعًا، بصفتنا نخبًا، دقّ ناقوس الخطر حول مخاطر تراجع المعايير وانهيار سلم القيم، وسقوط قواعد الضمير الجمعي واضمحلال مقاييس التماسك الاجتماعي، حيث يتطلب الخطر المفترض تجنيد المجتمع الأكاديمي والمجتمع السياسي وكافة فعليات المجتمعية قصد التصدي إلى تهديد انهيار القيم المجتمعية التي تعد أساس البناء الوطني وأمان الاجتماعي، فضلًا عن حتمية استباق الانزلاقات التي باتت تترتب عن الاستخدام الموسع للوسائل التواصل الاجتماعي دون رقابة أسرية ودون مرجعية صلبة.
لقد بات السلوك الاجتماعي في عدة مواقف وحالات يطبعه التعامل بالعنف والعنف المضاد، وباتت الروابط العائلية والمهنية والمجتمعية عمومًا خاضعة إلى منطق القوة والقساوة بدل الاحتكام إلى القانون والالتزام بالاحترام المتبادل وتقدير الإنجازات والتسامح مع الغير.
ما يحصل مجتمعيًا، ما هو إلا نتيجة إلى تراكمات ماضوية، تاريخية وسياسية وأمنية واقتصادية وثقافية، لم يتم معالجتها بشكلٍ كافٍ وسليم، لقد ساهمنا في تأجيل النقاش الوطني حول مشروع المجتمع، الذي انطوى السجل حوله حول الهوامش والثانويات، وأفرغ من محتواه النهضوي والتنموي، وغدا مُعلبًا بالأيدولوجيات والأنانيات، ومنغلقًا حول الحوار الأساسي والمتمثل في صناعة الإنسان. إنسانٌ يتمتع بالمواطنة والحسّ المجتمعي والذوق الجميل، حاملًا المسؤولية الفردية والجماعية، ويؤمن بحرية الآخرين ومتسامح مع الغير، خاضعًا للقانون والدولة.
إن صناعة الإنسان من أعقد الصناعات، إذ لا يمكن بناء تنمية اقتصادية أو تحقيق طفرة ما لم يسقم الفرد - المواطن، لذا يَجبُ الاستثمار في تكوين الفرد وبنائه وتعلميه وشحذ طاقاته في الإنتاج المعرفي والمهني وشتى المجالات.
يخضع هذا التكوين والبناء وفق معايير قد تحددها السياقات التاريخية والنسق المجتمعي مشبعة بالقيم الإنسانية، حيث تسود فيه قيم المواطنة والإقرار بالحقوق والواجبات وفضائل التسامح وقيم الحرية والالتزام بالدولة القانون، ولا يُعدّ هذا المطلب تصورًا مثاليًا لمجتمع تتداخل فيه عوامل كثيرة تُؤثر فيه ويَتأثر بها ويَتفاعل فيها وفق الأحداث والمجريات، لكن الواقع أيضًا لا يدعو إلى الاستسلام وتأجيل النقاش والحوار.
لقد جاء ميلاد الدولة الوطنية بعد مخاضٍ عسير لم تُحسم فيه الخيارات الديمقراطية ولم تنسجم فيه التوافقات ولم تسوى فيه الخلافات بشكلٍ نهائي، لتكرر الأخطاء ونعيد الغلطات، ولم تعالج العشرية السوداء وانعكاساتها إلا في البعد الأمني تاركة وراءها الآثار النفسية وأسباب التطرّف ومسببات العنف والعنف المضاد.
إن الهندسة الاجتماعية وصلابة الدولة الوطنية تقوم على استقامة وسلامة المواطن
إن الهندسة الاجتماعية وصلابة الدولة الوطنية تقوم على استقامة وسلامة المواطن، ولا يمكن أن يشهد أي كيان تطورًا اقتصاديًا ولا سياسيًا ما لم تتكفل الدولة والنخبة والمفكّر والمثقف على بناء المواطن بشكلٍ فعال يساهم في تعزيز الأمان والتضامن والمواطنة التشاركية.