إذا كان وقع وصول جائحة كورونا إلى الجزائر صعبًا ومفزعًا، بالنظر إلى عدد الوفيات الذي يسجل يوميًا وصعوبة احتواء هذا الوباء من طرف السلطات، فإنه أظهر في الوقت ذاته طاقات وجهودًا جزائرية كانت مهّمشة استطاعت أن تفجّر مكنوناتها العلمية هذه المرّة، خاصّة في المجال الطبي والصحّي، كما أكد أن الابتكار في الداخل ممكنٌ في حال ما توفرّت الظروف لذلك.
فتحت أزمة كورونا المجال في الجزائر لظهور عديد المبادرات التي ساهمت في التقليل من الحاجة للمستلزمات الطبية
بعيدًا عن الجدل الذي أحدثه دواء لوط بوناطيرو وفريقه، المضاد لفيروس كورونا، فإن الأزمة الوبائية التي تعيشها البلاد، كشفت العديد من المبادرات العلمية التي تصب في خانة الوقاية من هذه الجائحة ومكافحتها، ومن بينها التطبيب عن بعد، وصناعة أدوات الوقاية الطبية وأجهزة الكشف والتنفس الاصطناعي، وغيرها من الهبّات العلمية التي أثبتت من جديد، أن مشكل الجزائر ليس في غياب الكفاءات، وإنما في السياسات المنتهجة للاستثمار في هذه الطاقات.
اقرأ/ي أيضًا: مرابط لـ"الترا جزائر": 9 ضحايا في قطاع الصحة بسبب كورونا ومتخوفون من ارتفاعها
العلاج الافتراضي
بما أن أفضل أداة للتقليل من انتشار فيروس كورونا، هو تجنّب اللمس والتزام العزل المنزلي، ظهرت عدة مبادرات لضمان علاج المرضى بعيدًا عن المستشفى، منها على سبيل المثال منصة "etabib.dz"، التي أطلقت استشارات طبية عبر الفيديو، وهي تجربة جديدة في الجزائر لم تعرف رواجًا سابقًا بالشكل الذي تعرفه اليوم.
قامت هذه المنصّة المهتمة بالمجال الصحّي، فور إقرار السلطات توسيع الحجر الصحي الكامل أو الجزئي إلى جميع ولايات البلاد، بالعمل على توفير أطباء متطوّعين لتقديم استشارات طبيّة عن بعد.
وكتبت المنصّة على صفحتها بموقع فيسبوك: " ندعو الأطباء الخواص خاصّة، للانخراط والاستفادة من خدمات (eTabib workspace)، لمساعدتهم في الاستشارات الطبية وتسيير الملفات، نحن بحاجة إلى وطنيتكم وتضامنكم لتلبية طلبات المواطنين عبر (etabib.dz)، والتخفيف عن الزملاء المتواجدين في المستشفيات".
وبدورها أعدت الهيئة الوطنية لترقية الصحّة وتطوير البحث "فورام"، التي يرأسها البروفيسور مصطفى خياطي، قائمة من الأطباء المختصّين في مختلف الأمراض، لتقديم استشارات طبية عن بعد مجانًا، وذلك بهدف المساهمة في التباعد الاجتماعي خلال هذه الفترة الصحية الحرجة.
ولم تتوقّف استفادة قطاع الصحّة من التكنولوجيات الحديثة خلال هذه الفترة، على المبادرات الجمعوية والشبابية، فحتّى وزارة الصحة التي قاومت لسنوات طويلة في عهد المنظومة السياسية السابقة، أيّة خطوة تهدف إلى رقمنة الخدمات الطبية والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة، وجدت هذه المرة نفسها مضطرة لدخول العالم الافتراضي، بعد أن دخل النظام المعلوماتي الصحّي الجزائري حيز الخدمة مجانًا، ليربط 586 مؤسّسة استشفائية إلكترونيًا.
كما تم البدء في العمل بتطبيق "MySpace" الذي سيستخدمه الأطباء مجانا خلال أزمة "كوفيد 19" لرفع مردوديتهم، والانطلاقة كانت مع أطباء معهد باستور.
روح الابتكار
فتحت أزمة كورونا المجال في الجزائر لظهور عديد المبادرات التي ساهمت في التقليل من الحاجة للمستلزمات الطبية، وظهرت عشرات الورشات لصناعة الكمامات في جميع الولايات، فقطاع التكوين المهني في شقّه الحكومي، ساهم بـ 300 ألف كمامة طبية، وثلاثة آلاف بدلة طبية وفق المعايير المطلوبة.
وقام بهذه المهمة أساتذة وتقنيو مراكز التكوين المهني عبر التراب الوطني، وهو القطاع الذي سخّر معهد المدية لصيانة الأجهزة الطبية لمساعدة المستشفيات، بالتنسيق مع مديريات الصحّة.
كما حرصت عديد المراكز البحثية في الجامعات منها جامعة البويرة وتيزي وزو وباتنة، على القيام بصناعة معقمات كحولية ووزّعت على المستشفيات، وتولى هذه المهمة أساتذة وطلبة كانوا محرومين إلى وقت قريب من المساهمة الإنتاجية والعلمية.
وبولاية بمستغانم، قام الدكتورالشاب فوزي برحمة وفريقه البحثي، بتطوير مشروع كمامة ذكية وتطبيق ذكي على الهاتف يقوم بربط الأطباء ببعضهم البعض، والكشف عن المصابين بفيروس كورونا، ومعلوم أن برحمة يقوم ومجموعة من الباحثين الجزائريين، في الجزائر وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، بالعمل على الاهتمام بالبحث العلمي والابتكارات ضمن الأكاديمية الوطنية للإبداع والابتكار.
ولفريق برحمة مشروع طائرة حرارية بدون طيار، تقوم بمسح مساحات كبيرة بذكاء، وتأخذ قياسات درجة حرارة الأشخاص، خاصّة أولئك الذين يرفضون الامتثال لإجراءات الحجر الصحّي، وذلك بهدف التمكّن من إحصاء أكبر عدد من المصابين بـ "كوفيد 19".
وولاية بباتنة، قام فريق "اتحاد متطوعون" بصناعة نفق للتعقيم، يوضع أمام مداخل المستشفيات لحماية فرق الاستعجالات والحماية المدنية وكل الطاقم الطبي.
دعم حكومي
على غير العادة، لقيت المبادرات الطبيّة والصحيّة التي عرفتها مختلف ولايات الوطن اعترافًا من قبل السلطات الرسمية، فقد غرّد الرئيس عبد المجيد تبون على حسابه في تويتر قائلًا "سعدتُ بمبادرة الفريق الطبّي بالمستشفى الجامعي لتيزي وزو، الذي نجح في وضع نظام للاستشارات الطبيّة عن بعد، لكشف حالات الإصابة بكورونا. خدمة تستحق التقدير والتشجيع، آمل الاقتداء بها لتخفيف الضغط عن المستشفيات، وإراحة المواطنين فألف تحية لكم يا أبناء الجزائر".
وقال وزير التعليم العالي والبحث العلمي شمس الدين شيتور، في تصريح صحافي، إنه من الضروري التنسيق الوثيق الدائم بين الجامعة وقطاع الصناعة من أجل السماح للكفاءات الوطنية بتقديم مساهمتها في مجال التنمية الاقتصادية للبلاد، من خلال تقليص استيراد المنتجات والتجهيزات الطبية الأخرى والعلمية.
وأضاف شيتور أن "الوضعية الحالية الناجمة عن وباء كورونا العالمي التي تعيشها بلادنا، قد حفّز تلقائيًا النخبة الوطنية من الأساتذة الباحثين والباحثين الدائمين والأساتذة الباحثين في المجال الاستشفائي الجامعي والمستخدمين العلميين والتقنيين، من خلال التجنّد بقوّة للمساهمة في الجهود التي تقوم بها جميع مكوّنات المجتمع في مكافحة فيروس كورونا".
وأعلن وزير الصناعة والمناجم فرحات آيت علي براهم، أنه على إثر ظهور فيروس كورونا في الجزائر، عن توجيه نداء للكفاءات العلمية على مستوى الجامعات، من أجل تصنيع مستحضرات التعقيم والكمامات والألبسة الطبية الخاصّة، وأجهزة الفحص والتشخيص عن بعد وأجهزة التنفس الاصطناعي واختبارات الكشف المبكر.
وأشار شيتور، إلى إنشاء مخابر للكشف عن فيروس كورونا على مستوى مركز البحث في البيوتكنولوجيا وعلى مستوى جامعات تيزي وزو والشلف وتلمسان وبجاية والطارف وبشار وباتنة.
يبدو أن هذه الحالة العلمية التي أحدثتها أزمة فيروس كورونا أجبرت القطاع الخاص على احتضان الاختراعات
ويبدو أن هذه الحالة العلمية التي أحدثتها أزمة فيروس كورونا، أجبرت القطاع الخاصّ على خوض مغامرة احتضان الاختراعات والابتكارات التي يقدّمها باحثون جزائريون، فقد أعلن منتدى رؤساء المؤسّسات بدوه، أنه بالتعاون مع عدد من القطاعات الحكومية والخاصّة، سيتم تصنيع أول نموذج لجهاز تنفس اصطناعي جزائري طوّرته مؤسّسة (ATECHG) جاهز للاستعمال حاليًا، لكن قبل ذلك سيخضع للمصادقة والترخيص من طرف السلطات الطبيّة والصحيّة خلال الأيام المقبلة.
اقرأ/ي أيضًا:
بن بوزيد: الأرقام المسجلة في العاصمة لا تستدعي الحجر الكلي
الجمهور الجزائري يقاوم "عزلة الكورونا" بـ "السفر في الزمن"