تواصل أسعار الصيف انتعاشها الذي بدأته منذ أسابيع، وهو الخبر الذي سيريح الحكومة الجزائرية، ويضمن لها مداخيل قد تعدل الميزان التجاري السنوي ليصبح إيجابيًا، أو على الأقل متوازنًا، ومع هذا الارتفاع يتساءل كثيرون بأية كيفية سينعكس ذلك إيجابًا على المواطنين واستثمار عائدات النفط، وعدم تكرار ما حدث قبل 10 سنوات لما تجاوزت أسعار برميل النفط 130 دولارًا دون أن تصل ثمارها للمواطن.
جمال الدين نوفل شرياف: الحكومة أمام فرصة ذهبية لاستغلال التحسن المالي المرتقب في إظهار قيامها بتغيير حقيقي
وفي اقتصاد الجزائر الذي يشكّل الريع النفطي 95 بالمائة من عائداته، يترقب المتابعون الإجراءات التي ستتخذها الحكومة في أوّل امتحان لها للتأكيد على أنها تريد حقًا بناء اقتصاد جديد لا يكون رهينة تقلبات سعر برميل النفط.
انتعاش ظرفي؟
حافظت أسعار النفط على ارتفاعها فوق 80 دولارًا للبرميل المسجّل في تشرين الأوّل/أكتوبر الجاري، فقد قفزت الاثنين إلى أعلى مستوياتها في سنوات بدعم من تعاف متزايد للطلب العالمي، خاصة بعد تسجيل نقص في الكهرباء والغاز في اقتصاديات كبرى مثل الصين.
وأنهت عقود خام برنت القياسي العالمي لأقرب استحقاق جلسة التداول مرتفعة 1.26 دولارًا، أو 1.5%، لتسجل عند التسوية 83.65 دولار للبرميل بعد أن قفزت أثناء الجلسة إلى 84.60 دولارًا، وهو أعلى مستوى لها منذ أكتوبر 2018.
وساهمت وتيرة التعافي الاقتصادي من الجائحة، بعد توسيع دائرة الذين تلقوا التلقيح في الدول المتقدمة الأكثر استهلاكًا للنفط دفعة للطلب على الطاقة.
وزاد من ارتفاع أسعار النفط الذي لم تسجله منذ سنوات هو التباطؤ في إنتاج النفط؛ بسبب ضغوط على الحكومات للانتقال إلى طاقة أكثر نظافة، والتي لم تستطع حتى الآن أن تكون بديلًا كافيًا لمصادر الطاقة النفظية.
وساهم تحالف "أوبك+" الذي تعد الجزائر أحد أعضائه، وكان دورًا بارزًا لها فيه خلال ترأسها "أوبك" في 2020، في خفض الإنتاج لدفع أسعار النفط نحو الارتفاع، وبالخصوص لما وصلت إلى ما دون 30 دولارًا في أوج جائحة كورونا.
وفي اجتماع تموز/جويلية الماضي، قررت "أوبك+" زيادة الإنتاج بمقدار 400 ألف برميل يوميًا لاستعادة 5.8 مليون برميل يوميًا في تخفيضات في المعروض من اتفاقها لعام 2020 لتقليص الإنتاج في أعقاب تفشي فيروس كورونا.
راحة مالية؟
توقع الرئيس عبد المجيد تبون في لقائه التلفزيوني مع الصحافة الذي بث الأحد الماضي، أن يعرف الاقتصاد الجزائري توازنًا نهاية العام الجاري، دون أيّ عجز في الميزان التجاري بفضل خطط ترشيد الاستيراد، وكذا بفضل الارتفاع الذي شهدته أسعار النفط.
وينتظر أن ترتفع عائدات النفط هذا العام إلى أكثر من 20 مليار دولار الذي شهدته العام الماضي، في أقل قيمة لها منذ سنوات، حيث سيصب ارتفاع أسعار البترول وخاصة الغاز في عائدات الجباية البترولية، وهو ما سيسمح للحكومة بتقليص أيّ عجز في الميزانية وتغطيته ماليًا.
وحسب الرئيس تبون، فإن انتعاش الاقتصاد الجزائري الذي تتوقع الحكومة أن تصل نسبته إلى أكثر من أربعة بالمائة على أساس سنوي في نهاية 2021، والذي من أسبابه ارتفاع أسعار النفط، سيمكن البلاد من المحافظة على احتياط الصرف عند 44 مليار دولار دون نقصان عن نهاية العام الماضي.
وفي انتظار اعتماد البرلمان للسعر النهائي المرجعي لبرميل النفط الذي سيبنى عليه قانون المالية لسنة 2022، ستسمح عائدات النفط في حال ما استمرت الأسعار مرتفعة للحكومة بتنفيذ خططها، وبالخصوص تلك المتعلقة برفع الأجور واستمرار سياسة الدعم الاجتماعي دون ضغط كبير على الميزانية، إضافة إلى إمكانية بعث بعض المشاريع التي جُمّدت بسبب جائحة كورونا وخطط التقشف التي اعتمدت في السنوات الماضية.
بدائل تمويلية
قبل عقد وأكثر من اليوم، بلغت أسعار النفط أعلى مستوياتها بقفزها إلى 120 و130 دولارًا للبرميل، إلا أن الجزائر لم تستفد وقتها كما يجب من البحبوحة المالية التي وفرتها عائدات المحروقات، لذلك يحذّر خبراء الاقتصاد الحكومة من الوقوع في الخطأ نفسه، ويدعون إلى التعامل بعقلانية مع هذا الارتفاع في الأسعار، خاصّة وأن الاقتصاد العالمي يبقى مضطربًا والمستثمرون متخوفون من قدوم موجدة جديدة من جائحة كورونا قد تخلط الحسابات الاقتصادية مرّة أخرى.
ولتجنب تكرار الأخطاء السابقة، دعا أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر جمال الدين نوفل شرياف في حديث إلى"الترا جزائر" الحكومة، للبحث عن بدائل تمويلية خارج المحروقات حتى مع ارتفاع أسعارها، خاصة في الأوضاع الراهنة للاقتصاد.
وقال الدكتور شرياف "يجب الخروج من التفكير الكلاسيكي للتمويل في الجزائر، نحن نتمتع بكل الخصائص الجغرافية والبشرية التي تسمح لنا بالتركيز على رأس المال الفكري بالدرجة الأولى، فالأهم ليس كيف نمول بل كيف يتم استخدام الأموال".
ويعتقد شرياف أن تأثير ارتفاع أسعار النفط على الاقتصاد الجزائري، سيكون مرتبطًا أولًا بتحديد معايير قياس الاقتصاد في البلاد، وكذا بالكيفية التي ستتم عبرها استثمار تلك العائدات المالية.
ويعتقد دكتور الاقتصاد أن الحكومة أمام فرصة ذهبية لاستغلال التحسن المالي المرتقب في إظهار قيامها بتغيير حقيقي، خاصة وأن الجزائريين يطمحون للمرور بمرحلة أمل الاجتماعية في كل القطاعات، تتطلب أموالًا كثيرة لتنفيذ المشاريع اللازمة، داعيًا في هذا الإطار لفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، لكن بقواعد تخدم كلا الطرفين، وتجعل البلاد مناخًا آمنًا للاستثمار الذي يوفر القيمة المضافة ولا يعتمد على الإنفاق العمومي.
تُطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت الحكومة ستسفيد من ارتفاع أسعار النفط وتحوّل الأرباح إلى استثمارات في القطاعات الصناعية والتجارية
اليوم، تُطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت الحكومة ستسفيد من ارتفاع أسعار النفط وتحوّل الأرباح إلى استثمارات في القطاعات الصناعية والتجارية، أم تكرّر أخطاء الماضي، أو ما عُرف بزمن "البحبوحة المالية"، وهي الفترة التي ارتفع فيها حجم الفساد بالصفقات العمومية في الجزائر.