15-سبتمبر-2019

سبهان آدم/ سوريا

الكلمة في الأدب هي حلبة صراع للأيديولوجيات. جُملة تعريفية لخّص بها باختين رؤيته للأدب بأنّه خطابٌ عابرٌ للأدب، يتقاطعُ مع السياسة ومع الأفكار والمواقف التي يُنتجها البشر العاديّون في حياتهم. ثمّ هل تخلو خطابات الناس العاديين من لوثة السياسة؟

يُمكن أن نصادف مقاطع كثيرة في روايات لا تُعدّ ولا تُحصى، تتضمّن رؤى سياسية لاذعة

 يصعب أن نتخيّل جماعة لا يطرأ بينهم حديث ذو شجون في السياسة. إذا كان هذا هو حال الخطاب اليومي، فما بالك الأدب؟

اقرأ/ي أيضًا: شعب التلفزيون وشعب الشوارع الغاضبة

 لا أتحدّث على وجه التخصيص عن الأدب السياسي، فهذا موضوع مستقلّ، بل عن حضور السياسة في ما يكتبه الأدباء، عن وعي منهم أو عن غير وعي. فحتى هؤلاء الذين يدّعون خلوّ أدبهم من الكلام السياسي، تجد أنّ السياسة قد تجسّدت في لا وعي نصوصهم في شكل إشارات وتلميحات.

قراءة الرواية تجعلك تقف عند الحدود بين الأدب والسياسة، أي بين الكلمة الشعرية المكتفية بذاتها (وهي في الحقيقة من التعبيرات التي ترسّبت عن الفترة البنيوية) وبين الكلمة الملوّثة بأحاديث غير أدبية. فالحديث غير الأدبي هو من طبيعة سياسية كذلك.

تبرزُ المواقف السياسية أكثر، في حوارات الشخصيات أو في بعض الجُمل التي يُلقيها السارد في طريق الحكاية، ووحده القارئ اليقظ من ينتبه إليها.

 في رواية "الله 99 - إيميلات مترجم إيميل سيوران" للروائي العراقي المغترب  حسن بلاسم، نجد الكثير من هذه الجُمل اللاذعة بموقفها السياسي، دون أن تبدو روايته ككلّ قد وقعت في بركة السياسة: "أقول الآن عن السعادة وكلّي استغراب من نصيحة سيوران، فالأكيد أن من يبحث عنها ذلك الصنف المعدوم الألوان من المخبولين وبشر الإحصاءات، وأولئك السائرين في نومهم صوب صناديق الاقتراع مثلًا".

الجملة تختزل ما نعيشه اليوم، صحيح أن الرواية كُتبت اعتمادًا على تجربة الحرب في العراق، وما تلاها من تمزّق داخلي بسبب الطائفية الدينية والعرقية، إلاّ أنّ الفقرة يُمكن قراءتها في سياقات أخرى مشابهة؛ والسياق الجزائري اليوم تنطبق عليه الجملة التي وردت في الفقرة: "أولئك السائرين في نومهم صوب صناديق الاقتراع مثلًا"، هؤلاء الذين، وبعد نصف عام من الحراك الشعبي، يطالبون بتعجيل الانتخابات الرئاسية، دون أن يعلموا أنّهم مثل الذين يسيرون نيامًا إلى انتخابات لم يقرأوا جيّدًا إشاراتها المريبة. هؤلاء النيام هم أنفسهم الذين ناموا لعقدين كاملين، يُجرَّون إلى صناديق الاقتراع لأنهم أصلًا كانوا من الصنف المعدوم الألوان، ليست لهم أيّة رائحة وليس لهم أيّ لون إلا لون الذلّ ورائحة الهوان.

يُمكن أن نصادف مقاطع كثيرة في روايات لا تُعدّ ولا تُحصى، تتضمّن رؤى سياسية لاذعة، وحارقة، كأنّها تلقي بالحصى الملتهب على وعيك السعيد، الغارق في حرير الوهم بأنّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام.

رواية في حجم "حذاء فيلليني" للروائي المصري وحيد طويلة، تكفي لكي تسقط القناع عن الوجه القبيح للنظام السياسي العربي، والجزائر، ليست استثناءً؛ ودون أيّة معالجة تحليلية مستفيضة لهذه الرواية، يُمكن اختزالها في المعادلة التالية: النظام القمعي هو الذي يحوّل شخصية تدعى مُطاع، إلى شخصية أخرى تدعى مُطيع. كل هذا باسم حماية الدولة من الأعداء الوهميين. وأعداء الدول البوليسية هم هؤلاء الذين يتجرأون ويعلّقون لوحة لمخرج سينمائي يُدعى فيلليني، أو يفتحون كتابًا يقرأوه لأجل أن يتعلّموا كيف يتخلّصون من أكاذيب السلطة.

لماذا لا يقرأ الناس الأدب؟ الحقيقة أنّهم في لاوعيهم خائفون من الحقيقة

إلى اليوم، أتساءل: لماذا لا يقرأ الناس الأدب؟ الحقيقة أنّهم في لاوعيهم خائفون من الحقيقة، لأنّ الأدب سينتشلهم من وهم الطُمأنينة الخادعة. لو أنّهم قرأوا الأدب، لكان وعيهم قد تشرّب باليقظة اللازمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نخب جزائريّة متعالية.. من يفكّر للواقع؟

عودة الإعلام إلى ضلاله القديم