18-يناير-2022

في شوارع الجزائر العاصمة (تصوير: بلال بن سالم/أ.ف.ب)

لماذا باتت المنظومة الصحية الأكثر اهتمامًا من طرف القائم على إدارة الدولة في الجزائر؟ ولماذا ظّلت القضايا المرتبطة بالإنسان لعقود من الزّمن في ذيل أجندة الاهتمام الإعلامي؟ وهل يمكن أن يتغير التعاطي مع القصص الإنسانية بأنها المواضيع التي تعيد للإنسان الحياة؟.

 باتت المواضيع المرتبطة بالسكن والعمل والتربية والصحة أهم بكثير من البيانات الوزارية والنشاطات مديرين على مستوى الولايات

قبل عقدين تقريبًا، كانت أغلب توجّهات الصحافيين هي تغطية النّشاطات الوزارية والبرلمان وفعاليات تنظمها الأحزاب السياسية، وكانت صفة "لوطني"، هي الصفحة الأكثر اهتمامًا من المهنيين، طبعًا بين السياسي والأمني، وبعدها صفحة الاقتصاد، والرياضة والثقافة، لتظلّ صفحة المجتمع أو ملفات القضايا الاجتماعية "يتيمة" كما تصفها أستاذة الإعلام والاتصال كريمة بورنان لـ"الترا جزائر".

اقرأ/ي أيضًا: مختص: الجزائر في قلب الموجة الرابعة والجواز الصحي يجنّبنا الغلق الشامل

لطالما كانت صفحات القضايا الاجتماعية خارج اهتمامات التناول المتأنّي وإعطائها الأهميّة القصوى في بناء القصص الصحفية، كما رددت الأستاذة بورنان، وهي صحفية سابقة لمدة تزيد عن 17 سنة، لافتة في إفادتها أن الإنسان هو محور أيّة مادة صحفية، إن غاب عنها فقدت نكهتها وفقد القارئ- الجمهور مذاقها الطيب.

نعم كانت "صفحات المجتمع" آخر نقطة في الأجندة اليومية لاهتمامات رؤساء التّحرير، أو لنقل الأقل تسليطًا للأضواء من طرفهم، أو لنوضّح ذلك أكثر أنّها لا تجذب اهتمامًا من الصحافيين أنفسهم، وكأنها الصفحات التي تروي قضايا "المشاكل اليومية والشكاوى" وفقط.

موجة جديدة عرفتها الصحافة الجزائرية منذ بدايات الـ 2005، وباتت الصّحف التي تستقطِب القارئ هي التي تتطرّق إلى "مسائل الذّبح والنّكح والفضح" على حدّ تعبير الكاتب الصحفي الجزائري سعد بوعقبة، وإلا فهي لن تستهويه ولن تستجلب قراء وبالمحصلة تجلب زبائن لمادة صحفية وأي مادة؟

لأكثر ضرورة والأقلّ اهتمامًا

بينما، روت الصحفية فريدة سعداوي لـ "الترا جزائر" تجربتها في صحافة قسم المجتمع في السابق كثيرًا ما غبطت زملائي في الصحف التي كنت أشتغل فيها، تدرجت منذ 2001 في صحف يومية، تعرّضت للغلق وهكذا "وصلت إلى قناعة بعد مضي عشر سنوات عن ممارسة المهنة في صفحة المجتمع، أنّ "الصحافة في الجزائر تترنّح بين السياسي والاقتصادي والرياضي، بينما القضايا المتعلِّقة بالمجتمع فهي توضع في خانة ما يطلق عليها أغلب المهنيين بـ "الصفحات الميّتة"، أي "الصفحات التي يمكن إنجازها استباقيًا بثلاثة أيام قبل النّشر، بل وأكثر من ذلك هناك من يضعها في (ثلاجة المواضيع)، لأنها تستهلك جهدًا لإعدادها".

وأوضحت المتحدّثة، أنه أبعد مما ذكر سالفًا، هناك من يعتبرها وسيلة لملء فراغ الصفحات وهذا ما اتخذته بعض الصحف المغمورة إذ تعكف على توظيف صحافي بالقطعة لإنجاز صفحتين أو ثلاث صفحات يوميًا في قسم المجتمع وبمبلغ زهيد.

من خلال هذا التصريح نستشف ثلاثة أشياء، أن الصحافة الجزائرية بأنواعها وصنوف نشرها سواءً الثقيلة بين السمعي والبصري والإذاعة والمكتوبة الورقية والإلكترونية، تتعاطى مع "زاوية المجتمع بشيء من البساطة والسّطحية"، كما قال أستاذ الإعلام محمود خليفاتي وهو ما جعلها تسقط في فخّ التناول الباهت والسريع وغير المكلف غالبًا.

وفي هذا المضمار، تعتبر القضايا المتعلقة بالإنسان هي حجر الزّاوية في كل برامج الحكومة بمختلف قطاعاتها، والصحافة مشارك أساسي في ذلك، إذ باتت المواضيع المتعلقة بالأزمات اليومية كندرة السلع والبطالة والهجرة السرّية مسائل مهمة تثير العديد من الأسئلة، وتفتح نوافذ التفكير مجددًا بالاهتمام بالإنسان الجزائري.

كورونا قلبت الموازين

اللافت للنظر، أن الأزمة الصحية التي يعرفها العالم أجمع هي من جعلت من أجندات الأخبار تنقلب رأسًا على عقب، إذ بات الخبر الصحّي أهم بكثير من خبر تعديل حكومي أو خطاب رئيس حزب سياسي أو انتخابات وغيرها من المواضيع المرتبطة بالشقّ السياسي.

في سياق متصل، باتت المواضيع المرتبطة بالسكن والعمل والتربية والصحة أهم بكثير من البيانات الوزارية والنشاطات مديرين على مستوى الولايات، وإعادة انتاج خطاب الولاة ورؤساء الدوائر، في المقابل يبدو أن الاهتمام أضحى اليوم بطريقة التعاطي مع أي قضية تتعلق بالإنسان وأهمها الصحة.

يبدو أن الحكومة الجزائرية تعي هذا الأمر ولو بشيء من التّغافل عن الواقع الحقيقي للمنظومة الصحية التي تئنّ من نقائص كثيرة، وهو ما شاهدناه في قضية "أزمة الأكسيجين" في شهر أوت/ أغسطس الماضي، وكيفية التعاطي الإعلامي مع الأزمة.

لا ينكر مسؤولون هشاشة المنظومة الصحية في الجزائر، والأطباء ومثال على ذلك عن سبب تعطل أجهزة السكانير في أغلب المستشفيات الجزائرية الجامعية، وقضية تصفية الدم الخاصة بأمراض الكلى والأزمات التي تعرفها المناطق الجنوبية التي يضطر سكانها إلى قطع أزيد من 500 كيلومترا للوصول إلى مستشفى يتوفر على حقنة أو جهاز راديو، وغيرها من المشكلات التي تعرفها مختلف المؤسسات الصحية في الجزائر.

الظاهر أن هذه المشكلات لا يمكن غضّ الطرف عنها، حتى وإن تحاشى الإعلام بمختلف واجهاته المكتوبة وقنواته الاتصالية المسموعة والإذاعية والإلكترونية، إلا أنّ معظم التقارير التي تصل إلى الأجهزة الرسمية وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، تفيد بأن الرئيس تلقى تقريرًا شافيًا وكافيًا عن الوضع الصحي من جانبه الميداني المتعلق بموجة كورونا، ومن جانبه القطاعي المتعلق أساسًا بالكوادر الطبية بمختلف أسلاكها والوسائل المتاحة لتلافي أزمة أخطر بسبب تفشي الوباء.

هنا، يذكر البروفيسور أخصائي الأورام بمستشفى باتنة شرق الجزائر مسعود بن عايشة، أن المشكلة أبعد من أن يتم حصرها في بناء مستشفى أو تدعيم الكادر الطبي، أو تحسين الأجور أو تقديم علاوات إضافية بسبب الأزمة الصحية التي تعرفها البلاد كما يعرفها العالم أجمع.

وقال البروفيسور بن عايشة إن أزمة الصحة في الجزائر لها ثلاثة مستويات: الأول يتصل بالذهنية الجزائرية وتعاملها مع الإنسان وهنا يمكن التحدّث عن أنسنة الخدمات الصحيّة والتعاطي مع هذه الخدمات العمومية بأكثر حرفية ومهنية وإنسانية، إذ لا يمكن تجاهل مشكلة الانتظار التي يتكبدها المواطن لأشهر طويلة من أجل إجراء عملية جراحية، تكلفه الملايين إن أقبل عليها في المصحات الخاصّة.

أما المستوى الثاني فيتعلق بتدعيم الكادر الطبي بالوسائل التي يتشغلون بها، فمن "غير المعقول أن يقول الممرض أو الطبيب للمريض جهاز الأشعة المقطعية (سكانير) معطّل" أو نأمره بأن يقوم ببعض التحاليل عند مخابر خارجية خاصّة بسبب عدم توفرها جميعًا في مستشفى حكومي، ليعود إلينا بعدها، في رحلة علاج طويلة.

أما المستوى الثالث حسب المتحدث فإنه يتعلّق بالقيمة الاجتماعية للكوادر الطبية إذ نلاحظ إهمالًا كبير لموظفي القطاع بمختلف مستوياتهم ووظائفهم من حيث التقدير الاجتماعي والوظيفي أيضًا، وهو ما يجعل من هذه المهنة لدى البعض تصبح "تجارة" وهذا هو الأخطر، بعيدًا كل البعد عن أهميتها ووظيفتها في الواقع لإنقاذ المرضى والقضاء على المرض.

من الإصلاح إلى التّجديد

إن الحديث عن الإنسان في مجال معيّن، ليس بالسهل بمكان، لأننا نتعامل مع تشابك للعلاقات وتعقّد المسائل الإنسانية، إذ لا يمكن أن نحكُم على تسيير قطاع محدّد إلا إذا عالجناه معالجة أفقية وعمودية، كما قال الخبير في الإحصاء والبيانات بكلية الاقتصاد بالجزائر إسكندر جيلالي، لافتًا إلى أنّ أي قطاع أساسه الفرد-الإنسان، وأيّة مشكلة تشوب القطاع لا يمكن أن يتمّ حلها أو معالجتها بتوفير الموارد المادية فقط، إذ الأخيرة تعتبر جزءًا لا يتجزّأ من الاهتمام بالموارد البشرية.

وشدد جيلالي في إفادته لـ"الترا جزائر"، أنّ المتتبعون لمختلف القطاعات في الجزائر يلتقون في نقطة واحدة وهي العامل البشري الذي في يده حلّ عقدة منجزات المؤسسات، وذلك عبر رفع قيمة القطاع أو إنزاله إلى الأرض وفشله في الأخير، كما قال.

بالعودة إلى قطاع الصحّة، المجال الذي أهملته الآلة الإعلامية منذ سنوات في واجهاتها الصحفية، أحدثت تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون قبل عام بأن المنظومة الصحية في الجزائر هي الأحسن في المغرب العربي وفي أفريقيا.

هذا التصريح، خلق الكثير من اللّغط خصوصًا أثناء أزمة "الأكسيجين" في المستشفيات التي تزامنت مع ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا، وهو ما لفت إليه متتبعون للقطاع في كلمة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الأخيرة في الملتقى الوطني لتجديد المنظومة الصحية، إذ اعترف أن الكوادر الجزائرية ذات كفاءة عالية وأنها "لاجئة" للخارج، متعهدا بعملية تجديد المنظومة برمتها.

منذ الاستقلال تأرجحت وزارة الصحّة بين التسميات والعناوين الكبرى، فكانت "وزارة الصحة العامة والسكّان" لتصبح في العام 1965 "وزارة الصحة العمومية والمجاهدين والشؤون الاجتماعية" ثم "وزارة الصحة العمومية" منذ سنوات السبعينيات إلى عهد التعددية السياسية في 1991، لتتغير التسمية إلى "وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية"، ليتم تقليصها إلى وزارة الصحة والسكان منذ 1992 إلى غاية 2004، ليتم تحويلها من طرف الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة بإضافة كلمة "إصلاح المستشفيات" للمنظومة الصحيّة على رأس القطاع لتصبح وزارة الصحة والسكّان وإصلاح المستشفيات، بينما يحاول الرئيس الحالي تبون أن يقوم بعمليات تجديد في القطاع فهل تضع الحكومة الإنسان على هرم عملية الترميم والتحيين والتجديد أم سيخضع الإصلاح إلى ظروف الوضع الصحي؟.

التعاطي الإنساني في جميع القطاعات، هي أكبر مرحلة من سموّ المسؤول السياسي كموظف في الدولة والاقتراب من أوجاع المواطن في مناطق العمق الجزائري، كما ذكرت المختصّة في علم الاجتماع والأسرة وهيبة قواسمية من جامعة عنابة شرق الجزائر، لافتة إلى أن أنسنة القرارات السياسية خصوصًا ونحن نمرّ بأزمة صحية معقدة فهو الأمر المهمّ إذ لا يمكن أن نقترب من المواطن وفقط.

وتأسّفت الأستاذة قواسمية من الواقع الذي يعشيه الجزائريون عمومًا، إذ اننا نتعامل مع القضايا الأكثر أهميّة كأرقام وكضحايا، وهذا يبعِد عملية الاعتناء بالفرد كأهمّ حلقة في التنمية وجب اعطاؤه حقوقه وتسليمه الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر ترفع درجة التأهب تحسبًا للموجة الرابعة من فيروس كورونا

2700 مصاب بكورونا في المستشفيات الجزائرية