01-ديسمبر-2022
الحركى

(الصورة: Toute La Culture)

دعمت الحكومة في السنوات الماضية إنتاج عدة أفلام سينمائية تهتم بالتاريخ الجزائري في فترة الاستعمار الفرنسي والثورة التحريرية، لكن لم تلق هذه الأفلام الجديدة النجاح الذي حققته أفلام تاريخية سابقة من انتشار وجماهيرية كالأفيون والعصا ونجاح فني كوقائع سينين الجمر،وهو ما يطرح التساؤل حول أسباب عدم نجاح الإنتاجات الأخيرة، خاصة وأن الحكومة تعكف هذه السنة بمناسبة ستينية الاستقلال على تمويل أفلام جديدة أخرى.

يعتقد المخرج هشام بن شريف أن أحد أسباب تدنّي مستوى نجاح الأعمال التاريخية، هو انصِيَاع وخضوع المخرج لنظرة سلطة معينة تُجبرهُ على إعادة صياغة التاريخ

ورغم أن تطوير الصناعة السينمائية والاهتمام بالذاكرة شكلًا أحد أهم محاور برنامج الرئيس تبون في المجال الثقافي، إلا أن هذه الرعاية الرئاسية لم تترجم حتى اليوم ميدانيًا لتقدم للجمهور أفلامًا تشد أنظاره وانتباهه كما كان في السابق.

عدة إنتاجات

رغم قلة الإنتاج السينمائي الجزائري سنويًا مقارنة بما كان في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، وكذا مقارنة بما تنتجه دول أخرى، إلا أنه تظل عدد الأفلام التي تتناول تاريخ البلاد عديدة حتى وإن كانت ليست بالعدد الكافي.

وأنفقت الحكومة في السنوات الماضية من الخزينة العمومية عدة أموال لإنتاج أفلام تاريخية، ففي 2012، تم تخصيص ميزانية لوزارتي المجاهدين والثقافة لإنتاج عدة أفلام تؤرخ لقادة الثورة الجزائرية وتاريخها، فأنجزت  أفلام مصطفى بن بولعيد واحمد زبانة، والشيخ عبد الحميد بن باديس، وإنتاجات أخرى تجسد شخصيات كريم بلقاسم والعقيد لطفي والعربي بن مهيدي، والأمير عبد القادر وأحمد باي، وغيرهم من الأبطال الذين صنعوا التاريخ الجزائري، ولقنوا الاستعمار الفرنسي دروسًا في الحروب والنضال.

وتواصلت هذه السياسة الإنتاجية للأفلام التاريخية، كفيلم الملكة الأخيرة المنجز عام 2021، وهيليابوليس، وتمت برمجة إنتاج عدة أفلام هذا العام بمناسبة ستينية الاستقلال، مثل زيغود يوسف وسي الحواس وأحمد بوقرة.

ويتخوف أن تكون نوعية الأفلام التي انطلق تصويرها هذا العام كسابقاتها، إذ تم التركيز على البهرجة الإعلامية والكم دون النوع، إذ لم يحقق فيلم بن باديس نجاحًا باهرًا رغم تناوله سيرة شخصية تاريخية ذات جوانب معقدة ومتعددة تساعد في إخراج حقبة درامية رائعة، وكذا رضا بعض المتابعين لما قدمه المخرج السوري باسل الخطيب.

والأمر ينطبق أيضًا على  أفلام "أحمد زبانة" و"الملكة الأخيرة" و"هيليو بوليس"، رغم تقديم هذا الأخير ليكون ممثلًا عن الجزائر في الأفلام الأجنبية المرشحة لجوائز الأوسكار، واستحسان بعض المختصين لما جاء فيه باعتباره أول تجربة سينمائية للمخرج جعفر قاسم.

ويرجع المخرج هشام بن شريف في حديثة مع "الترا جزائر"، عدم تحقيق الأفلام التاريخية الجديدة نجاحًا كبيرًا، إلى أن المُتلقي الجزائري اليوم أصبح غيرَ مهتم أو غير مُقبِل على مشاهدة الإنتاجات التاريخية بسبب إخفاق غالبية هذه الأفلام في تقديم صورة تُجبِر المشاهد الجزائري على الثناء عليها.

وأضاف بن شريف أن "هذا المشاهد الذكي والمواكِب اليوم لأحدث وأضخم الإنتاجات الفنية عبر العالم، أصبح لا يقتنِع بسهولة بالفيلم، حتى وإن كان يحمل رسالة وطنية، بل أصبحَ لِزامًا على هؤلاء الصُّناع إشباع حاجته البصرية كما الحسيّة، وهذا الفشل النّوعي إن كان جديرًا تسميته كذلك، ارتبط بالحجم والكّم لدى المشاهد الذي أصبح لا يُكلّف نفسه الدخول لقاعة عرض أو حتى الاهتمام بآخِر أخبار هذه الإنتاجات،لأنّه أصبح أيضًا أحيانًا يُطلقُ أحكامًا مسبقة عن الأفلام التاريخية لكثرتها وعدم جودتِها للأسف".

أفلام خالدة

إلى اليوم لا تزال عدة أفلام تاريخية تلقى النجاح الجماهيري لدى عرضها حتى وإن شاهدها المتلقى عشرات المرات، وفي مقدمتها فيلم " الأفيون والعصا" لمخرجه أحمد راشدي، وبطولة سيد علي كويرات ورويشد وثلة من الممثلين الآخرين، فبعض العبارات الواردة في الفيلم لا تزال خالدة في مخيال الجزائريين وأحاديثهم  حتى منها على سبيل المثال  لا الحصر مشهد "علي موت واقف".

وبدوره لا يزال فيلم معركة الجزائر الذي أخرجه الإيطالي جيلو بونتيكورفو الذي يتناول الثورة الجزائرية في عاصمة البلاد، وبالخصوص في حي القصبة العتيق، يلقى متابعة من الجمهور الجزائري والعالمي.

ويصنف فيلم معركة الجزائر من طرف النقاد على أنه من أكثر الأفلام التي نقلت قصص النضال ضد الاستعمار، وصورت ممارسات العنصرية والتمييز التي يرتكبها الاحتلال.

وبالنظر إلى قيمته الفنية العالية، حاز فيلم "معركة الجزائر" الذي لعب فيه دور البطولة الممثل الجزائري إبراهيم حجاج جائزة الأسد الذهبي لمهرجان البندقية سنة 1966، وجائزة النّقد خلال مهرجان كان في السّنة ذاتها، كما ترشح لثلاثة جوائز أوسكار كأحسن فيلم وأحسن إخراج وأفضل سيناريو.

ويظل أبرز فيلم في التاريخ السينمائي الجزائري  هو "وقائع سنين الجمر" لمخرجه لخضر حمينة الذي جعله يتوج بالسعفة الذهبية لمهرجان كان الدولي.

وإضافة إلى هذه الأفلام الثلاثة، تظلّ إنتاجات سينمائية أخرى كالشيخ بوعمامة ودورية نحو الشرق وأبواب الصمت تلقى مشاهدات كبيرة من الجزائريين، وبالخصوص لما تتم إعادة عرضها خلال المناسبات التاريخية.

وأوضح المخرج هشام بن شريف أن هذه "الأفلام التاريخية تمكّنت من كسب الرّهان وتحوّلت إلى مراجع تاريخية، قيمتها بقيمة الكتب والدواوين التي وثّقت تاريخ الجزائر، وذلك راجع إلى عدة أسباب، منها الجانب العاطفي، فتاريخ إنتاجها قريب من تاريخ الاستقلال، وهو ما جعلها بمثابة احتفاء بنصر الجزائر بالثّورة، إضافة إلى إلمامِها بتفاصيل  كثيرة عن تلك الحقبة، وهو ما أصبح يُغفَل عنه في الإنتاجات التاريخية الحديثة".

أين الخلل؟

رغم الإخفاق الذي صاحب الانتاجات السينمائية الجديدة مقارنة بالأفلام السابقة، إلا أن بعضها حققت نجاحًا لافتًا، لكن أغلبها كان من توقيع مخرجين مغتربين، كفيلمي "الوهراني" للياس سالم و"الخارجون عن القانون" لرشيد بوشارب، حتى وإن اختلف تقييم  مضمون هذين الفيلمين من شخص لآخر، إلا أنهما حققا النجاح النقدي، فـ"الوهراني" توج بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان الفيلم المتوسطي ببروكسل سنة 2014، و"الخارجون عن القانون" شارك في مهرجان كان واستطاع أن يحدث جدلًا في فرنسا لتطرقه إلى جرائم الاستعمار الفرنسي.

ومن هنا يتضح أن المشكل في عدم نجاح أفلام تاريخية أخرى يتعلق بالأساس بالظروف التي يشتغل فيها المخرج أو سمح بأن يضع نفسها فيه، والمتعلقة بسيطرة النظرة السياسية على مضمون هذه الأفلام مما يقتل وجهة نظر المخرج وجنونه الفني، بالنظر إلى أن أغلب الأفلام التي لم تحقق نجاحًا اعتمدت في ميزانيتها بشكل كبير على الدعم العمومي.

ويعتقد المخرج هشام بن شريف أن " أحد أسباب تدنّي مستوى نجاح الأعمال التاريخية، هو انصِيَاع وخضوع المخرج لنظرة سلطة معينة تُجبرهُ على إعادة صياغة التاريخ سواءً من خلال طمس بعض المحطّات التي لا تخفى عن المشاهِد خاصّة المُتلقي النّخبَوي، أو كتابته هذا التاريخ بشكل مُغايِر للحقيقة،  ولاءً منه للجهة الممولة،حتى وإن كان  ذلك يصنف أنه إهمال للرسالة النبيلة للفن، ومُخاطرةً بنجاح العمل الذي يحصد عند عرض الفيلم آراء لاذعة من النّقاد أو نُفور المشاهِد، وهو ما يُقدِم لنا النظرة العامة عن الإنتاجات السينمائية التاريخية المنتجة حاليا".

وبالنسبة لهشام بن شريف، فإن الرقي بمستوى الأفلام التاريخية، يتطلب الإدراك الجيد برصيد المشاهد الحديث، وعدم إهمال أي جزءٍ من الصّورة الكاملة التي يتطلبها العمل الناجح، عبر الإلمام بكافة التفاصيل الظاهرة كالديكور، والضِمنية كبناء الشخصيات جيدًا والرجوع لحيثيات الحقبات التي عايَشتها.

يرى متابعون أن قلة صالات العرض تلعب دورًا بارزًا في عدم نجاح الأفلام المنتجة محليًا 

يضاف إلى كل هذه العوامل، حسب متتبعين، افتقار البلاد لقاعات عرض خاصة في العاصمة وفي المدن الكبرى، حيث يعتبرون أن نحاج أي فيلم، معلق بمبيعات شبّاك التذاكر، ولأن قاعات السينما قليلة جدًا وغير موجود في ولايات كثيرة، فإنه من الصعب الحديث عن نجاح أي فيلم وانتشاره جماهيريًا.