يتّفق كثيرون أن سنة 2019 كانت حافلة بالأحداث، إذ لم يغب شريط الأخبار العاجلة والهامّة عن شاشات القنوات التلفزيونية منذ انطلاق الحراك الشعبي في شبّاط/فيفري الماضي؛ حيث شهدت هذه الفترة، تغطيات مكثفة بتقنية البثّ المباشر للحراك ومحاكمة المسؤولين وخطاباتهم، وفتحت البلاتوهات أبوابها على البرامج التحليلية والنقاشية، حتى وإن غابت الموضوعية عن أغلب وسائل الإعلام، بممارستها التعتيم على صوت المعارضة والاصطفاف إلى جانب السلطة، خاصّة في الأشهر الأخيرة من السنة الجارية.
سمير بلبحري: الإعلام والسلطة وجهان لعملة واحدة، ولا يُمكن فصلهما عن مخرجات الوسائل الإعلامية
ثلاثة أشهر تقريبًا من الانفتاح على الشارع، ونقل مشاهد الملايين في المسيرات السلمية، وهي تجوب شوارع الجزائر صوتًا وصورة يومي الجمعة والثلاثاء. إذ أصبح اليومان مقدّسان لقطاع واسع من النّاس. وفجأة تجاهلت القنوات الحدث، وبات الشارع وحده يصرخ في مواقع التواصل الاجتماعي، واهتمّت القنوات التلفزيونية بخطابات المؤسّسة العسكرية وقرارات الحكومة، ما دفع بعض الإعلاميين إلى وضع أقلامهم جانبًا والاكتفاء بالتدوين عبر الفضاء الافتراضي. فما الذي جرى بالتحديد؟
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام الجزائري بعد الحراك.. خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف
السلطة والإعلام
في الإعلام يُمكننا أن نتحسّس أهميّة الحدث من خلال حجم تغطيته، وتناول مستجدّاته وزاوية معالجته. هنا، يقول سمير بلبحري أستاذ الإعلام بجامعة قسنطينة، إنّ الإعلام خلال فترة الحراك، أقدم على تناول أحداثٍ وتجاهُل أحداثٍ أخرى، مستخدمًا "تأطير الأخبار" وفق أجندة معيّنة تحدّدها المؤسّسة، أو تُفرض عليه من طرف رقابة عليا كما هو في الحالة الجزائرية، موضحًا في تصريح لـ "الترا جزائر"، أنّ "الإعلام والسلطة وجهان لعملة واحدة، ولا يُمكن فصلهما عن مخرجات الوسائل الإعلامية، حتى خُيّل لنا أنّنا أمام رئيس تحريرٍ واحد يُشرف على مختلف القنوات فقط".
عيون الجزائريين رأت، وأجسادهم شاركت في المسيرات الشعبية والمظاهرات، منذ بدء الحراك الشعبي في الـ22 شبّاط/ فيفري الماضي، بداية من الدعوات التي صدحت بـ"لا للخامسة". المسار لم يكن سهلًا ولا قصيرًا، كثيرون أكملوا المسيرة والمسار إلى يوم أقدم فيه الرئيس بوتفليقة، على لفظ ورقة استقالته وتنحّيه عن الحكم قبل يومين فقط من انتهاء ولايته الرئاسية الرابعة، وبعد 20 سنة من السلطة، أجهض معها حلم من دعوه في القاعة البيضاوية بالترشّح من المريدين، والمحبّين، والمتزلّفين، والمنتفعين من بقائه في واجهة الحكم، ليحكموا باسمه من وراء الستار.
هامش الحرّيات وقتها كان ضئيلًا، وشهد الجميع على حالة الارتباك التي عاشتها قاعات التحرير في القطاعين العمومي والخاص، وخرج كثير من الصحافيين لرفض التعتيم ورفض تزييف المطالب. وهكذا اتسعت الرؤية بحسب الإعلامية وهيبة مجدال من الإذاعة الوطنية، وهي تودّع سنوات الخبرة بتقاعد أرادته في نهاية خدمة الثلاثين سنة، بعد أن رفعت رفقة كثيرين من التلفزيون العمومي والإذاعة، شعار "خدمة عمومية موضوعية".
انغلاق إعلامي
يعتقد صحافيون من مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، في حديث إلى"الترا جزائر" أن "الحرّية تتّسع باتساع الرؤية. واتساع الرؤية لدى الصحافيين لا يعني أنها تُجاري ملّاك الوسيلة الإعلامية، فأيّة وسيلة إعلامية في النهاية هي مؤسّسة ربحية، تملك هامشًا من الحرية بحسب ملكيتها ومقدّراتها المالية، في مقابل مدى تحكّمها في استغلال وظائف الإعلام المعروفة عالميًا، والمعايير التي تفرضها مواثيق أخلاقيات المهنة.
من التجارب الإعلامية في الجزائر على مدار ثلاثين سنة، أي منذ الانفتاح السياسي والإعلامي تبعًا لقانون الإعلام 1990، لا أحد يمكنه أن يمنع مسؤولًا على وسيلة إعلامية، من أن يرجّح عائدات مؤسسته، على حساب معيار الموضوعية والحياد؛ وهما يتطلّبان الكشف عن الحقيقة بزوايا مختلفة، واستحضار الرأي والرأي الآخر، لكن نمط الملكية يُكبّل عمل الوسيلة الإعلامية، ما يدفع بالصحافيين المحترفين للبحث عن مخارج تحفظ للمهنة قداستها، والولوج إلى منافذ تمكّنهم من تقديم وجباتهم الإخبارية على طبق يكفل لهم المصداقية، التي إن ضاعت خسر الصّحافي جمهوره.
يتحدّث البعض من ممارسي المهنة في الجزائر عن "مكاسب الإعلام في الحراك الشعبي"، ويرون أنّه عرّى "القصور الظاهر في تغطية حدث غير متوقّع، علاوة على الأخطاء التي يُمكن أن يرتكبها الصحافيون والمؤسّسات على حدّ سواء، في معالجة مثل هذه الأحداث المرتبطة بمسؤولين في أعلى هرم السلطة". هنا، يذكر الإعلامي زهير بلعاليا في حديث إلى "الترا جزائر"، أن المؤسّسة الإعلامية في النهاية، تضمّ عشرات أرباب الأسر، و"تعيش بين مطرقة الرقيب في الأعلى، ومطرقة الشارع في الأسفل"، موضحًا بالقول إن سنة 2019 أعادت طرح سؤال: من هو الصحافي المحترف؟
التلفزيون ومواقع التواصل
مسألة الإعلام تعتبر مسألة جوهرية، تُطرح في مراحل الاحتجاجات الشعبية، ففي الحالة الجزائرية لهذا العام، ركزت أغلب المؤسّسات الإعلامية على رؤية الواقع من زاوية واحدة، بل وسمحت لنفسها أن تتهم الآخرين بالقصور، وبات النقاش المعروض مقتصرًا على جدلية "حب الوطن وخيانته".
هنا وجب استحضار مختلف المصطلحات التي وُلدت من رحم الحراك الشعبي، وتم توظيفها من قبل الإعلاميين أنفسهم، إذ عرف المشهد الإعلامي الجزائري أثناء تغطية الأحداث المفاجئة، ارتباكًا واضحًا على مستويين في رأي أستاذ الإعلام محمد فاتح حمدي، "أوّلهما الأداء المهني وأخلاقيات العمل الصحافي، وثانيهما مستوى تخطي الصحافيين حدود المهنة، والتعدّي على مهن أخرى ليست من اختصاصهم، بهدف اللهث وراء السبق الصحافي في التصوير ونقل المعلومات، من دون التأكّد منها والتدقيق في صحّتها، حتى ولو كان على حساب المشاعر الإنسانية".
من خلال ما سبق، يقرّ متخصّصون في حقل الإعلام والاتصال في الجزائر، بضرورة تحيين المقرّرات الجامعية لتدريس الإعلام وربطها بالواقع، من أجل تحسين الخدمة العمومية المقدمة للمواطن، إذ باتت دروس الإعلام منفصلة عن الواقع، وصلاحيتها لا تعدو أن تكون بين دفتي الكتب وبين جدران قاعات الدّروس في الجامعات الجزائرية، في مقابل الفراغ الذي استولت عليه وسائل التواصل الاجتماعي، في فترة الحراك الشعبي دون قانون ولا محاذير.
مستجدّات الحراك الشعبي، عرفت انتشار الكثير من الشائعات وتقاذف التهم بين الأطراف المتصارعة
مستجدّات الحراك الشعبي، عرفت انتشار الشائعات وتقاذف التهم بين الأطراف المتصارعة على السلطة، وتراشقًا يوميًّا في الفضاء الافتراضي بأنصاف الأفكار، بل استطاع موقع فيسبوك لوحده أن يُفرِج عن "ضغائن" دفينة في المجتمع، وهو ما يُحيلنا إلى التساؤل دومًا عن مكامن الحقيقة والخطأ، وإن كانت المشكلة هي أعمق بكثير مما نراه؛ حينما ارتبطت بتوظيف العناصر الجهوية والعرقية والدينية في مشكلات سياسية بتواطؤ إعلامي.
اقرأ/ي أيضًا:
نبض الإعلام الجزائري.. إن لم تكن معي فأنت ضدّي
وسائل إعلامية بعد الحراك.. "مات الملك، عاش الملك"