17-أبريل-2023
(الصورة: إيستوك)

(الصورة: إيستوك)

في شارع من شوارع حي الأبيار في قلب العاصمة الجزائرية،وبالتحديد بالقرب من وزارة العدل، حيث يصبح المكان موقعًا استراتيجيًا لمن يطالب بحقّه على أرصفة الطريق المؤدي إلى مقر الهيئة الرسمية، افترشت امرأة من ولاية البليدة غرب العاصمة الجزائرية الأرض، وكانت حاملًا في شهرها السادس برفقة ابنها وزوجها، تنتظر قدوم الوزير الأسبق أحمد أويحيى (فترة حكومة علي بن فليس 2002)، حتى توصل له انشغالها مباشرة بعد عملية الطرد التي تعرضت لها الأسرة، وقتها لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي مزدهرة الحضور والزخم كما هو متاح اليوم. 

في كثير من الأحيان تطرح بعض الميكروفونات مواضيع اجتماعية حساسة في الشوارع على عجل

صداع في الصحافة ..  

هذه القصّة التي مرّ عليها عقدان من الزمن تفاصيل كثيرة، كانت نهايتها أنه بعد أيام تمكّنت الأسرة من أخذ حقّها، بعدما تصدّرت قصّتها الصفحات الأخيرة في مختلف الجرائد الوطنية آنذاك وهي صفحة تعنى بالمواضيع المهمة، وكانت المرأة تتوقّع يوميًا أن يزورها صحفي ويأخذ أقوالها أو يصوّر حالتها، فطبيعي أن الرجل الأوّل في قطاع العدالة لا يروقه وضعها في الشارع أمام أعين الهيئات الدبلوماسية القريبة من مقر ّالوزارة، ولا يرضى أيضًا بأن تكون قضيّتها وجبة دسمة في مختلف الجرائد الوطنية لامرأة تطالب بحقها وتنتظر ردّ الوزير لإنصافها.

تلك المشاهد أو القصص الإنسانية التي يتذكّرها كثيرون في زمن حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وكثير سواها من المواضيع التي أخذت حيزًا مهمًا في الزمن الذهبي للصحافة الورقية، نالت قسطًا كبيرًا من المتابعة والنقاش في الشارع الجزائري، لكن في زمن السوشيل ميديا، نرى الكثير من الاستجوابات في الشارع، ومن قبل قنوات إعلامية مختلفة المنابر والخطّ التحريري، ليبزغ الطرح الإعلامي بشكلٍ مغاير من حيث طريقة تناول مثل هذه القضايا التي تدخل بيوت الجزائريين سواء عن طريق التلفزيون أو وسائط التواصل الاجتماعي.

نزهة في ساحة أودان

صنعت بعض القنوات الخاصّة في الجزائر الجدل على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب ما يطلق عليه البعض بـ"نبض الشارع" أو تحت مسمى "الشّعب يريد" أو "حديث مواطن"، وتكرر حضور بعض الأشخاص على هذه القنوات التي باتت تستغلهم للإثارة وزيادة المشاهدة، حتى صار كثير منهم عرضة للتنمّر عبر منصات الشبكات الاجتماعية.

في سياق آخر، يعتقد متابعون  أن استدراج المواطنين من خلال أسئلة معينة لجعلهم محلّ سخرية بإضافة بعض المؤثرات الصوتية ومقاطع "الميمز" أمر غير مهني، حيث باتت تتصيد هذه القنوات أشخاصًا معينين يجيبون بطريقة طريفة أو ملفة ليتم التركيز عليها وتداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وربما يعاد طرح أسئلة مشابهة في مختلف المواضيع المطروحة في الساحة الوطنية ومع الأشخاص ذاتهم.

إلى هنا، يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة سطيف عبد الزراق أمقران، إن الاستجواب أو استدراج المبحوث أو المعني بقضية ما لا يستلزم الضغط عليه، فبقدر ما يضغط الصحفي لاستدراج المعني- صاحب القضية- بقدر ما يُشغِّل الأخير ميكانيزمات دفاعية لديه تفاديًا للاستدراج.

المقابلة في نظر الأستاذ أمقران "ليست نُزهة"، أو مجرد طرح أسئلة وحتى في المقابلات الأكاديمية، وليست فرجة كما هو حاصل في الإعلام اليوم، بل يعتقد في إفادة لـ" الترا جزائر" بأنها "فخّ" يقع فيه الصحفي أو المستجوِب، خصوصًا إذا ذهب إلى الميدان من دون عدة ولا عتاد، طبعًا "عتاد علمي ومعرفي بالميدان الذي يسبح في فلكه".

ابن البيئة

يبدو الأمر سهلًا في وقت باتت تتحكم التكنولوجيا في مُخرجات الإعلام، لكن في المقابل كلما كان الأمر بالسهولة التي يعتقدها الصحفي إلا أنه في المقابل يكون من الصعب التأثير على المتلقي، أو بالأحرى التمكُّن من استجواب أيّ مواطن أو أي شخص من دون فكرة مسبقة.

هذا الطرح كثيرًا ما يعترض الصحافيين أثناء قيامهم بالمقابلات الميدانية، فعينة الموضوع إن كانت تضم مسؤولين عن قطاع ما أو لديهم علاقة بأحد زوايا المادة المراد تحريرها أو تصويرها تحتاج معرفة الصحفي بها أولًا، لأن الأشخاص المستجوبين لديهم خلفيات اجتماعية مختلفة ومتعدّدة أيضًا.

من جهتها، تعتقد أستاذة الإعلام نصيرة صبيات بأن الإعلام الحقيقي من يضع أمام عينه فكرة عريضة بعنوان:" المواطن ابن بيئته"، وبمعنى أدقّ لا يمكن أن يجرد الصحفي أي مواطن يراد استجوابه من بيئته التي يقطن فيها ويعيش فيها أو البيئة التي تربى فيها أيضًا، فهو يعرفها في غالب الأحيان أكثر من الصحفي، في حدّ ذاته.

في الغالب لا ينقل الإعلام الأحداث من خلال التحري عن زوايا مختلفة لحقيقة الحدث، ومن الفاعلين فيه وخلفياته أيضًا، وتعتقد الأستاذة صبيات بوجود "انحرافات في ممارسة الإعلام في الجزائر"، لافتة إلى أن الصحفي ابن البيئة التي يشتغل فيها، وعليه أيضًا أن يكون متشبعًا بثقافتها وبعاداتها وتقاليدها، وهو ما تسميه محدثة "الترا جزائر" بالانفصال عن الواقع بمجرد تقديم الميكروفون للمواطن". 

ما يطلبه الآخر..

يتحدث العديد من طلبة الإعلام عن "انحرافات الممارسة الإعلامية"، معتبرين ذلك مجحفًا في حق السلطة الرابعة، على حد تعبير زهر الدين ملفي، وهو طالب سنة ثانية ماستر إذاعة وتلفزيون بـ"جامعة الجزائر 3"، معتبرًا أن الاستجوابات في الشارع عبر بعض القنوات التلفزيونية الخاصة أصبحت " تخدش الحياء وسط العائلة الجزائرية"، مشيرًا إلى ضرورة الاطلاع على القيم الاجتماعية التي تتأصل في العائلة أولًا، والتي بدورها" لا يمكن تجاوزها بثواني ودقائق في ميكروفون" حدّ تعبيره. 

يصف البعض هذه البيئة بـ" الحمولة الاجتماعية والثقافية"، فأبطالها من مواطنين هم أبناء هذه البيئة التي لا يمكن الاستغناء عن معرفتها أو طمسها بقيم أخرى مستوردة باسم التكنولوجيا والعالم المفتوح بفضل شبكات افتراضية.

 نبض المهنة

في كثير من الأحيان تطرح بعض الميكروفونات مواضيع اجتماعية حساسة في الشوارع على عجل، وربما غالبًا ما يستقطب الإعلامي المتحدثين فقط لإتمام المهمة، ولكن هناك من لا يأبهون لما تبثه هذه القنوات، بل يرون في الصحافيين مجرد فضوليين وجب تغذيتهم بأي شيء، فنبض الشارع لا يمكن القياس عليه، أو أخذه على محمل الجدّ، وربما يرى في الإعلامي بأنه نسخة مختلفة عمّا يعيشه هو، لهذا ينمق التصريحات أو يقول ما ليس واقع أو حاصل أو القريب من الحقيقة.

تتطلّب الاستجوابات على قارعة الطرقات تحديد فئات مختلفة للتقصّي، وهو ما تهمله بعض الموضوعات الاجتماعية خصوصًا

تتطلّب الاستجوابات على قارعة الطرقات تحديد فئات مختلفة للتقصّي، وهو ما تهمله بعض الموضوعات الاجتماعية خصوصًا، مما أدخل بعضها الشك والريبة خاصة إن تعلقت بعلاقات حساسة في الأسرة، وبعيدًا عن عين الرقابة في قاعات التحرير، فالوزن الثقيل لهذه الوسائل الإعلامية جعلها في تصاعد من حيث مستوى الخطورة من تسريب بعض الظواهر الاجتماعية النفسية عبر الشاشات أو عبر شبكات اجتماعية تنذر بأنها سلعة إعلامية "غير آمنة" وتشكّل خطرًا على عقل الجمهور.