17-أغسطس-2022

(الصورة: كلية الآداب واللغات بجامعة الجزائر2)

كثيرًا ما يُقاس النّجاح في الجزائر بالشّهادات العليا، ما يبرّر إيلاء الأسر شهادة الباكالوريا الكثير من الاهتمام طوال السنة الدراسية، واستثمار الكثير من المال من أجل استفادة أبناءهم من الدّروس الخصوصية، ثم طريقة الاحتفالات التي تصنعها العائلات عقب اعلان نتائج النهائية، ما يجعل الباكالوريا في الجزائر مصدر فرحة العائلات دون أن تكون لها منافسة من أية شهادات أخرى في ميدان النجاح.

عبد الله زلاقي لـ" الترا جزائر" : بعض أولياء الأمور يرغبون في تحقيق أحلامهم من خلال أبنائهم الناجحين في البكالوريا

تتطلّع العديد من الأسر لأن يشغل أبناؤها مناصب عليا،وأن يمتهن أغلبهم أحسن المهن مردودًا ووجاهة، إذ باتت شهادة البكالوريا مشهدًا من مشاهد البروز والظهور والافتخار، إذ يتطلعون من ورائها أن يصبح الناجحون مستقبلًا أطباء أو مهندسين أو محامين أو جراحي أسنان وغيرها من المهن التي تحمل بين أطرافها الكثير من الهمة والمال وتجلب الافتخار دومًا.

شاءت الأقدار أن تعيش كريمة شاوش (28 سنة) من منطقة شرشال غربي العاصمة الجزائرية أن تتحصل على الباكالوريا علوم الطبيعة والحياة بعد تكرار التجربة لثلاث مرات، غير أنها أذعنت لقرار والديها اللذين رفضًا أن تدخل ابنتهما للجامعة بل فرضًا عليها أن تتوجه إلى المدرسة العليا للأساتذة تخصص تاريخ وجغرافيا أملًا في أن تحصل على وظيفة أستاذة في الثانوي وتتخلص من أعباء البطالة، خاصة وأن هذه المدرسة تضمن للمتخرج منها الحصول على وظيفة مباشرة بعد التخرج لمدة خمس سنوات.

تقول كريمة لـ" الترا جزائر"، لطالما حلمت أن أشتغل في مختبر طبي أو أكون طبيبة لكن قرار الوالدين كان عائقًا أمامي، خصوصًا وأنني من منطقة ريفية لا ترضى بعمل البنات سوى في التدريس كأهم توجه للفتيات في منطقتها".

لا تختلف قصة كريمة مع العشرات بل المئات والآلاف من البنات في المدن الجزائرية، إذ كشفت نادية بلحيمر (45 سنة) من منطقةوادي جرّ بأعالي البليدة غرب العاصمة الجزائرية، أن أخوتها الذكور اعترضوا على إكمال دراستها في الجامعة، وبعد مضي السنوات، اشتغلت في مديرية الشّباب والرياضة بعد أن عادت للدراسة عن طريق المراسلة (عن بعد) ونجحت في الحصول على شهادة الباكالوريا لتعود لمقاعد الدراسة من جديد ولكن في تخصص ليسانس حقوق على أمل أن تتوجّه للتدريس إرضاء لأهلها،رغم أنها مولعة بالقانون.

تتراوح الأسباب بين توجه الكثيرين إلى تخصصات ترمي إدخال الفرحة على قلوب الآباء، إذ كشف وليد لمجد من منطقة  أولاد رشاش بولاية خنشلة شرق الجزائر، أنه بعد نجاحه في شهادة الباكالوريا، ظلّ يراوده حلم التجارة بينما أرادت له الوالدة أن يكون طبيبًا ولِم لا جراحًا رغم صعوبة هذا التخصص حسبه.

وأكد لمجد لـ" الترا جزائر" أن هذا الخيار بات صعبًا خصوصًا في عائلة تنظر للطبيب أنه الأحسن كتخصص والمهندس أيضًا، بينما حلمه هو ريادة الأعمال والتجارة.

التفرّد أزمة

حتّى وإن سلّمنا طقوس الفرحة لدى الجزائريين بنجاح أبنائهم في شهادة الباكالوريا المتنوعة والتي تأخذ في بعض الأحيان، ما يطلق عليه البعض بـ "مشهدية اللّحظة"، فالمظاهر تفرض على الطالب الجامعي أن يكون شبيهًا لمحيطه ولما تنتظره العائلة، بل محكوم بمجموعة من العادات التي تحوّلت إلى قناعات وصارت مسلّمات كأنّها قوانين تنظر للآخر مجرّد ما يظهره ويتوائم مع المجموعة وليس ما يطمح إليه.

ما ينجزه الكثيرون في الجزائر وينظر إليه المجتمع بأنه نجاح، هو ما يرضي المجموعة بداية من إرضاء الوالدين ثم العائلة ثم المحيط ثم المجتمع وليس الفرد في حدّ ذاته ولذاته، إذ قالت أستاذة علم الاجتماع سمية بوناب من جامعة قسنطينة في حديثها لـ" الترا جزائر" على أن مفهوم النجاح عمومًا تفرضه العائلة وتقاليد المحيط والمجتمع عمومًا، دون مراعاة لقدرات الفرد ومواهبه وميولاته التي ستتحول مع مرور الزمن إلى إبداع خارق.

وشرحت الأستاذة بوناب ذلك بقولها: "لقد سيطرت نظرة الكثيرين للنجاح على مستوى الشهادات العليا وعلى التوجّه نحو اختصاصات محدّدة"، إذ تفشّت ظاهرة نظرة الأم والأب إلى رغبتهما وليس رغبة أبنائها، بل "هناك وازع داخلي بأن يحقق الابن وأن تحقق البنت ما لم يتمكّن إحداهما على تحقيقه، بل حتى وإن كانت هذه الاختيارات بعيدة كلّ البعد عن شغف الأبناء ولا تناسبهم أصلًا".

وواصلت بأنّ "العديد من الفائزين بشهادة الباكالوريا يتحسرون فور عدم قبولهم في التخصصات التي يريدها الآباء وتتسبب لهم نكسة في عدم تحقيق تلك الأمنية-الحلم"

السؤال الأكثر إلحاحًا والذي طرحه الكثيرون، هل ما أنشأته منظومة المجتمع الجزائري من كمّ هائل من الأطباء والمهندسين والأساتذة وأصحاب الشهادات العليا هم ناجحون بالضرورة؟

يتحدّث الخبير في الاقتصادي عبد الله زلاقي لـ"الترا جزائر" عن هذا الأمر بقوله: "بعض أولياء الأمور يريدون تحقيق أحلامهم من خلال أولادهم، وبمعايير متعارف عليها في المجتمع حسب التخصص والمهنة في مقاربة يراها "خاطئة ومجحفة في حقّ الأبناء، رغم أنه من الضروري الإرشاد والنصيحة وليس إرغامهم على تخصصات بعيدة عن ميولاتهم".

ينظر البعض إلى الرّؤية السّالفة الذّكر، على أنها طرح منطقي من حيث ارتياح الأبناء في أخذ قرار بخصوص مستقبلهم وما يحدث لهم التوازن النفسي والذهني، غير أن كثيرين يخالفون هذا الطرح من بوابة الخوف على مستقبل أبنائهم وعدم الاقتناع بحرية اختيار التخصص من مراهق في سنّ الـ17 مثلًا.

وضع اليد على الجُرح

الواقع يحتم على الطلاب سلك منهج الوصول الى وظيفة بغض النظر عن الميولات والرغبات، كما لفتت السيدة حياة بوسعدية من منطقة العنصر بولاية جيجل شرق الجزائر، أن التطرق لهذه المسألة كمن يضع اليد على الجرح، لافتة إلى أنه من الناحية العملية هناك تخصصات لا مستقبل لها للأسف.

فيما لفتت إلى أنه لو توجه الطلبة لدراسة ما يريدون تحقيقه من خلال التخصّصات التي أرسلوا إليها، لبرعوا فيه، حيث يركض الأغلبية خلف الاختصاص الأكثر قبولًا من المجتمع ويدر المال أيضًا.

لهذا الأمر خلفية تاريخية عاشتها الأسر الجزائرية، إذ ارتبطت بسياق سياسي واجتماعي عاشه الجزائريون فترة الاستعمار الفرنسي شهدت عمليات إجرامية في حق الشعب، منها حرمانه من التعليم، وذلك ما شكل تصورًا لدى غالبية الجزائريين بعد الاستقلال بأنه لا نجاح دون شهادة عليا، حسب المحللة النفسانية وهيبة سلامي، موضحة أن ذلك "من مسببات جعل الشهادة منجز دراسي للمجتمع وليس للفرد".

يسجل كثير من الناجحين في البكالوريا في تخصصات لا يرغبون فيها إرضاء لأهلهم 

وخلال هذه العقود من الزمن عقب حقبة الاستعمار، بات الفرد يستهدف النجاح بشهادة عليا لإرضاء الأهل والمجتمع والنجاح بالنّسبة له جماعيًا، ويصل الأمر  إلى حد أن يتماهى الناجح مع ما يفرضه الأهل والمجتمع من واجبات من ناحية اختيار ما يتعلّمه وتسطير مستقبله، وهو ما يجعله غير منسجم مع قدراته الذهنية والمكتسبة أيضًا".