لازالت بعض العائلات الجزائرية تتعتبر شهادة الباكالوريا معيارًا للتفوق والنجاح والمكانة الاجتماعية، وأن الرّسوب في افتكاكها " كابوس وأزمة" يلاحق كثيرين لمدة طويلة، بينما يُقدّر البعض أن ذلك لا يمثّل الفوز في الحياة ولا الفشل أيضا، بل هناك من يربط النجاح بالشهادة الدراسية لا غير، وبذلك قد يفوّت على الشاب المراهق سنين من اكتشاف موهبته وقدراته الكامنة ورغباته، بمجرد أن أخفق في اجتياز امتحان.
تعتبر عائلات كثيرة شهادة البكالوريا مظهرًا من مظاهر توفيق الوالدين لإيصال أبنائهم إلى مقاعد الجامعات
قبل أزيد من 16 سنة نجح عز الدين زهاني (34 سنة) من منطقة درقانة شرق العاصمة الجزائرية بينما رسب شقيقه الأصغر منه في الشهادة، فتوجه الأول وليد إلى إتمام دراساته العليا ونال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية وهو لحدّ الآن دون وظيفة، بينما شقيقه توجه للتكوين المهني وتعلم حرفة "ترصيص أنابيب الغاز والمياه" وفتح مشروعًا بسيطًا رفقة أحد جيرانه، ليتفوّق في مهنته وبات يجني المال وصار له مدخول محترم خصوصًا وأن صناعة يديه لاقت رواجًا كبيرًا وجذبت الطلب من مختلف المناطق وحتّى الولايات.
يقول الدكتور عز الدين إن "النجاح في الباكالوريا، ليس معناه النجاح في الحياة، والفشل كذلك في الباكالوريا ليس معناه الفشل في الحياة"، فمنذ سنة 2016، ولحدّ اللحظة لا زال بطالًا ينتظر دوره في طابور مسابقات التوظيف سواءً في المؤسسات الحكومية أو الجامعات، إذ ينظر محدّث " الترا جزائر" للشّهادة التعليمية بأنها ليست كلّ شيء وأن الرّسوب ليس نهاية العالم.
هي عيّنة واحدة من بين الآلاف من الدكاترة البطالين وحملة الشهادات العليا في مختلف التخصصات، إذ اعتبر البعض أن الباكالوريا والعلم ضرورة وله قيمته مهما كان سوق الشغل لا يحتمل آلاف الطلبات للمتخرّجين من الجامعات، فيما عبّر الكثيرون عن حالة اليأس بعد التخرّج، إذ قالت كريمة سوداني (29 سنة) متخرّجة من كلية الصيدلة بأنها أضاعت السنين في الدراسة بينما الحصول على رخصة فتح صيدلية يحتاج سنين أخرى وقاعدة مالية ضخمة، فضلا عن شروط إدارية لا حصر لها.
استثمار العائلة
تنظر عائلات كثيرة في المجتمع الجزائري للراسبين بنظرة سلبية، بل وترى في الباكالوريا مظهرًا من مظاهر توفيق الوالدين لإيصال أبنائهم إلى مقاعد الجامعات، وهي الأهم من أي شيء آخر، إذ تستثمر الأسر في تخصيص مبالغ مالية كبيرة لأجل دروس الدعم والدروس الخصوصية لتحسين مستوى أبنائها وضمان نجاحهم في شهادة الباكالوريا.
ويخصص الكثيرين من الآباء جزءًا مهمًا من أجرتهم الشهرية ليدفعوها كمقابل على دروس أبناءهم، مثلما ذكرت نعيمة سراي وهي إحدى أولياء التلاميذ كيف استثمرت لأجل رفع مستوى أبنائها الثلاثة في دراستهم، فبالنسبة لها "نجاحهم في الدراسة هو كلّ شيء، وفشلهم فيها هو فشل للآباء بالدرجة الأولى".
الجامعة ليست كل شيء؟
يعتقد البعض أن النجاح هو اجتياز مرحلة الباكالوريا واختيار تخصص في إحدى الجامعات يرضي الجميع، دون الالتفات إلى رغبات الأبناء، إذ أكدت السيدة سراي لـ" الترا جزائر" أنه لطالما انتظرت نجاح ابنتها الكبرى وبمعدل يؤهلها لولوج كلية الطب، وهو حلم الأم التي لم تتمكن من هذا التخصص قبل 30 سنة من الآن".
ما كان لافتًا في هذا الإطار، أن التعليم مهمّ والجميع يشجّع عليه ويحفز التلاميذ على نيله في مختلف المستويات التكوينية، ولكن هناك طرح آخر يرى أن النجاح ليس حليف كل من دخل المدارس عليه أن يلج الجامعات والمدارس العليا، إذ أكد عضو نقابة أساتذة الثانويات (مستقلة) عبد الكريم بوعون لـ"الترا جزائر" أن العائلة الجزائرية لا زالت تنظر إلى معيار النجاح من حيث نيل الشهادات العليا وخاصة الباكالوريا وما دون ذلك فهو فشلًا.
واقترح الأستاذ بوعون أن يقترب الآباء من أبنائهم ويجرون حوارات معهم ويسألونهم عن نظرتهم للنجاح، وعن أحلامهم وطموحاتهم، وأيضًا قدوتهم في الحياة، مشيرًا إلى أنه سبق له وأن درّس ثلاثة تلاميذ في نهاية سنة 2010، غير أنهم فشلوا في نيل الباكالوريا وكانت أحلامهم موزعة ما بين مدرب لياقة بدنية والتجارة، وبالفعل كلا الثلاثة تمكنوا من تحقيق أحلامهم بل أكثر من ذلك، فواحد منهم صار يقدم دروس وعي في التربية البدنية والغذائية ويتم استدعاؤه من مختلف القنوات التلفزيونية ويشرف على تدريب الأطفال في المدارس في العطل الصيفية.
الاحتفاء بالناجحين
بالأرقام، أحصت الجزائر قبل أيام نسبة 41,25 بالمائة من الراسبين في امتحانات الباكالوريا رغم اعتماد معدل 9,5 من عشرين لنيل الشهادة، إذ ما يلفت الانتباه هاهنا أن وزارة التربية الجزائرية لم تول اهتماما بأرقام الرّاسبين ومصيرهم خاصة وأنها تعتمد عملية الإنقاذ لمن تحصلوا على معدلات قريبة من المعدل المحدد فضلًا عن قرار تمكين الكثيرين من إعادة السنة بينما يتمّ طرد كلّ من كرر العام لثالث مرة، وهو ما يعني توجههم إما لمراكز التّكوين المهني أو البحث عن عمل في عالم الشّغل.
الرّسوب كظاهرة عامة متلازمة لكل نظام تربوي، ولا تعني الأرقام التي تنشرها الحكومة لعدد الناجين، نجاعة المنظومة التعليمية برمتها سواء على المستوى الدراسي الابتدائي والثانوي وحتى في المستوى الجامعي، إذ كشفت الباحثة في العلوم التربوية وهيبة غدير من جامعة بوزريعة بالعاصمة الجزائرية، أن عدد الراسبين يعتبر مؤشّر لأسباب اجتماعية واقتصادية بحتة بينما من الضروري متابعة التلميذ منذ أولى سنواته بالمدرسة حتى يتمّ توجيهه التوجيه الصحيح سواء لمواصلة الدراسة أو التكوين في مجال الحرف.
وخاضت الجزائر تجربة تمكين الآلاف من الراسبين ومن المتسربين من المدارس من الولوج إلى مراكز التكوين المهني، والتمهين لتعلم حرف كثير ما يحتاجها المجتمع وسوق الحرف والشغل أيضًا.
الاحتفاء بالناجحين سمة غالبة في مجتمعنا، في حين نتجاهل الراسبين في مشوارهم الدراسي خاصة الإخفاق في السنة النهائية بالثانوية، وهو ما يترك اختلالات في نفوس الراسبين، بحسب أساتذة علم الاجتماع سكينة بوصبع من جامعة جيجل شرق الجزائر مشددة على أن الإخفاق في المدرسة ليس معضلة أو أزمة، إذ لازلت العائلات متشبّثة بفكرة الحصول على الشهادة ولا غير، بينما النجاح فهو أكبر.
سكينة بوصبع: الراسبون في شهادة البكالوريا يمكنهم النجاح في مهن أخرى يحتاجها المجتمع ولا توجد في تخصصات الجامعات
وقالت لـ" الترا جزائر" أن " ضياع سنة أو سنتين لا يساوي شيئًا في مِشوار شباب يمكن أن يكتب لهم النجاح في مهن أخرى، قد تكون من جملة الحرف الحرّة التي يحتاجها المجتمع أو دراسات تقنية لا يوجد بديل عنها حتى في الجامعات".