في حالة الباحث الجزائري سعيد جاب الخير، يصعب تحديد رؤية واضحة عن موقفه من شعيرة الصيام، حيث قال في حصة تلفازية إنّ الصوم ليس إجباريا، بدليل أنّ الصحابة، في عهد الرسول كان بعضهم لا يصوم، بل كانوا يكتفون بدفع الجزية.
هناك موضوعات تحتاج إلى أن يتم تداولها في سياقات أخرى غير حصة إعلامية سطحية، وُجدت أصلًا للاستهلاك الإعلامي السريع
موقف كهذا، أثار مشاعر الكثير من الجزائريين، الذين عبّروا على منصات التواصل الاجتماعي عن غضبهم مما وصفوه بالاعتداء على أحد أركان الدين الإسلامي. وقد بلغت الحمية بالبعض إلى نشر منشورات تحرّض على الاعتداء على الباحث!
اقرأ/ي أيضًا: حصّة تلفزيونية جزائرية انتقدت "المقدّسات" تثير جدلًا
ما الذي يُمكن استخلاصه من هذه الحادثة؟
أوّلًا: حادثة سعيد جاب الخير ليست جديدة، فقد سبقتها حوادث أخرى، لعل من أشهرها الفتوى التي أصدرها أحد مشايخ السلفية في الجزائر ضد الروائي كمال داود، بسبب تصريحاته المعادية للإسلام وللغة العربية، على خلفية صدور روايته المثيرة "ميرسو تحقيق مضاد".
وحينها حدث انقسام في الرأي العام، بين من دعّم موقف الشيخ السلفي، ولو بطريقة غير مباشرة، خاصة من حرّاس المعابد والمقدسات، وبين من وقف مع الروائي، معتبرين الفتوى دعوة إلى القتل، وإرجاع الجزائر إلى سنوات العشرية السوداء، حيث كانت آلة الموت تحصد أرواح المآت من المثقفين.
وهناك أيضًا حادثة الروائي أمين الزاوي، بسبب مقال كتبه عن علاقة الجزائري بفضاء المدينة، وقدّم في مقاله إشارات إلى المظاهر السلبية للتدينّ عند الجزائريين. وبسبب هذا المقال تعرّض صاحب رواية "يصحو الحرير" لحملة شرسة بلغت درجة الدعوة إلى إهدار دمه.
ثانيًا: هل يقبل الجزائري الاختلاف في الرأي؟ فمثل هذه الوقائع، لا يمكن قراءتها كحوادث معزولة، لأنّها في واقع الأمر تكشف عن حقيقة ثقافة الجزائري التي مازالت لم تتربّ على قبول الآراء المختلفة.
بل إنّ مبدأ النقاش والجدل يكاد يكون غائبًا حتى بين أوساط النخب نفسها، فقد لاحظنا أنّ الكثير من الذين رفضوا موقف سعيد جاب الخير لم يبنوا مواقفهم على النقض بالحجة والدليل، بل التجأوا إلى إصدار الأحكام القاسية ومحاكمة الباحث.
ثالثًا: اختيار الباحث للموضوعات والتوقيت هو ما زاد من منسوب الغضب الجماهيري، فهناك موضوعات تحتاج إلى أن يتم تداولها في سياقات أخرى غير حصة إعلامية سطحية، وُجدت أصلًا للاستهلاك الإعلامي السريع، فبعض القضايا يجب أن تخضع لاختيار السياق والمتلقي حتى لا تتحول إلى مصدر لسوء الفهم، وبذلك تساهم في جرح العصاب الاجتماعي بسبب مواقف تمس في المقدسات. أتصوّر أنّ الخطأ الذي وقع فيه سعيد جاب الخير هو اختياره للقناة وللتوقيت، أي شهر رمضان.
رابعًا: ليس هناك تصور واضح لوظيفة النقد الديني، ولا حتى معرفة الهدف منه، خاصة في بيئة معادية للفكر النقدي، ومازالت هذه البيئة إلى اليوم تعيش تحت سلطة الفكر الأحادي، وتحت سلطة التقاليد الفكرية. هل الغاية من طرح هذه المسائل هي تجديد العقل أم تعطيل المظاهر الدينية في المجتمع؟
إننا أمام مؤشرات لابد من قراءتها بحذر شديد، خاصة في سياق الحراك الشعبي الذي لابد أن يأتي يوم ويجد نفسه في مواجهة الأسئلة الحقيقية: أي جزائر جديدة يبحث عنها الجزائريون: علمانية، دينية، فدرالية؟ وهل الانتقال الديموقراطي يأتي فقط عبر الصندوق أم أنه مسار من التحولات العميقة التي تمسّ بنية العقل ككل، بحيث يكون قادرًا على إعادة هندسة الفضاء العمومي في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية؟
لا يمكن أن ننكر بأنّ العقل اللاهوتي مازال متغولًا في لاوعي الجزائريين، وأنّ الانتفاح على أفق علماني وحداثي وديموقراطي، هو العملية الأصعب التي تنتظر الحراك.
لقد اعتقدنا بأنّ من شأن هذا الحراك أن يطهّر الجزائريين من فائض الانفعالات التي تغذيها التيارات الأصولية سواء في شقها الديني او في شقها العلماني، إلاّ أنّ الوقائع تقول بأنّ الحراك، على العكس من ذلك، قد أخرج المكبوت الجمعي، بخصوص قضايا ملغمة مثل الهوية، والدين، والنموذج السياسي الذي لم يطرح بعد لطاولة النقاش. وهذا يدلّ على أنّ الفترات السابقة كان لها تأثيرا مدمرا على بنية العقل الجزائري، فتمكّن النظام السياسي من تدجينه وتخديره، وكثيرا ما يحدث ذلك باسم الدين.
ما زال العقل اللاهوتي متغولًا في لا وعي الجزائريين، والانفتاح على أفق علماني وحداثي هو العملية الأصعب التي تنتظر الحراك
لا يجب أن ننسى أن الفضائيات الجزائرية ساهمت بشكل كبير في قتل روح الناقد واستبدالها بشخصية الفقيه الذي يملك مفاتيح الحقيقة، وإليه فقط ترجع الحقائق النهائية والمُطلقة. فأن تخصص قناة تلفازية حصصا لراقي يكشف فيه عبر سلسلة من الحلقات مغامراته مع جنيته العاشقة، فهذا كاف ليكشف عن الوضع الخطير الذي آل إليه الوعي في الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: