21-يناير-2024
1

ينهمك الباحثون عن الذهب عند عتبات متاجر الصناع الأثرياء

لايزال بعض الأطفال والمراهقين يعافرون، الكنس، ليلًا، عند عتبات محلات الذهب التي تمتلئ بها مدينة باتنة شرق الجزائر، والتي تحصي عبر أقاليمها  أكثر من 2000 ورشة، ما يجعلها كارتلًا حقيقيًا بالتخصص التاريخي في هذه الصنعة البرّاقة.

قد يبدو الأمر مريبًا وسخيفًا، لأنك لا تعرف إمبراطورية الباحثين عن الذهب، التي ولدت هنا، عند عتبات متاجر صناع الذهب الأثرياء، وصنعت أغنياء من الصفر، لا بل من العدم الواقع تحت خط الصفر

لا يفعل شبانٌ يحملون في العادة مكنسة وكيسا ومِغرفة صغيرة ونقالة، ذلك بداعي التنظيف، فهم ليسوا عمال بلدية، بل منقبون يحلمون بالثروة.

قد يبدو الأمر مريبًا وسخيفًا، لأنك لا تعرف إمبراطورية الباحثين عن الذهب، التي ولدت هنا، عند عتبات متاجر صناع الذهب الأثرياء، وصنعت أغنياء من الصفر، لا بل من العدم الواقع تحت خط الصفر.

وحقا فإنها ملحمة جديرة بالروايات والأفلام السينمائية، ذلك أن فكرتها ولدت في زنزانة سجين كان يقتل الفراغ بمشاهدة أفلام الوسترن الأمريكية المليئة بحكايا البحث عن وديان الذهب وكنوز جبل الألدورادو.

من كنس الثرى إلى سماء الثريا

إبراهيم. ح، المكنى " شينبا" واحد من الذين بدأوا هذه الحرفة، وصنعوا ثروة طارت بهم، خلال سنوات قليلة، من الثرى إلى الثريا. يقول لـ"الترا جزائر:" قبل عقود كنت مثلهم، لا أنسى أبدا، أني تلقيت ركلة في مؤخرتي من مجوهراتي ظن أني لص يتظاهر بالكنس عند عتبة محله للسطو على أغراضه. لم أكن سارقا بل واحد من الباحثين عن فتات المال المختبئ في غبار و "زبلة"الصُيَّاغ".

وحذار فإن لفظة "الزبلة" هنا، لا تعني الزبالة بمعنى النفاية أو القمامة، بل لنقل هي نفاية الذهب الثمينة التي تضيع خلال عمليات التقطيع والتليين والتمليس والتلحيم.

 في العادة يضيّع كل صانع ذهب أعشارا من كل قطعة سواء عبر الهواء أو بالالتصاق بالزجاج والطاولات والكراسي، وذلك النثار الذهبي الذي سيصبح زغبا وترابا يمكن اعتباره بالنسبة لكل صائغي، مثل النشارة بالنسبة للنجار مع فارق أن فتائل الخشب مرئية، أما دقاق الذهب فلا يرى بالعين المجردة، لذا وجب اصطياده واستخلاصه كالشعرة من العجينة.

1

وتلك الأعشار أو الشذرات يطرحها أرباب المحلات كل مساء خلال التنظيف اليومي، أو تحملها نعال الزبائن نحو العتبات، لذا يوضح "فهد ب"، أحد ممارسي المهنة منذ ثلاثين سنة، بقوله: " من هنا تبدأ ملحمتنا اليومية إذ نقوم بالتقاط تلك الأتربة وتصفيتها، فلا شيء يضيع في الطبيعة بل يتحول مثلما تقول نظرية الكيميائي الشهير لافوازييه. نظفت زبلة مجوهراتي بما فيه مسح طاولاته وأدواته مقابل 30 مليون سنتيم، استخلصت منها 100 مليون سنتيم. نحن نعتقد أن الرزق فكرة لا قوة. ومن ظن أن الرزق يأتي بقوة، ما أكل العصفور شيئا مع النسر، كما يقول الإمام الشافعي".

في العادة يضيّع كل صانع ذهب أعشارا من كل قطعة سواء عبر الهواء أو بالالتصاق بالزجاج والطاولات والكراسي، وذلك النثار الذهبي الذي سيصبح زغبا وترابا يمكن اعتباره بالنسبة لكل صائغي، مثل النشارة بالنسبة للنجار

إبراهيم، فهد، الروجي، عبد القادر اللانغو، لا يقولون هذا اعتباطا، لقد حول فتات نسور الذهب العديد منهم إلى ديناصورات، وفي أسوءها إلى أصحاب دخل قار ومحترم، أسسوا به بيوت وتزوجوا وأنجبوا وملكوا سيارات. وطبعا، يعقب إبراهيم شينبا "الحياة لا تطاوع الجميع، لكن التوفيق والحظ ابتسما لكثيرين، وأنا واحد منهم بصفتي من رواد الجيل الأول للباحثين عن الذهب بباتنة والجزائر ككل".

2

سجنلامبيز وأفلام الوسترن

الوجه الشاحب للبلد أمنيًا واقتصاديًا بداية التسعينيات جراء أزمة بطالة بنيوية زادها الوضع الأمني تغولا، ستدفع ثلاثة شبان واحد من حي شيخي ويسمى " ج.ح"، وآخران هما " "ب.م" و"ي. ب "، من حي بوعقال إلى البدء في كتابة ملحمة الثراء من الغبار، بعدما استلهمها أحدهم من مشاهدة فيلم وسترن خلال إقامته الحبسية في سجن لامبيز الرهيب.

 سرعان ما ستتطور الفكرة بتهافت عدد كبير من الشبان عليها، تهافت النار في الهشيم، يقول حمودي.ب وهو وواحد من العارفين بأسرار المهنة لـ "الترا جزائر:" يجمع الشبان أتربة محلات المجوهرات، التي تكون بداهة مختلطة بشذرات أو فلزات الذهب، ينظفون الورش هؤلاء بما فيها مجالي المياه وحتى القوالب " الكروزيات"، أملا في أن تلتصق الجزيئات الضائعة بالمنشفات والممساحات، كما قد يفتحون البالوعات الخارجية لالتقاط الزنخ الذي يأتي مع مجاري الورشة التي قد تنطوي على شذرات خالصة.

تُجمع كل الأخلاط بغرض تصفيتها، يتم الفرز الأولي بين التراب الخشن والتراب الرقيق عبر غرابيل، أما علب السجائر وأعقابها والأوراق والمناديل فتحرق كي تصير رمادا يضاف إلى التراب الرقيق. لاحقًا يتم التطهير عبر أواني بها شيء من الماء فيسمح التدوير المتكرر لها ببروز أجرام ترابية تبقى للأسفل وهذا يعني أن بها قطع ذهب لأن المعدن الأصفر صديق الماء. حينما يتكون خليط صلب نوعا ما، يجرى إلى عملية التطهير الكيميائي في أفران عبر استخدام حامض الأربعين أو "البوراكس"، فهي تحرق كليا المعادن الأخرى عدا الذهب الذي يتبدى مادة مائهة، هكذا نحصل نهاية المطاف خلال كل عملية على عدة أعشار أو "ديسيات" من الذهب الخالص".

وحتما فإن عملية التكرير التي تدوم ساعات ترفع الأعشار إلى غرامات، تباع بعدها ذهبا مستعملا للصياغ، تبعا لسعر السوق الذي رفعه من 3000 دج خلال التسعينيات إلى ما فوق المليون سنتيم في الوقت الراهن.

ملاحم ثراء شبيهة بالأساطير الإغريقية

يسرد الباحثون عن الذهب لـ "الترا جزائر"، قصصا سينمائية عجيبة عن ملاحم نجاح باهرة حققها هؤلاء، أحدهم أستخلص كيلوغرامات من زبلة اشتراها بـ 500 مليون سنتيم، وواحد من هؤلاء اشترى ورشة من مجوهراتي تخصص في " الماسيف" قبل أن يقوم بإعادة تهيئتها لا رغبة في تجديد البلاط بل لأنه استنتج بالبديهة بأن كنزا مخفيا ينام في مجاري مياهها المترسبة منذ عقود طويلة، لقد سمح له ذلك بتكرير أخلاط كثيرة تحصل منها على 3.250 كلغ، أما آخرون فكانوا يدفعون مبالغ مالية تتراوح بين 5 إلى 7 ملايين سنتيم شهريا لحرفيين يشتغلون في محلات وادي الطاقة –بوحمار- الشهيرة كي يحتفظوا لهم بالزبلة المجمعة على مدار سنة كاملة كي يكون الحصاد وفيرا، ويلزم الباحث عن الذهب فراسة ودراية بكيفية اختيار نوع الزبلة، ذلك أنها تختلف حسب الجودة والنوعية، يقول حمودي " أجودهما زبلة "البرادة" و "لافارس" تلك المتعلقة بصناعة "المسايس" (الأسورة) وهذه تلتقط بخاصة من مجالي المياه لأن شذراتها خالصة وتلتصق بأيدي السائغ الذي يتركها محتقنه في الماء عند غسيل يديه".

لم يشذ إبراهيم شينبا عن هذه القاعدة في رحلته نحو المال إذ يعترف قائلا: "كنت اشتري الزبلة من مدينة قسنطينة التي كانت تمتلئ بمحلات مجوهرات يهود غادروا البلاد بعد الاستقلال، ذلك أنهم  كانوا يحتفظون بها لسنين لمعرفتهم بفنونها،دفعت لأحدهم 5000 دج بالكاد اقتنع بتسلمها لأنه كان يريد أن يعطيني إياها مقابل كنس وتنظيف محله دون أن يخطر بباله، أنه منحني كنزا حقيقيا استخلصت منه ذهبا خالصا بعته بـ 100 مليون سنتيم، كذلك كان الأمر مع تاجر بسكري اشتريت منه زبلة بـ 15000 دج دررت منها ذهبا بعته ب 200 مليون سنتيم، ثم تمدد النشاط عبر السفر لولايات أخرى مثل الجزائر والشلف وبلعباس ووهران وغيرها لاقتنائها بعدما صارت سوقا قائمة بذاتها".

300 ملياردير مرّوا من هنا

في سنوات جمع الرجل كيلوغرامات جلبت له أموالا طائلة، فتراكم لديه رأسمال ولج به عالم العقارات ونشاطات فلاحية أخرى، بعدما اشترى مزرعة تخصصت في إنتاج حليب الأبقار، قبلها سافر إلى المكسيك مقيما في أكابولكو لبضع سنوات، ويعود من جديدا مفضلا الاستثمار في قطاعات أخرى بينها إنشاء محلات متخصصة في تجارة الذهب والذهب الشبيه –البلاكيور-، بمعنى أنه تحول من باحث عن الذهب إلى صانع معتمد بسجل تجاري وعمال، وهي حالة انتهى إليها عدد كبير من أشباهه في المهنة، بأن صاروا تجارا وأصحاب محلات.

69

نشط الباحثون عن الذهب بمدينة باتنة على وجه التحديد، خاصة بمعقلهم في حي شيخي، أو " لاسيتي" كما يعرف اختصارا، إذ لم تخل فيه عائلة من باحث عن الذهب خاصة في مرحلة التسعينيات إلى الألفين، قبل أن تنتقل العدوى لحي آخر يبدو أكثر نشاطا الآن هو حي بوعقال القبلي، يعقب شينبا الذي يدير اليوم محلات ومكاتب بكاميرات مراقبة " أستطيع أن أخبرك بأن زهاء 300 شاب ممن أعرف صنعت منهم هذه المهنة مليارديرات، بعضهم تحول إلى مهن أخرى بعد تحصيل رأسمال كبير، فتخصصوا في العقار و المقاولات و إنشاء مؤسسات بولاية باتنة وعبر ولايات جزائرية أخرى، لا بل خارج البلاد، منهم من يملك اليوم عقارات في إسبانيا مستغلين الفرص الاستثمارية الممنوحة لهم هناك، وتخيّل أنت المشهد الهائل من شاب كان ينقب بمكنسة عن تراب الذهب ثم صارصاحب فيلا فاخرة في أليكانت أو محلا فخما في بينيدورم".

الفقر ليس قدرا والفكرة ثروة

مهما يكن التراجع الحاصل في فورة البحث عن الذهب في الوقت الراهن، كما يقول فهد الذي لايزال حريصا على حلمه إلى آخر ذرة غبار عند عتبة آخر تاجر ذهب بالمدينة، عندما يقارن بين فترتين " ثمة تطورات حاصلة، في السابق كنت أحقق أرباحا كبيرة، اليوم تحقق لي المهنة اكتفاء معيشيا لا بأس به لإدارة شؤون أسرتي، كما أنها شهدت تطورا مهما حيث صارت هناك آلات تستخدم من لدى تجار الذهب أنفسهم في تكرير زبلتهم مباشرة، بعدما تفطنوا إلى أن مناجم خالصة كانت تضيع منهم عند عتباتهم وعبر مجالي مياههم وسواقيهم وبالوعاتهم، لكن بعضهم لا يزال يلجأ إلينا لتكريرها و تعييرها مقابل 17% من الأرباح المحصلة، وهذا يعني أن طائفتنا لاتزال قائمة، فهناك المئات ممن يقتاتون منها في الوقت الراهن".

أما أروع رسالة نجحت في تمريرهاكتائب الشبان المقاومة للفقر بفكرة عبقرية وبوسائل بدائية بسيطة، فتتجلى في عدم اليأس من الرزق المخبوء في جوف التراب والأدران، شريطة الجد والكد وخصلة التوكل على الله،تلكالتي تتكفل بقوت العصافير، فتغدو خماصا وتروح بطانا، ما بالك بمن يملك يدين ورجلين ويحمل فوقه كنزا أبديا: هو العقل.