وجد الجزائريون أنفسهم، بعد انتهاء مرحلة العنف والإرهاب التي دامت عقدًا من الزمن، وخلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين، أمام ظواهرَ اجتماعية كانت غريبة عنهم من قبل، بعضها أحسنوا فهمه والتصدي له، بما قلّل من سلبياته، وبعضها بقي بعيدًا عن الرصد والمتابعة، فهو يمارس نخره للنسيج العام في غفلة من المنظومات المعنية بعلاجه.
بعد انتهاء مرحلة العنف والإرهاب التي دامت عقدًا من الزمن، تبين للجزائريين أنهم فقدوا الثقة في بعضهم البعض كثمرة لخيانة هذه الثقة خلال مرحلة الإرهاب
من هذه الظواهر، فقدان الثقة بين أفراد المجتمع وشرائحه وأجياله ومكوناته، كثمرة لخيانة هذه الثقة خلال مرحلة الإرهاب، أين كان الأخ يقتل أخاه، وابن الأخت يقتل خاله، والجار يشي بجاره، فقط لأنه ينتمي إلى "الفسطاط" المناوئ، والحديث يطول في هذا الباب، ويفضل الجزائريون حكومةً وشرائحَ واسعةً من الشعب، عدم فتح ملفاته، رغم مباشرة مشروع المصالحة الوطنية، خوفًا من نتائج دغدغة الجراح النائمة.
اقرأ/ي أيضًا: حتى لا تتكرر العشرية السوداء
قبل هذه المرحلة، كان السائق الجزائري يتوقف لمن يستوقفه في الطريق، ليلاً أو نهارًا، وفي أماكنَ معزولة، يكفي أن تلوّح بيدك حتى تتوقف المركبة أمامك، خاصة الشاحنات التي تقطع مسافات بعيدة، استعانة على الطريق بأنس الحديث، أما اليوم، فقد اختفت هذه الفضيلة، إلا في حالات نادرة، لأنها كانت خلال مرحلة الإرهاب ولا تزال، مجلبة للاعتداء الذي قد يصل إلى القتل.
في ظل هذا الواقع، تثير الانتباهَ ظاهرةُ ثقة الجزائريين في سائق سيارة الأجرة، داخل المدينة، بما يجعله من الاستثناءات القليلة. أصلًا بدأت فكرة كتابة هذا الموضوع في مدينة "معسكر" غربًا، حين كنت في مقهى شعبي، أين تلقى كهل كان يجلس قربي مكالمة من زوجته، ظهر منها أنها تطلب منه الإذن بزيارة عائلية، فقال لها: "أنت تملكين رقم سائق الأجرة، اطلبيه". قلت له: لا أفهم تساهل المنطقة في هذا الباب، بالرغم من كونها محافظةً، فقال: لقد أثبت سائق الأجرة جدارته بالثقة فيه، على مدار سنتين من التعامل معه، وهو بهذا أعفانا من مشقة مرافقة حريمنا عند الخروج".
يربط الجزائريون ركوب المرأة وحدها في سيارة غير سيارتها، أو سيارة واحد من محارمها، إلا إذا كانت مسنة، بقلة العفة ويستدعي ذلك أحاديث تخدش شرفها، حالهم حال الكثير من النظراء العرب في هذا الصدد، ما عدا ركوبها سيارة الأجرة، شريطة أن تركب من الخلف. استوقفنا إحداهن، وقد نزلت من سيارة أجرة في مدينة "بومرداس" قبيل المغرب، فقالت إنها ممرضة في المستشفى الحكومي، وهي تستعمل هذه الطريقة في تنقلها، إذ يكفي أن تطلب سائق الأجرة، فيحضر بعد وقت يتفقان عليه، ويحدث أن يكون ذلك ليلًا.
يربط الجزائريون ركوب المرأة وحدها في سيارة غير سيارتها، أو سيارة أحد محارمها، إلا إذا كانت مسنة، بقلة العفة ما عدا ركوبها سيارة الأجرة
بعض المدن الجزائرية، باتت تتمتع بخدمات شركات معتمدة في هذا الباب، إذ يكفي أن تطلب تاكسي عن طريق رقمها المشاع، وتحدد موقعك حتى يكون عندك بعد "مسافة السكة". هذه السيارات مزودة بهاتف لاسلكي، بحيث يمكن للزبون أن يسمع المكالمات التي تدور بين السائق وعون مجمع المكالمات في الشركة، لتحديد الموقع حتى يتم تكليف السيارة الأقرب إلى الطلبيات المتوفرة.
اقرأ/ي أيضًا: عن سنوات المصالحة العشر في الجزائر..
"مستغانم" غربًا من هذه المدن، و"شركة أبي سفيان" من هذه الشركات. رافقنا إحدى هذه السيارات ما بين العاشرة ومنتصف الليل، فرصدنا عن طريق المكالمات التي تلقاها السائق نصر الدين، 32 عامًا، عشرات الطلبيات لنساء دون مرافق.
يقول نصر الدين: "شركتنا تتوفر على ما لا يقل عن خمسين سيارة، يقودها شباب لا تزيد أعمارهم عن الأربعين، وهي أعمار في الظاهر مثيرة للريبة والشبهات، لكننا لم نسجل منذ انطلاقتها قبل عشر سنوات حادثة تهز ثقة الناس فينا". السائق الشاب نسب هذه الثقة إلى جملة من العوامل الموضوعية، منها أن السيارة مسجلة عند الجهات الأمنية، وأن القانون يعاقب على أي حركة من السائق تخل بالحياء، وأن كثيرًا من الأسر تحافظ على التعامل مع سائق معين، فيصبح صديقًا للعائلة، بالإضافة إلى السلوكات الحسنة للشباب المشتغلين في هذا المجال. يقول: "معظمهم جامعيون دفعتهم ظروف البطالة إلى هذا الشغل، ثم إنهم أظهروا كونهم أمناء فعلًا، من خلال إرجاع ما ينساه الزبائن في مركباتهم".
غادرنا سيارة نصر الدين، بعد ساعتين من الطواف في المدينة الساحلية الأنيقة، فصادفنا مجموعة من الشباب يتسامرون قرب مدرسة الفنون الجميلة. سألناهم عن الظاهرة فأجاب شفيق، 24 عامًا: إن "المجتمع الذي تقبّل، بعد تراكمات من الممانعة، خروج المرأة للعمل، يقبل بالضرورة العادات التي يفرزها هذا الخروج، ومنها استعمالها لسيارة الأجرة"، أضاف الشاب الذي قال إنه من خريجي كلية العلوم الزراعية لـ"الترا صوت" بشيء من المزاح الممزوج بالحقيقة: "قد يغضب الشاب الجزائري من خروج شقيقته وحدها، لكن غضبه يخفّ حين يراها قد استعملت سيارة أجرة، فكأن ذلك يمنح خروجها غطاءً من البراءة".
اقرأ/ي أيضًا: