27-سبتمبر-2022
فوج كشفي جزائري في فترة الاستعمار الفرنسي (الصورة: باب زمان)

فوج كشفي جزائري في فترة الاستعمار الفرنسي (الصورة: باب زمان)

شَهد عام 1935 ميلاد الحركة الكشفية في الجزائر على يد محمد بوراس رفقة نخبة من المناضلين الوطنيين المشبعين بالفكر الاستقلالي، إذ ارتبط بزوغ الحركة الكشفية ذات مرجعية جزائرية بروز الحركة الوطنية الاستقلالية، وكان التنظيم الكشفي حاضنة الفكر الوطني إبان الفترة الاستعمارية، حيث بدأت الحركة الكشفية تتوسع عبر التراب الوطني انطلاقًا من العاصمة إلى المدن الأخرى شرقًا وغربًا وجنوبًا.

في الأربعينات اتفق محمد بوارس مع مناضلين من سكان جبل زكار بولاية مليانة على القيام بانتفاضة عسكرية ضد الاستعمار الفرنسي واتصل بالألمان لتزيوده بالأسلحة

مهدت الحركة الكشفية إلى تكوين التنشئة الثورية، من خلال المساهمة في التعليم ومحو الأمية وتلقين الدروس في الوطنية وبعث الوعي والصحوة الاستقلالية، فما هي الظروف التاريخية والسياسية التي ساهمت في نشأة الكشافة الإسلامية الجزائرية، وما دور المؤسس الشهيد محمد بوراس وما حقيقة تواصله مع الألمان؟

الظروف التاريخية

خلال احتفالات فرنسا بمئوية استعمارها للجزائر سنة 1930، جرى استعراض كشفي ضخم ضم مشاركة حوالي 3000 من السرايا الكشفية الفرنسية، الاستعراض الكشفي جاب كبرى شوارع مدنية الجزائر العاصمة وكان الاستعراض مناسبة من أجل تلقين محاسن الاستعمار الفرنسي.

بيد أن الاستعراض دفع بالنخبة الوطنية إلى التفكير في البحث عن إطار تنظيمي يجعل الطفل والشاب الجزائري محل اهتمام ورعاية وتربية، إذ توجهت الأنظار  إلى وضعية الأطفال الجزائريين اليتامى والمشردين بالشوارع، فحسب مصادر تاريخية بلغت نسبة التمدرس إبان الفترة الاستعمارية 12 بالمائة وسط أطفال الجزائر، فمن بين 600 ألف طفل بلغ سن التمدرس، 75 ألف يلتحقون بمقاعد الدراسة، الأغلبية منهم لا يتجاوز الفترة الابتدائية، نتيجة الطرد من الأقسام أو بدافع الفقر والحاجة إلى إعانة العائلة في الكسب والعيش.

الحركة الكشفية في الجزائر

كان أغلب هؤلاء الأطفال المشردين، والذي يطلق عليهم "يا ولاد" لا يعرفون المدرسة، ويقضون أوقاتهم في ممارسة المهن الشاقة والصعبة غرار مسح الأحذية، أو بيع الجرائد، أو التسول أو في العتالة أمام أسواق المستوطنين.

بداية المقاومة

لم تستلم النخبة الوطنية إلى سياسة تهجين المجتمع الجزائري وتشريده من طرف الاستعمار، فقط ساهمت تلك النخب في بعث نشاطات وجمعيات تهتم بالتعليم ومحو الأمية والتكوين والمحافظة على السلامة النفسية والبدنية، في هذا الإطار فقد ساهمت مدرستا الفتح ومسجد اللوح بحي القصبة، ورغم ضعف الإمكانيات المادية، في التكفل بالأطفال ماديًا ومعنويًا، وشاركت بعض النوادي الرياضية في تأطير الشباب الجزائري اليافع.

لكن أبرز نشاط تربوي وتوعوي شبابي، شرع فعليا بداية من عام 1935، حيث افتتح محمد بوارس أول مدرسة أو فوجا كشفية يحمل اسم "الفلاح" يقع مقره بشارع "مورينغو"  شارع بن شنب حاليًا، ثم انتقلت سنة 1936 إلى شارع "كومبيتا"وريدة مداد حاليا، تُحول بعدها إلى قرب الميناء أسفل مدينة القصبة.

لقد تميزت الحركة الكشفية التي أسسها محمد بوراس بمرجعية وطنية، جزائرية الأصل، إسلامية الهوية، إذ أن الكشافة الفرنسية كانت لها فروع عدة بالجزائر تحت مسميات كثيرة، وقد انظم إليها بعض الجزائريين، غير أن القطيعة الروحية بين المستوطنين والأهالي جعل الانضمام إلى التنظيم الكشفي الفرنسي فاقدًا للتكوين الأساسي الذي اعتمده محمد بوراس ألا وهو الوعي الوطني وبعث الشعور بالهوية الوطنية.

من هو محمد بوراس

ولد محمد بوراس في 26 شباط/فيفري 1908 بمدينة مليانة، كباقي العائلات الجزائرية ينحدر بوراس من وسط أسري فقير، التحق صغيرا بالمدارس القرآنية، وطرد من المدرسة الابتدائية الفرنسية، رغبة بوراس في التعليم والتكوين جعلته ينظم إلى النوادي الرياضية، وينشط في الألعاب القوى، وممارسة كرة القدم.

الحركة الكشفية في الجزائر

في عام 1926 انتقل إلى العاصمة، وهناك التحق بالبحرية العسكرية،واشتغل بوظيفة الضرب على الآلة الكاتبة، أما كرويًا فساهم في صعود النادي المولودية الجزائر إلى القسم الثاني سنة 1928 ثم إلى القسم الأول سنة 1932.

كان مسؤول المصلحة التي يشتغل بها محمد بوراس في البحرية العسكرية قياديًا في الحركة الكشفية الفرنسية، هنا، يجدر التذكير أن الحركة الكشفية الفرنسية كانت لها فروع بالجزائر ابتدءً من سنة 1914 على أيدي الفرنسيين، على غرار الكشافة الفرنسية اللائكية والكشافة الوحدويون لفرنسا البروتستانتية عام 1920، والكشافة الفرنسية الكاثوليكية سنة 1922، والمرشدون الفرنسيون للبنات الكاثوليك سنة 1929، وعلى ضوء ذلك فقد كانت الكشافة في الجزائر خلال العشرينيات مسيحية المعتقد فرنسية الانتماء ما جعل انضمام الجزائريين متواضعًا.

تأسيس "فوج الفلاح"

لم ينقطع محمد بوراس من المشاركة في النضال الوطني والإصلاحي، فقد كان من بين من شارك في إعداد أرضية المؤتمر الإسلامي سنة 1936، وكان كثير التردد على الأنشطة التربوية والتعليمية التي كانت تقام في نادي الترقي بالعاصمة، كما ربط علاقات قوية مع كل من الشيخ الطيب العقبي والشيخ بن باديس والنخبة الجزائرية المثقفة، الأمر الذي دفعه إلى تأسيس بشكل رسمي فوجًا كشفيًا سنة 1936ـ إذ أعد رفقة ثمانية أعضاء القانون الأساسي، قُدم الملف إلى الإدارة يوم 16نيسان/ أبريل عام 1936 وتحصل على تصريح إداري في 5 حزيران/جوان 1936 

فيدرالية الكشافة 

كانت طموحات محمد بوراس أبعد من تأسيس تنظيم كشفي محلي وصغير، بل إنشاء إطار جمعوي وطني، يشمل كافة مناطق القطر الجزائري.

في هذا السياق، وصحبة محمد بوراس والصادق الفول وبوبريط رابح ومختار بوعزيز، ومحمد مادة وغيرهم، قاموا بتشكيل لجنة مؤقتة لتحضير مؤتمر الفيدرالية، وفي سنة 1939 أثمرت المجهودات على تأسيس فيدرالية الكشافة الإسلامية الجزائرية، في أول تجمع انعقد في مدينة الحراش بالعاصمة وأشرف على افتتاح وترأس المؤتمر الشيخ عبد الحميد بن باديس.

صعوبات ومضايقات

واجهت الحركة الكشفية الجزائرية صعوبات وتحديات وممارسات تعسفية من طرف الإدارة الاستعمارية، تخلّلتها مضايقات قانونية بعدما رغبة الكشافة الإسلامية الجزائرية استقلاليتها عن الكشافة الفرنسية، كما تداولت التقارير الأمنية عن التوجهات الاستقلالية والوطنية للكشافة الجزائرية، وفي هذا الإطار تعرض محمد بوراس إلى عدة مضايقات، فقد تم طرده من العمل، وحاولوا تعيننه مدرسًا في فرنسا، وبعد فشلهم في كسر عزيمته، وُجّهت إليه تهمة الخيانة والتواطؤ مع الألمان وأحيل على العدالة العسكرية التي أصدرت حكمًا يقضي بإعدامه رميًا بالرصاص، وفي صبيحة 27 أيار/ ماي 1941 على الساعة الخامسة صباحًا تم تنفيذ الإعدام بالساحة العسكرية بحسين داي الجزائر العاصمة.

الحركة الكشفية في الجزائر

ما وراء الاتصالات    

لم يتورط محمد بوراس من خلال الاتصال بالألمان في الخيانة، وفق الرؤية الفرنسية الاستعمارية، ولا حتى تبني العقيدة النازية أو الفاشية، بل الرغبة الوطنية المتمثلة في الهدف من التواصل مع الألمان، وهو الحصول على الأسلحة والذخيرة من أجل القيام بعملية عسكرية، إذ اتفق بوارس مع مناضلي من سكان جبل زكار بولاية مليانة، على الاستعداد للقيام بعمليات وانتفاضة عسكرية شرط توفر الأسلحة،وبالنسبة إلى التاريخ الوطني فإن مبادرة محمد بوراس تكشف تاريخيًا عن تحضيرات مادية ومعنوية من أجل القيام بانتفاضة عسكرية سنة  1941 في جبل زكار، علاوة على ذلك تبرز الاتصالات التي باشرها محمد بوراس مع الألمان إلى وجود رؤية بعيدة المدى حملها بوراس، تتمثل في الاستعداد للعمل المسلح والثوري بداية من الأربعينيات، وتؤكد عبقرية بوارس في جعل التنظيم الكشفي غطاءً من أجل التنظيم العسكري والثوري.

من جانبه، تكشف المحاكمة السريعة والمرتجلة دون إثبات دليل مادي، مدى تورط المخابرات الفرنسية في الملف، فقد حوكم بوراس في الـ 4 من شهر أيار/ ماي 1941 وتم إعدامه في أيار/ماي 1941، دون احترام أدنى شروط الدفاع، إذ رفضت إدارة المحكمة تأسيس محاميين جزائريين، وتعين محامي فرنسي بشكل تلقائي.

لقد عُرف عن محمد بوراس كراهيته للاستعمار الفرنسي وأعوانه، فقد كان يقتني الجرائد باللغة العربية وينخرط وسط الأوروبيين بقراءة الصحف العربية من أجل استفزاز المستوطنين والتعبير عن وجوده، كانت لديه رغبة قويّة في جعل الكشافة مدرسة وطنية مقاوماتية وثورية.

كان محمد بوراس يشتري الجرائد الناطقة باللغة العربية ويجلس وسط الأوروبيين لقراءتها لاستفزازهم والتعبير عن وجوده

في الختام، لقد ارتبطت الحركة الكشفية الجزائرية إبان الفترة الاستعمارية ارتباطًا وثيقًا بالحركة الإصلاحية والاستقلالية، وساهمت في تجنيد الجزائريين من أجل التعليم والتوعية والتربية ومقاومة كل أشكال التهجين والتشريد والاستئصال، وليس صدفة أن أول شهيد يسقط في 8 آيار/ماي سنة 1945 كان الكشاف سعال بوزيد الذي تربى في أحضان الكشافة الإسلامية الجزائرية.