17-يوليو-2022
بوعلام رحال شهيد المقصلة الفرنسية (الصورة: يوتيوب)

بوعلام رحال شهيد المقصلة الفرنسية (الصورة: يوتيوب)

مثلما يُطلق العنانُ للاحتفالاتِ وللأفراح في الذكرى الستين لعيد الاستقلال الوطني، وكما يحق لأي جزائري بأن يفتخر بصوت عالٍ بثورة أسمعت أمجادها العالم أجمع، فأخذت الاستقلال بالقوة ومنحت الأرض للترحيب بأشهر الحركات التحررية في العالم فكانت مهدًا لها، يتوجب علينا أيضًا أن نعود بالذاكرة الجماعية نحو أبطال شاركوا في صناعة هذه الفرحة وضحوا بحياتهم طوعًا فداء لهذا الوطن وواجهوا المقصلة الفرنسية، لنعيش بفضلهم هذه الفسحة الكبيرة من الحرية، ومن أمثال هؤلاء الأبطال الشهيد بوعلام رحال.

كان الشاب بوعلام قاصرًا حسب القانون الفرنسي فزوّروا شهادة ميلاده وأضافوا إليها 10 أشهر كاملة ونفّذوا فيه حكم الإعلام بالمقصلة

لقد كان الثمن باهضًا بحق، بقدر ما كانت جرائم فرنسا الاستعمارية شنيعة ولا حد لدمويتها، تطول الكتابة عن تاريخ مستعمر كان يتغذى من مآسي الشعب ومن متعة إذلاله، لهذا تغدو في الواقع كل جملة مكتوبة عن هؤلاء نوعًا من الإنشائيات الواهية، لفرطِ وهَوْلِ ما كان يحدث لهم في الواقع من جرائم تنافي الإنسانية.

مع ذلك، تجند الكثير من الأبطال الشباب الذين كان بإمكانهم الصمت والخضوع والاكتفاء بالمشاهدة، وبالبحث عن لقمة العيش أو عن مستقبل لموهبة ما تحت جناح ذل الاحتلال، فوقفوا في وجه الظلم والاضطهاد بعمليات فدائية كبدت فرنسا خسائر بشرية ومادية كثيرة، إضافة إلى زرع الرعب والريبة وعدم الأمان في أوساط الفرنسيين الذين باتوا يحسبون ألف حساب لهذا النوع من المقاومة التي كانت تنتظم أكثر فأكثر كل يوم، وكان قمعها يصبح أخطر وأكثر وحشية، خاصة مع بروز نية عظيمة من الشعب للحصول على الاستقلال والتخلص من الهيمنة الفرنسية.

إلقاء القبض على بوعلام رحال ورفقاؤه

رياضيٌّ  فاقت سِنَّهُ شجاعتُهُ

كان الفتى بوعلام رحال  شابًا أسمر اللون، قاسي الملامح قليلًا، لم ندرك ابتسامته، وقد بدا من خلال صوره القليلة الموجودة في أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية، أكبر بكثير من سنه، وذلك في الواقع ما كان يبدو عليه أغلب شباب الجزائر في تلك الحقبة لكثرة ما كابدوه من ظروف معيشية صعبة.

 كان بوعلام لاعب كرة قدم نشيط في صنف الأصاغر في نادي مولودية الجزائر  العريق، حيث يخلده هذا النادي شهيدًا ويذكره في كل المناسبات. انخرط في سن صغيرة في جبهة التحرير الوطني، وقد بلغ من العمر 19 عامًا حينما تجند لتنفيذ عمليات سرّية في حي القصبة العتيق، حيث شارك مع العديد من المجاهدين نساء ورجالًا في الهجومات التي مسّت مواقع حساسة ومأهولة في قلب الأحياء ذات الأغلبية الفرنسية وسط العاصمة والأبيار، وهي الأحداث التي أدت إلى اندلاع ما سمي لاحقا معركة الجزائر .

جدارية للشهيد بوعلام رحال

الرواية الفرنسية للاعتقال

على قلة المصادر التي تحكي تفاصيل الهجوم الذي شارك فيه بوعلام رحال، آثرنا العودة إلى أرشيف جريدة لوموند الفرنسية، في عددها الصادر يوم 21 فيفري/شباط سنة 1957.

يذكر المقال المذكور أن عشرة أيام كانت كافية لقوات شرطة الجزائر العاصمة والمظليين الداعمين لها لاستكمال التحقيق في التفجيرات التي وقعت في العاشر من فيفري/شباط في ملعب الجزائر العاصمة وهجومات الأبيار، حيث خلفت العمليتان 13  قتيلاً و50 جريحًا.

أثنتِ الجريدة على الظروف التي جرت فيها الاعتقالات، وعلى ما وصفته  بفعالية "النظام الأمني القائم في الجزائر تحت قيادة الجنرال ماسو"، وذكر التحقيق وقتئذٍ أن الشرطة الفرنسية كانت تمتلك دليلًا واحدًا في مكان التفجير، وقد كان عبارة عن علامة مغسلة «A 1 124»، وُجِدَت داخل بقايا السترة التي نسيها الشاب بوعلام رحال في المكان، والتي أخفى فيها جهاز التفجير الذي وضع في مدرجات الملعب البلدي، لتنتقل الشرطة بعدها إلى القصبة وتحصل على معلومات من عامل تنظيف جاف هناك، حيث تعرف على العلامة ودلهم فورًا على مكان إقامة صاحب السترة.

قصيدة المقنين الزين التي كتبها الفنان الباجي

يضيف القال نفسه، أن الشرطة كانت قد ألقت القبض على من أسمته "الإرهابي الأول" رحال بوعلام، وبعد أن اعترف الأخير بمشاركته في هجوم الملعب البلدي، حيث زعمت أنه ذكر أسماء عدة شركاء، هم حسين باربوشة، الملقب بفرحات حسين، زعيم الجماعة، إضافة إلى شابة "مسلمة" تدعى الجوهر عكرور، وبوجمعة، المخطط للهجوم على ملعب الأبيار، حيث تم القبض عليهم الواحد تلو الآخر.

كان بربوشة، وقت اعتقاله، حسب ذات المصدر، برفقة محمد بلمين، شقيق بوجمعة، والذي تم التعرف بفضله على أسماء الزعماء: تواتي سعيد، زعيم الجماعة، حامية نائبه، ونائب المسماة باية التي شاركت أيضًا في الهجوم في الأبيار. وقد تم العثور عليهم جميعًا وهم يحملون أسلحةً حسب ذات المصدر.

ذكرت لوموند أن الشرطة قد أعادت بناء الأحداث التي أعدت ونفذت فيها هجمات 10 شباط/فيفري، وذكرت أن علي لا بوانت، الهارب آنذاك، كان قد سلم القنابل الثلاث إلى تواتي سعيد، قائد المجموعة، كما قام حامية بتجنيد من أسمتهم "المتواطئين".

في التاسع من فيفري/ شباط، وخلال اجتماع في منزل حامية، كلّف بوعلام رحال والجوهر بتنفيذ الهجوم على الملعب البلدي، في حين تكفل علي بوجمعة وبافا بعملية الأبيار.

في هذا المقال، كتبت الصحيفة أن الجوهر كانت قد أخفت القنبلة في "حمالة صدرها"، لتسلمها في الحانة إلى بوعلام رحال الذي أخفاها بدوره تحت سترته، ليصل إلى المنصة ويضعها هناك، ثم ينسى السترة،  ويغادر رفقة الجوهر في سيارة أجرة.

أسلحة كانت بحوزة المعتقلين من طرف الاستعمار الفرنسي

الإعدام بالمقصلة.. متعة المستعمر

ذكر المؤرخ الفرنسي جيل مونسورون في مقال خصصه لشهداء المقصلة في الجزائر، أن عمليات الإعدام بالمقصلة لـ 40 شخصًا من بين النشطاء الجزائريين المعتقلين، والتي وقعت أحداثها في سجن بارباروس (سركاجي) في أعالي القصبة بالجزائر العاصمة، بين الحادي عشر من فيفري/شباط والرابع من كانون الأول/ديسمبر سنة 1957، كانت إحدى الشعلات التي أوقدت "معركة الجزائر".

قال كاتب المقال أن 40 رجلًا، ساروا بكرامةٍ نحو المقصلة، بعد الحكم عليهم بالإعدام في محاكمات سريعة أمام المحكمة العسكرية، مُرَافَقِينَ بأغانٍ وطنية مثل أغنية "من جبالنا"، وصرخات تردد عبارات "تحيا الجزاير" و "تحيا الجزاير الحرة" من طرف جميع السجناء الموجودين هناك.

رددت النسوة المعتقلات أيضًا تلك الأغاني والشعارات التي بدا صداها مدويًا، وانضمت إليهن أصوات النساء وصرخاتهن من جميع أنحاء القصبة، حيث ظلت تردد إلى ما قبيل نهاية الليل، ما بين الساعة 3:00 و 4:00 صباحًا، في العاصمة التي كانت بالكاد تهم بالاستيقاظ، وقد قالت المجاهدة لويزات إغيل آحريز التي كانت إحدى المعتقلات داخل ذلك السجن آنذاك: "لقد كان صدى الزغاريد يصل إلى مسامعنا".

أكد جيل مونسورون في مقاله أن تلك المشاهد قد تكررت 17 مرة، نظرًا إلى أن عمليات الإعدام بالمقصلة كانت تتم غالبًا  "بشكل متسلسل"، خلال هذه السنة الرهيبة من "القمع المفرط في الجزائر العاصمة".

خديعة الإعدام

كان الشاب بوعلام رحال من بين الموقوفين المحكوم عليهم بالإعدام بالمقصلة، لكن سنه لم يكن يسمح بتنفيذ الحكم حسب القانون الفرنسي الذي يعتبره قاصرًا، حيث لم يبلغ العشرين بعد. مع ذلك، لم تكن فرنسا الاستعمارية معنية بتطبيق القانون والعدالة على أرض الجزائر، فكل المناضلين لديها بالغين كانوا أو قصرًا بمثابة مجرمين وقطاع طرق وجب إعدامهم بلا رحمة.

تم التلاعب في شهادة ميلاد الفتى بوعلام، وتمت إضافة عشرة أشهر إلى سنه الحقيقي، وهو المولود في 26 كانون الأول/ديسمبر 1937، ليصبح تاريخ ميلاده في الشهادة المزورة 26 فيفري 1937 ويتم تنفيذ الحكم عليه يوم الـ 20 من حزيران/جوان من سنة 1957، في سجن سركاجي.

المقنين الزين... الشهيد

يا المقنين الزين

يا أصفر الجنحين

يا أحمر الخدين

يا كحيل العينين

هادي مدة وسنين

وأنت في قفص حزين

تغني بصوت حنين

لا من يعرف غناك منين...

كانت هذه هي الكلمات المؤثرة التي رددها المغني الباجي في تصريح صوتي له حول الشهيد بوعلام رحال، حيث صرح أنه كان سجينًا في سجن سركاجي "بارباروس" آنذاك، بين العديد من المناضلين المحكوم عليهم بالاعدام، وقد انتبه إلى صغر سن الشهيد بوعلام رحال ، ذلك الشاب البريء الذي أثار حزنه بعدما عرف بقصة تزوير شهادة ميلاده للتمكن من إعدامه.

احتفظ الفنان الباجي بقبعة الشهيد بوعلام رحال بعدما أخذها من شاب آخر وقد كتب ولحن أغنية "المقنين الزين" داخل السجن

 بعد إعدام الشهيد بوعلام، قال الباجي بأنه احتفظ بقبعته التي أخذها من شاب آخر، وقد كتب ولحّن تلك الأغنية داخل السجن،  ليرددها الجزائريون كثيرًا وفي كل مناسبة كقصيدة حب حزينة،  لفرط عمق كلماتها ولحنها الفريد، لكن قلة منهم فقط كانوا يدركون من هو ذلك "المقنين" السجين الذين أنهكه القفص، ومن هو هذا العصفور الصغير الذي وهب حياته من أجل أن تحيا بقية الأطيار حرة وفي كرامة، في هذا البلد الذي لم تجف دماء شهدائه بعد، لتبقى شاهدة على كمِّ تضحيات الذين وهبونا أرواحهم لنحيا في بلد يصبو دوما إلى نضالات أكبر، بلد لا يكتفي شعبه أبدًا من التضحية للحصول على الأمن وكرامة عيشٍ تليق بثورته التي لقنت مبادىء الحرية للعالم أجمع.