وضعت الحكومة في السنوات الأخيرة تطوير قطاع التعدين والمناجم ضمن أولوياتها الاستثمارية، بالنظر إلى إيجابياته الاقتصادية التي تتوقعها، خاصة وأن باطن البلاد يتوفر على قدرات هائلة من الأتربة والمعادن النادرة وذات القيمة التجارية، فهل سيكون التعدين خلاص الجزائر من الريع البترولي؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بالتحول من التبعية لبرميل النفط إلى تبعية لقضبان الحديد؟
الخبير الاقتصادي مراد كواشي: يجب الاستثمار في كل مجالات التعدين لفك تبعية الاقتصاد لقطاع المحروقات وتوفير مداخيل إضافية للبلاد
إمكانات ضخمة
لا تتوفر دراسة دقيقة تُحصي مُقدّرات الجزائر من المعادن والأتربة النادرة بشكل كامل ومُفصّل، إلّا أن عدة تقارير رسمية وعلمية تصنف الجزائر ضمن البلدان التي تتوفر على إمكانات هائلة في هذا المجال.
وتذكر تقديرات سابقة لمكتب البحوث الجيولوجية والمعدنية، التابع للوكالة الأفريقية للإعلام الاقتصادي والمالي، أن الجزائر تملك 20% من الاحتياطات العالمية للأتربة النادرة.
وقال الرئيس عبد المجيد تبون في أيار/ماي 2020 خلال لقاء تلفزيوني إن "الجزائر تزخر بثروات هائلة غير مستغلة، مثل المعادن النادرة التي تحتل الجزائر فيها المرتبة الثالثة او الرابعة عالميًا من حيث الاحتياطيات إضافة إلى الذهب والألماس واليورانيوم والنحاس وغيرها".
وفي كانون الأول/ديسمبر الماضي، أفاد بيان لوزارة الطاقة والمناجم بأن الوزير محمد عرقاب دعا إلى تشكيل فريق عمل بهدف دعم البحث والتكوين في مجال البحث المخبري والتكنولوجي للباحثين، خصوصًا ما يتعلق بالأتربة النادرة، وذلك خلال استقبل كل من البروفيسور رابح قشيشد، من كلية المحروقات والطاقات المتجددة وعلوم الأرض والكون بجامعة قاصدي مرباح، بورقلة، والمختص في أبحاث الفوسفات، وكذا البروفيسور سكر عبد الرؤوف، من جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين.
واستعرض الأستاذين الباحثين آخر الأبحاث في مجال تثمين الموارد المعدنية والاستثمار في الثروات المنجمية التي يزخر بها باطن الأرض بالجزائر ولاسيما في الجنوب الكبير، خاصة تلك المعادن التي يتم البحث عن خصائصها بشكل كبير في العديد من التطبيقات المتقدمة، على اعتبار أنها الأساس لصناعة التكنولوجيا العالية، مبينين أن الأتربة النادرة، التي تزخر بها الجزائر، تحتوي على معادن لها مواصفات كيميائية خاصة، ولا يمكن الوصول إليها، إلاّ في مناطق نادرة عبر العالم.
وبخصوص المعادن المعروف مكانها في الجزائر، يمكن الإشارة مثلًا إلى أن احتياطات الجزائر من خامات الحديد بغار جبيلات بولاية تندوف تقدر بـ5.5 مليار طن، حسب تصريحات سابقة لوزير الطاقة والمناجم، إضافة إلى 70 مليون طن من الحديد في مناجم الونزة وبوخضرة بتبسة.
وتقدر الإمكانات الأولية لاحتياطات الجزائر من الفوسفات بـ2.2 مليار طن، فيما تشير بيانات رسمية إلى أن إمكانات منجم تالا حمزة بأميزور للزنك ببجاية تبلغ نحو 34 مليون طن، مع إنتاج سنوي يصل إلى 170 ألف طن من مُركز الزنك، إضافة إلى توفر المنجم على قدرات معتبرة أيضا من معدن الرصاص.
وقال أستاذ الاقتصاد البروفيسور مراد كواشي لـ"الترا جزائرا" إن "الجزائر رغم امتلاكها قدرات كبيرة من المعادن والأتربة النادرة إلا أنها ظلت غير مستغلة لسنوات بالشكل المطلوب."
ليكمل: "وهو ما جعلها تضطر لاستيراد كميات معتبرة من الحديد على سبيل المثال رغم أن باطنها ينام على قدرات هائلة من هذا المعدن."
البروفيسور كواشي لـ "الترا جزائر": الجزائر تتوفر على 32 معدنًا رئيسيًا استغل منها من الاستقلال 18 معدنًا فقط
وأرجع كواشي هذا الإهمال السابق للمقدرات المعدنية الجزائرية إلى الاعتماد على عائدات المحروقات الذي كانت تنتهجه الحكومات السابقة، إضافة إلى أن استغلال هذه الثروة البطانية يتطلب استثمارًا بأموال ضخمة مصحوبة بتوفر التقنيات اللازمة لاستغلالها.
وأشار كواشي إلى أن الجزائر تتوفر على 32 معدنًا رئيسيًا، لم يستغل منها منذ الاستقلال حتى الآن سوى 18 معدنًا.
وقال الوزير عرقاب سابقًا إن الجزائر تمتلك احتياطات منجمية هائلة من الحديد والزنك والفوسفات ونحو ألف مادة معدنية نفيسة وغير نفيسة.
سياسة جديدة
ويقر الخبير الاقتصادي مراد كواشي أن الحكومة باشرت منذ سنتين سياسة جديدة لا تهمش قطاع المناجم والتعدين من استثماراتها الرئيسية الاقتصادية.
وشكل قطاع المناجم أحد النقاط الرئيسية للالتزامات الـ54 التي تضمنها برنامج الرئيس تبون الذي قال في تصريحات سابقة إنه من غير المعقول ألا "تستغل الجزائر هذه الثروات ولا تترك الغير أن يستغلها،..إذا تطلب الأمر التشارك مع دول صديقة في هذه المشاريع سنقوم بذلك".
وشرعت الحكومة بعدها في استثمارات كبيرة في هذا المجال تخص الحديد والذهب والزنك والفوسفات.
ويشكل منجم الحديد بغار جبيلات بتندوف أكبر البرامج الاستثمارية، حيث تشير تقديرات غير رسمية إلى أنه سيحقق عائدات للبلاد لا تقل عن 14 مليار دولار.
وفي 24 حزيران/جوان الماضي بتندوف، تم التوقيع على اتفاقية شراكة بين الشركة الجزائريى للحديد والصلب (فيرال) والائتلاف الصيني "سي. أم .أش" (CMH) تتعلق باستغلال خامات حديد منجم غار جبيلات-غرب، وتثمين إنتاجه عن طريق إنشاء مصنع لإنتاج بلاطات الصلب ببشار.
وبموجب هذه الاتفاقية، ينتظر أن يتم استخراج مليوني طن من خام الحديد سنويافي افاق 2026 من منجم غار جبيلات-غرب، قبل الوصول لسعة استخراج سنوية بـ50 مليون طن من خام الحديد في آفاق 2040.
وينتظر أن يساهم تنفيذ هذا المشروع المتكامل للتنمية التعدينية والمعدنية بشكل كبير في خفض انبعاثات الكربون وتحقيق التنمية المستدامة عالميا في صناعة الحديد والصلب، إلى جانب توفير عائدات هامة للجزائر، حسب التصريحات الرسمية.
واستوردت الجزائر في 2022 ما قيمته 1,2 مليار دولار من المواد الأولية الحديدية، إلا أنه عند الانتهاء من الاستثمارات الحالية في مجال صناعة الصلب في سنة 2025، سيتم توفير ما قيمته ملياري دولار، حيث سيزود هذا المنجم مصانع وهران وبلارة بجيجل والحجار بعنابة.
والشراكة مع الصين تشمل أيضا الاستثمار في مجال الفوسفات، فقد أعلنت سوناطراك الحكومية في آذار مارس 2022 إنشاء شركة مختلطة تحت مسمى "الشركة الجزائرية الصينية للأسمدة"، تحوز وحدتها التابعة "أسميدال" ومجمع مناجم الجزائر56 بالمئة من أسمهم الشركة الجديدة، و44 بالمئة لشركتي "ووهوان"، و"تيان آن" الصينيتين، باستثمار يقدر بنحو 7 مليارات دولار.
ويتمثل المشروع في استغلال مناجم الفوسفات بولاية تبسة، وإقامة مصنع للتحويل الكيميائي للفوسفات بسوق أهراس، وآخر لإنتاج الأسمدة بسكيكدة، وإنجاز منشآت بميناء عنابة.
والمشروع الثالث يتمثل في منجم الزنك والرصاص بمنطقتي أميزور وتالا حمزة ببجاية الذي سيدخل حيز الإنتاج سنة 2026، الذي سيكون بالشراكة مع المجمع الاسترالي “ويسترن ميديرترانين زنك”.
وبعد تجربة الأتراك الناجحة في استثمارات الحديد والصلب الناجحة بوهران عبر شركة توسيالي، والقطريين في المجال نفسه ببلارة بجيجل، أعلن مجمع "ليون" الماليزي إطلاق مشروع استثماري بالجزائر في مجال الفولاذ والألمنيوم، بقيمة 6 مليار دولار ، والذي ينتظر أن يوفر أكثر من 10 آلاف منصب عمل.
ويرى الخبير الاقتصادي مراد كواشي أنه يجب الاستثمار في كل مجالات التعدين لفك تبعية الاقتصاد لقطاع المحروقات، لتوفير مداخيل إضافية للبلاد، مشيرا إلى أن الشراكة مع الصينيين مفيدة بالنظر إلى تجربتهم في هذا المجال، ما سيمكن من تغطية غياب الخبرة لدى المتعامل الجزائري.
وقال كواشي إن "مساهمة القطاع المنجمي في الناتج الوطني الخام لم تتجاوز 1%، لكن اعتقد أن هذه النسبة قد ترتفع مستقبلًا بعدما أطلقت الدولة العديد من المشاريع الهامة في هذا المجال".
خطر الريع
ولتفادي الوقوع في الأخطاء المرتكبة سابقًا في قطاع المحروقات، يشدد كواشي على أن تُرفق الاستثمارات المنجمية الضخمة بـ"إقامة نسيج صناعي لتكرير وتحويل هذه المعادن محليًا، وعدم تصديرها كمواد خام حتى لا يتم استنزاف هذه الثروات، وأيضا من أجل المحافظة على نصيب الأجيال اللاحقة من هذه الثروات؛ فمثلا الفوسفات بعد تحويله يمكن أن تستخرج منها 8 مشتقات على الأقل تستخدم في الفلاحة، والطب، والصناعة العسكرية..".
وتسببت سياسة الريع البترولي في بقاء اقتصاد البلاد تابعًا للخارج حتى في مجال المحروقات، بالنظر إلى عدم تطوير مجال البتروكيمياء بالشكل اللازم في السنوات الأولى، حيث لم يتم الالتفات لهذا المجال إلا في السنوات الأخيرة، بعد أن استطاعت البلاد على سبيل المثال وقف استيراد الوقود من الخارج بتطوير المصافي المحلية.
ولا تتوقف أهمية إقامة صناعة حقيقية للتعدين في الجزائر على سد الاحتياجات المحلية والتصدير، إنما أيضا يتعلق الأمر بأهمية إقليمية، إذ أن استثمارات الفوسفات تجعل الجزائر لاعبا أساسيًا في المنطقة إلى جانب المغرب التي استأثرت بهذا المجال بسبب عدم اهتمام الحكومة بهذه الثروات المنجمية.
تتميز الاقتصاديات الكبرى والمتطورة بتنوعها وضخامة إنتاجها، واهتمام الجزائر بمجال التعدين يدخل في هذا الإطار، إلا إنه يجب ألا يتوقف عنده، وذلك بأن تستغل عائدات قطاع المناجم لتطوير مختلف الصناعات الأخرى لبناء اقتصاد حقيقي.