سجّل الاقتصاد الجزائري هذا العام ارتفاعًا في عدد المشاريع الاستثمارية، وهو ما يحتاج تمويلًا لاستمرارها ونجاحها، الأمر الذي يحتّم على الدولة اللجوء إلى البنوك العمومية لتقديم قروض للمتعاملين الاقتصاديين، في ظلّ رفض الحكومة للاستدانة والتمويل الخارجي، وضعف تمويل المصارف الخاصة للمشاريع الاقتصادية في مختلف المجالات.
الخبير يزيد بن صوشة لـ"الترا جزائر": تمويل المشاريع الاستثمارية في الجزائر يظل مرتكزًا على المؤسسات المالية المملوكة للدولة خدمة لتوجهاتها الاقتصادية
وإذا كان تطوُّر وتوُّنع الاقتصاد في مختلف دول العالم مبني على مدى قدرة البنوك على التفاعل مع الاستثمار الاقتصادي، فإن الأمر في الجزائر ما يزال مرتبطًا حتى اليوم بتدخل الدولة لدعم تنفيذ المشاريع، فما العوائق التي تقف وراء عدم الرفع من أداء تمويل البنوك للمشاريع الاستثمارية، وبالتحديد الخاصة منها؟
ارتفاع طفيف
قبل أيام، كشف الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان أن مجموع القروض الممنوحة للاقتصاد الوطني قد بلغ إلى غاية 30 حزيران/جوان الماضي ما يقدر بـ 10294 مليار دج، بزيادة تقدر بـ1.77 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من السنة الفارطة 2022، وهو ما ينم عن "الحركية الاقتصادية والتجارية الكبيرة والمتنامية" التي تشهدها البلاد.
وذكّر الوزير الأول بأن الحكومة اتخذت جملة التدابير المتخذة للإصلاح المالي والمصرفي، لاسيما من خلال تبسيط وتسهيل عملية تمويل الاقتصاد وتنويع عروض التمويل وتعميم استخدام وسائل الدفع الحديثة وإنشاء بنوك متخصصة وضمان الدعم والمرافقة المالية للمستثمرين والمؤسسات الخلاقة للثروة ومناصب الشغل من طرف البنوك.
واعتبر الوزير الأول بأن تمويل الاقتصاد الوطني من طرف البنوك، خاصة العمومية منها، بلغ نسبة "غير مسبوقة" هذا العام ، بفعل "الآليات التمويلية الجديدة المستخدمة من طرف البنوك، وكذا السرعة في دراسة ملفات القروض".
وشهر حزيران/جوان الماضي، قال وزير المالية لعزيز فايد إن قيمة القروض والإيجار المالي الممنوح من طرف البنوك والمؤسسات المالية المخصصة لتمويل الاقتصاد الوطني، بلغ مالا يقل عن 10 آلاف مليار دينار جزائري .
وقال فايد خلال إشرافه على يوم دراسي حول التمويل والمرافقة البنكية للمشاريع الاستثمارية، إن 70 بالمائة من رقم القروض الموجهة للتمويلات موجهة للاستثمار، مضيفا أن البنوك تسعى من خلال تمويل المشاريع الاستثمارية إلى المساهمة في خلق أكبر عدد ممكن من مناصب الشغل، وتدعيم المنافسة الاقتصادية والاقتصاد الوطني وقدرته على تحسين المنتوجات.
ودعا الوزير، إلى وضع آليات تعتمد على دراسات الجدوى والدراسات القبلية في تحديد نجاعة التمويل البنكي وتقييم الفرص الاستثمارية المتاحة، بغرض تقييم جميع العوامل المالية والاقتصادية والتجارية المتعلقة بالمشروع قبل اتخاذ قرار بتمويله بواسطة البنوك.
ويظل تمويل المشاريع الاستثمارية في الجزائر مرتكزًا على المؤسسات المالية المملوكة للدولة، حيث تعتمد إستراتيجية البنوك العمومية في التمويل غالبًا لخدمة التوجهات الاقتصادية للدولة، وفق ما أوضحه أستاذ المالية والمحاسبة بجامعة قسنطينة، الدكتور بن صوشة يزيد لـ"الترا جزائر".
أضاف بن صوشة أنّ "البنوك العمومية تقوم بضخ أموال في شكل تمويل للمشاريع الاستثمارية التي تخدم الاقتصاد الوطني، وتساهم في خلق مناصب شغل وتنمية القطاعات الاقتصادية الهامة وترقية الصادرات خارج قطاع المحروقات، وهو ما بدأت الجزائر في تحقيقه فعلا من خلال ارتفاع حجم الصادرات خارج قطاع المحروقات من 1.9 مليار دولار سنة 2019 إلى 7 مليار دولار سنة 2022، والعمل على بلوغ 13 مليار دولار خلال السنة الحالية".
وقال المندوب العام للجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية، رشيد بلعيد، بداية شهر حزيران/جوان الماضي إن "حجم التمويل المقدم من قبل الجهاز البنكي الجزائري خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بلغ 2300 مليار دينار."
وبين بلعيد أن "قبول ملفات التمويل مرتبط بجملة من المعايير، في مقدمتها عرض مشروع مدروس من جميع النواحي، وعرض تاريخ علاقة المؤسسة مع البنك الذي أودعت لديه طلب التمويل."
مساهمة ضئيلة
ويطرح عدم انسجام القطاع البنكي الخاص مع هذا التوجه الحكومي عدة تساؤلات، بالنظر إلى المزايا التي يستفيد منها في السوق الجزائرية، إلا أنه لا يقوم باستثمارات كبرى في دعم المؤسسات الاقتصادية سواء الخاصة أو العمومية.
وقال الدكتور يزيد بن صوشة في هذا الشأن لـ"الترا جزائر" إن "حجم مساهمة القطاع الخاص الناشط في مجال البنوك في تمويل المشاريع الاستثمارية يبقى ضعيفًا مقارنة مع ما هو عليه في العديد من الدول، نظرًا لضبابية وعدم استقرار النظام البيئي الخاص بهذا المجال في الجزائر، إضافة إلى صعوبة الحصول على التمويل، والضمانات الكبيرة التي تطلبها البنوك الخاصة؛ في حين نجد في الجهة المقابلة توجه اجتماعي وتسهيلات من طرف الدولة في تمويل المشاريع ومنح القروض من خلال وكالات وصناديق الدعم".
ولا يتعلق ضعف تمويل المشاريع الاستثمارية فقط بالبنوك الخاصة، إنما حتى بالمؤسسات المصرفية العمومية رغم ارتفاع تمويلها وفرقه الشاسع مع القطاع الخاص، فالاجتماع الفصلي مع البنوك والمؤسسات المالية الذي عقده محافظ بنك الجزائر صلاح الدين طالب نهاية شهر أيار ماي الماضي تمحور موضوعه الأساسي حول تمويل الاقتصاد.
وأفاد بيان لبنك الجزائر، بأنه تم خلال هذا الاجتماع دعوة البنوك إلى "تعزيز وتطوير تمويل الاقتصاد، بما ان هذه الأخيرة تسجل ظروفا مناسبة من حيث السيولة والقدرة على الدفع, مما يدل على توفر هامش كبير في هذا المجال".
وأوضح بنك الجزائر، أن تحليل المؤشرات للفترة الممتدة بين 2022 ونهاية مارس 2023، تشير إلى نمو للقروض إلا أنها تظل "غير كافية" بالنظر إلى إمكانيات تمويل القطاع المصرفي.
تشريع جديد
يعتقد أستاذ المالية والمحاسبة بجامعة قسنطينة الدكتور بن صوشة يزيد أن تمويل البنوك لمجال الاستثمار قد يواصل ارتفاعه، بفضل التعديلات التي شهدها قانون القرض والنقد، والتي حاوت تحيين التشريعات بما تتماشى مع السوق المالية الجزائرية.
وقال بن صوشة إن "قانون النقد والقرض الجديد جاء بالعديد من الأمور الهامة، وبالخصوص فيما يتعلق بملاءمة بعض الأحكام مع تلك المنصوص عليها في قوانين المالية المتعلقة بالقطاع المصرفي، وإلغاء القاعدة 51/49 والسهم النوعي، وحق الشفعة، وهذا سيساهم لا محالة في النهوض بهذا القطاع وضبط آليات تمويل البنوك للمشاريع الاستثمارية".
بنك الجزائر: قانون النقد والصرف سيدفع بالمزيد من الاستثمارات عبر بروز فاعلين جدد ويوسع عرض منتجات التمويل والخدمات البنكية
وبدوره، يعتقد بنك الجزائر أن "الإطار القانوني الجديد يستجيب بشكل أفضل للابتكارات والتطورات التكنولوجية، ويدفع مزيدًا من الاستثمارات عبر بروز فاعلين جدد ويوسع عرض منتجات التمويل والخدمات البنكية"، مبينا أن الأمر يتعلق "بمرحلة أساسية، يجب على المنظومة البنكية التكيف معها عبر المساهمة في إرساء صناعة بنكية فعالة من شانها ضمان تنمية مستدامة".
ومن البنود الجديدة التي تضمنها قانون القرض والنقد الجديد هو الصيرفة الإسلامية التي أعطاها السند التشريعي اللازم الذي كان مُغيبًا في السنوات الماضية، حيت تم اليوم فتح حوالي 600 شباك خاص بهذه الخدمة على مستوى مختلف المؤسسات البنكية الجزائرية
من المؤكد أن تطوير التمويل البنكي للاقتصاد ضرورة حتمية لإنعاش قطاع الاستثمار، إلّا أن هذا التطوير يجب أن يحرص على تفادي الوقع في الأخطاء التي وقعت فيها تجارب سابقة، مثل بنك الخليفة والبنك الصناعي التجاري، بالنظر إلى أن الخزينة العمومية هي من يدفع الخسائر المترتبة عن أخطاء المؤسسات المصرفية سواء كانت عمومية أو خاصة، لذلك تبقى الرقابة الإيجابية ضرورية ومحمودة.