تعكف الحكومة الجزائرية حاليًا على إدخال إصلاحات مالية جديدة للتشريعات المنظمة لهذا المجال، بهدف تحريك سوق المال والمصارف في الجزائر بالنظر إلى أنها تظل لا تواكب التطورات التي حدثت في المجال عالميًا وحتى عربيًا، ولعل عدم حيوية بورصة الجزائر واستقطابها بشكلٍ كبير للمكتتبين أكبر دليل على ذلك.
إذا كانت السلطات جادة في تطوير اقتصاد البلاد، وجعله متنوعًا ومتطورًا منفتحًا على العالم، فإن تطوير السوق المالية وإدخال المرونة اللازمة في التداولات المالية وعمليات صرف العملات تعد من الضروريات التي يجب توفيرها
وإذا كانت السلطات جادة في تطوير اقتصاد البلاد، وجعله متنوعًا ومتطورًا منفتحًا على العالم، فإن تطوير السوق المالية وإدخال المرونة اللازمة في التداولات المالية وعمليات صرف العملات تعد من الضروريات التي يجب توفيرها لتحقيق هذا الهدف الذي لا مناص منه.
إعادة تفعيل
قبل أيام، عقد وزير المالية لعزيز فايد جلسة عمل مع رئيس لجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها وممثلي المديرية العامة للخزينة والتسير المحاسبي للعمليات المالية للدولة، لأجل "إجراء مناقشة معمقة حول برنامج إصلاح السوق المالية الوطنية".
وحسب ما ورد في موقع وزارة المالية، فإن اللقاء هدف إلى استعراض السبل الأساسية التي من شأنها تنشيط السوق المالية، مع احترام السياق والبيئة الحاليين، حيث تمثل الثقة والاستقرار ركائز رئيسة لهذه السوق.
وشدّد وزير المالية على أهمية تنفيذ الآليات الشفافة والفعالة لضمان كسب ثقة المستثمرين والأطراف الفاعلة في السوق وجعلهم ينضمون لهذا المسار، كونها تسمح بتعزيز الحوكمة وتقليص المخاطر وزيادة نمو سليم ومستدام للسوق، إضافة إلى إطلاق حملة تحسيسية ترمي إلى تثقيف المستثمرين والجمهور الكبير حول أسس التمويل، بهدف توفير المعلومات ذات الصلة والمتاحة من أجل مساعدة المستثمرين وكل المتدخلين في السوق المالية لفهم شتى جوانب السوق المالية بطريقة مثلى ولاتخاذ قرارات مدروسة وسليمة.
وكان تقرير التنافسية العالمية لفترة 2018-2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، قد صنف الجزائر في المرتبة 92 عالميا من أصل 140 بلدا، ما يعني أن قواعد المنافسة الاقتصادية النزيهة والشفافة في الجزائر تظل ضعيفة.
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف فارس هباش لـ"الترا جزائر"، أن السوق المالية تعتبر أحد الدعامات الرئيسية في تنشيط الاقتصاديات الوطنية ومن ثم دفع عجلة التنمية الاقتصادية، لما يتيحه من حركية في التعاملات المالية.
لكن هباش لفت إلى أن "السوق المالي في الجزائر وبالرغم من دخوله حيز التنفيذ سنة 1988 بعد الإصلاحات التي أعلن عنها سنة 1987 ظل مجرد حبر على ورق، ولم يجد سبيل التعامل والتداول المالي الحقيقي نتيجة طبيعة الاقتصاد الوطني التي لم تتماش والفلسفة المالية الحديثة للنظام الاقتصاد الرأسمالي، بالرغم من إرساء حزمة واسعة من القوانين التي حاولت كل مرة إعطاء دفع للسوق المالية وتنشيط التداولات على مستوى بورصة الجزائر خاصة في ظل اتجاه الجزائر إلى تبني اقتصاد السوق إلا أن الوضع قائم على حاله".
تنشيط البورصة
تظهر الإصلاحات المالية الحقيقية في الاقتصاد الحديث في حجم التداولات الموجودة في البورصة ونوعيتها، لذلك كان رفع عدد الشركات المسجلة في البورصة ضمن الاهتمامات التي درسها وزير المالية مع الهيئات المالية العمومية.
ويشير الأستاذ فارس هباش إلى أن "بورصة الجزائر بقت مجرد هيكل لا يعرف أي تداولات حقيقية، وفق الأطر الحديثة للتداول في سوق الأوراق المالية نتيجة عدم انخراط معظم المؤسسات الاقتصادية الجزائرية الخاصة في هذا المسعى، عدا بعض كبريات المؤسسات العمومية والتي كان انخراطها في بورصة الجزائر مجرد تسجيل فقط بقيم اسمية دون وجود أي تداول حقيقي".
ويوعز هباش هذا العزوف عن دخول بورصة الجزائر إلى "عدم وجود ثقافة التداول المالي لدى المؤسسات سواء الخاصة منها أو العمومية، وعدم جاهزية الأرضية الاستثمارية المالية على هذا المستوى، ما نجم عنه ضعف واضح في مؤشري كل من السوق الأولى والسوق الثانوية، حيث ظل مؤشر معدل دوران الأسهم والذي يقيس إجمالي الأسهم المتداولة من إجمالي الأسهم المدرجة في البورصة ويعبر بذلك عن مدى حركية وديناميكية السوق المالي ضعيفا جدا ومتذبذبا من سنة إلى أخرى".
وحسب هباش، فإن هذا الضعف يؤكد " بوضوح عدم فعالية سوق التداولات المالية في الجزائر، وأن الخطوة بقت مجرد حبر على ورق دون وجود أي تداول مالي حقيقي، عكس ما يحدث مثلا في بعض الدول الخليجية التي قطعت أشواطا معتبرة في مستوى تطور أسواقها المالية".
إجراءات
خلال اجتماع الإصلاحات المالية، دعا وزير المالية كل الأطراف الفاعلة في السوق إلى العمل معا قصد ضمان نجاح هذه الحملة التي ستباشرها مصالحه، من أجل خلق بيئة تشجع المعرفة والفعالية المالية.
وشدد الوزير على "وضع خطة استراتيجية تتمحور حول تطوير أسواق رؤوس الأموال والبورصة، وتعزيز جاذبية سوق الجزائر المالي عبر مبادرات تشاركية طموحة تضم عديد الفاعلين، وإطلاق حملة إعلامية متواصلة واسعة تهدف إلى ترقية الثقافة المالية، وتحيين النصوص القانونية مع تكييفها مع الديناميكية الحالية التي يعرفها الاقتصاد الوطني، ورفع عدد الشركات المسجلة في البورصة بالتشاور مع المنظمات المهنية وأرباب العمل المعنيين، وتعزيز الشمول المالي كوسيلة للتنمية المالية".
ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف فارس هباش أن "تشجيع وتطوير السوق المالية يمكن أن يساهم في إعطاء دفعة قوية للاقتصاد الوطني، حيث يتيح إمكانية تمويل الشركات والمشاريع، ويسمح للمؤسسات بطرح أسهمها أو سنداتها في السوق المالية لجمع الأموال وتمويل مشروعاتها أو توسيع أعمالها، إضافة إلى الوصول إلى رأس المال الإضافي بعيدًا عن التمويل التقليدي من القروض".
وبين محدث "الترا جزائر"، أن "تطوير سوق الأوراق المالية محفز جيد للاستثمار، لأن فعالية السوق المالية ترفع من مستوى الشفافية وتقلل من المخاطر المترتبة على الاستثمار، ما يزيد من ثقة المستثمرين ويمكنهم من شراء وبيع الأصول المالية بسهولة، كونه سيعزز سرعة التدفقات المالية".
وتابع قائلًا إن "وجود سوق مالية قوية سيعزز المراقبة والإفصاحات المالية، لأن لتقارير الدورية للشركات المدرجة تزيد من شفافية العمليات المالية وتسهم في منع التلاعب، لأن هيئات المراقبة تلعب دورًا مهمًا في ضمان الامتثال للقوانين واللوائح المالية، ناهيك عن جذب الاستثمارات الأجنبية، مما يسهم في تحسين التوازن في المعاملات الجارية."
يستطرد أستاذ الإقتصاد أن وجود سوق مالي متطور في الجزائر سيساهم في توزيع الثروة من خلال الاستثمار في السوق المالية، حيث يمكن للأفراد من مختلف الفئات الاقتصادية الاستفادة من النمو الاقتصادي وزيادة القيمة، فالسوق المالية تمكن الأفراد من الاستفادة من أرباح الشركات وتحسين كفاءة رأس المال، و"هو ما يعزز توجيه رأس المال نحو الاستخدامات الأكثر كفاءة، وإحداث توازن بين العرض والطلب على الأموال، مما يحد من تضخم الأسعار ويحسن توجيه الاستثمارات، إضافة إلى تحسين أداء الاقتصاد، حيث تعد مؤشرات السوق المالية علامة على صحة وقوة الاقتصاد".
ويربط هباش تحقيق هذه الأهداف بتحديث القوانين المنظمة لتكون أكثر انسجامًا مع التطورات الاقتصادية والمالية، وتوفير التعليم المالي اللازم، إضافة إلى تطوير الأدوات المالية لتتناسب مع احتياجات المستثمرين وتوفر فرصًا للتنويع وتقليل المخاطر، وتحسين البنية التحتية المالية كنظم الدفع والتسوية.
التعجيل باتخاذ هذه الإصلاحات والخطوات التشريعية والإجرائية سيساهم في تنشيط السوق المالية الجزائرية
يبدو أن التعجيل باتخاذ هذه الإصلاحات والخطوات التشريعية والإجرائية سيساهم في تنشيط السوق المالية الجزائرية، ويجعل التفاؤل الذي تحدث عنه وزير المالية أبعد عن مجرد خطابات مناسباتية أثبت السنوات أنها لم تضف شيئًا للاقتصاد الجزائري، الذي أصبح محتمًا عليه التخلص من صفته الريعية والتوجه نحو التنوع والانفتاح الحقيقي على المبادرة الخاصة والأجنبية.