14-يوليو-2019

عرف الخطاب الإعلامي في الجزائر تحولًا بعد الحراك الشعبي (رويترز)

من الأدوات  التي تساعد في إعطاء مؤشرات للاستدلال على مسار أو نتاج أي حراك سياسي، هو نمط الخطاب الإعلامي الذي تنتهجه كل من مؤسسات الميديا العامة والخاصة، خاصة في بلد مثل الجزائر أتى الحراك الاحتجاجي فيه نتيجة لنظام ديكتاتوري ترتبط فيه رؤوس الأموال الخاصة بعلاقات انتفاعية مع الدولة، ويسود فيه الصوت الواحد، حيث لا مكان لمعارضة حقيقية.

 بعد الحراك الشعبي في الجزائر لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى تغيرت بوصلة خطاب الإعلام المملوك للدولة

لذلك يكون من المهم البحث في نمط الخطاب الإعلامي قبل و بعد الحراك، للخروج بمسببات تغيراته السريعة الملفتة، ومحاولة استنباط ما سيؤول إليه الوضع في مرحلة ما بعد الحراك.

اقرأ/ي أيضًا: ثلاث خواطر من داخل الحراك السّلميّ في الجزائر

خطاب ما بعد الحراك.. أكثر تحررًا لكن بنمط مؤسساتي مختلف

لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى تتغير بوصلة الخطاب الإعلامي المملوك للدولة من كونه بوقًا للنظام، إلى تقديم الرؤية الواقعية للأحداث، فمع الجمعة الثانية للحراك كانت الإذاعة الوطنية ووكالة الأنباء الجزائرية والتلفزيون العمومي وجريدتي المجاهد والشعب، قد تحرروا بشكل كبير من الثقل الرقابي، وبدأوا بتقديم صورة حيادية تنقل الأحداث من موقعها كما هي، وتعطي معلومات صحيحة دون خوف.

وهذا ما أكده العديد من المتابعين للحراك والمؤيدين له، كما تمت ملاحظته مع المقارنة بين المحتوى المؤيد للسلطة مع إعلان ترشح الرئيس المقال عبدالعزيز بوتفليقة، وما حدث بعد ذلك من انطلاقةٍ أكبر بعد تراجعه عن الترشح عن عهدة خامسة ثم تنحيه بتقديم محتوى أكثر موضوعية وواقعية، ومع التزام الحياد التام تجاه مطالب الحراك.

جريدة الوقت الجزائرية المستقلة، وكلًا من قناتي دزاير تي في ودزاير نيوز، اللتان تتبعان لنفس المؤسسة الإعلامية، ثلاثتهم تميزوا من قبل الحراك (وحتى قبل إعلان بوتفليقة للترشح للرئاسة)، ورغم وجود رقابة كبيرة على الصحف والقنوات؛ بقدرتهم على تقديم ملفات جادة ومهمة

لكنهم رغم اختلاف أدائهم الإعلامي بعض الشيء عن باقي الوسائل الإعلامية الأخرى، إلا أنهم أيضًا لم يتناولوا الأمور المتعلقة بالسلطة إلا بتحفظ كبير، كما أنهم قاموا أيضًا بنشر مواد مكثفة قبل أسابيع قليلة من الحراك، لتفنيد التهم الموجهة لرجل الأعمال مالك المجموعة الإعلامية، علي حداد. 

مع الحراك انتقلت المجموعة الإعلامية للوقوف في صف الحراك،  ليتم تغطية الأحداث في الموقف الجديد بموضوعية يغلب فيها الانحياز لمطالب الشعب، حتى أن الكثيرين أشادوا بأداء العاملين في القناتين، على الأخص وما قدّموه من مستوى مهني، متناسين ما قُدِّم منذ شهور قليلة قبل الحراك.

علامة الاستفهام الأكبر على الساحة هي قناة الشروق، فمؤسسة الشروق متمثلة في الجريدة والقناة كانتا بصف عبد العزيز بوتفليقة قبل الحراك ومع أيامه الأولى، لكنهما بعد إعلانه عدم ترشحه لفترة رئاسية إضافية، اتجها لتأييد مؤسسة الجيش بشكل غير مباشر، إذ تميزت مانشيتاتهم دائمًا بإبراز التصريحات المنسوبة لقيادات الجيش وقائد الأركان أحمد قايد صالح، في خطوة عدّها الكثير من المراقبين سلبية للغاية، خاصة مع الاتهامات الموجهة للمؤسسة التي ترى أنها تعمل بشكل كبير على إفراغ تلك الحركة الاحتجاجية من محتواها وتثبيط الشعب ونشر الشائعات المغرضة.

ينكر ممثلو المؤسسة مثل تلك الادعاءات، ويؤكدون وقوفهم بجانب الحراك بكل مطالبه الرافضة لأي وصاية من أي مؤسسة من مؤسسات الدولة أو حدوث التفاف على المسار الذي حددته الجماهير المتظاهرة بشوارع الجزائر.

لكن الخطاب المبهم المستعمل بها، وما تبثه من محتوى يركز بشكل خفي على شخص قايد صالح، يطرح العديد من التساؤلات، مثل: هل كانت الشروق حقًا مع الحراك الشعبي، أم أنها تبحث عن كيان آخر جاهز للوقوف خلفه؟ 

مثلًا، واقعة مانشيت صحيفة الشروق "الشعب يفوض الجيش"، والذي اعتذرت عنه الصحيفة لاحقًا، مؤكدةً أن موقفها هو تأييد مطالب الشعب. لكن اللافت للنظر أن ذلك المانشيت أتى قبل ساعات من إعلان الرئيس بوتفليقة استقالته من منصبه قبل موعد نهاية مدته الرسمي، ليفتح المجال للكثير من التكهنات حول رجل المرحلة الانتقالية.

لذلك فما يمكن استخلاصه هو أن الأداء الإعلامي للمنابر الإعلامية الكبرى الأكثر شعبية بالجزائر والمؤثرة على الجمهور، عرف تحولًا واضحًا بعد 22 شباط/فبراير، من معسكر النظام إلى الرؤية الأقرب للموضوعية مع بعض الانحياز لمطالب الشعب، بنسب متفاوتة.

توجيه من الدولة.. وعلاقة رؤوس الأموال بالسلطة

التفاصيل التي اختلفت من وسيلة إعلامية إلى أخرى يمكن ربطها بشكل كبير بعلاقة كل من رؤوس الأموال المتحكمة في تلك المؤسسات الإعلامية، بنظام بوتفليقة، وطبيعتها السياسية والاقتصادية، والوضع المادي لتلك الوسائل الإعلامية.

كما يجب أيضًا عدم استبعاد موقف الأطراف السياسية في الساحة، والسياق الذي يفرضه الطرف الأكثر هيمنة وسلطة.

لا كثير يقال حول المنابر الإعلامية الحكومية، والتي من الواضح أنها وفي ظل نظام ديكتاتوري، لم يكن من المتاح لها أن تجد متنفسًا لتقديم أي محتوى يخالف رؤية النظام الحاكم، لذلك، بعد تنحي بوتفليقة، تحررت تلك الوسائل العامة بشكل كبير من تلك القيود. 

من جهة المنابر الخاصة، فلها وضع خاص، فإذا بدأنا بمؤسسة الشروق مثلًا، فالوضع الاقتصادي فيها مذبذب بشكل كبير، وتعاني أزمة ديون منذ نحو عامين، ما جعلها هدفًا سهلًا لتكون المروج الخاص للنظام. 

يذكر أنه قبل الانتخابات بفترة ليست بالكبيرة، حدثت انتعاشة في الشروق، تبين بعد ذلك أن سببها الحصول على منحة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لتقوم القناة بتغطية دعايته الانتخابية. لكن ذلك المورد بالطبع سينضب وستجد المؤسسة نفسها في دوامة أخرى بعد استقالته.

أيضًا رغم أنه كان من المتوقع أن يلقى القبض على مالك المؤسسة رسميًا، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، كما أنه لم يتم منعه من السفر على خلفية القرارات الأخيرة بعد استقالة بوتفليقة. 

تم اعتقاله فقط من قبل قوات فرعية في 27 آذار/مارس الماضي، واقتيد إلى مكان مجهول، قبل أن يتم الإفراج عنه. وعلقت النيابة العامة بشأن ذلك الحادث بأنها لم تعطي أوامر لأي من قوات الأمن بالقبض عليه، وأن القوات التي قامت بذلك التوقيف لم ترجع للنيابة العامة. من جانبه اتهم مالك المؤسسة، شقيق بوتفليقة، سعيد بوتفليقة، بالوقوف وراء اختطافه.

أما علي حداد، مالك قناة دزاير تي في ودزاير نيوز، وجريدة وقت الجزائر، والذي يترأس منتدى رؤساء المؤسسات، الذي يعتبر أكبر تجمع لرجال الأعمال  الجزائريين، ويملك نادي الاتحاد الجزائري، وقد صنفته فوربس ضمن أغنى أغنياء الجزائر.

ورغم أنه مستقل ولا ينتمي لتيار سياسي بعينه، لكنه لتنمية مشاريعه ربط نفسه بعلاقات وثيقة للغاية مع سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، مكنته من الحصول على العديد من الامتيازات من الدولة  لإقامة مشاريع في وقتها لم تكن تملك مجموعة شركاته الخبرة الواسعة التي تؤهلها لنيلها، ولكنه لم يكتفي بإقامة علاقات بمحيط الرئاسة، بل ارتبط اسمه أيضا بقيادات من الجيش مثل الجنرال تواتي.

لذا لما يملكه من علاقات مختلفة داخل السلطة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، ولاستقرار مؤسسته الإعلامية ماديًا، استطاعت مؤسسته أن تجد متنفسًا أكبر بعد سقوط النظام، ومن قبل أكثر من الشروق. ولم يكن هناك أمام أذرعها أي عائق من الاصطفاف مع مطالب الشعب.

هل تتغير لغة الخطاب الإعلامي الحالي؟

هناك حالة فراغ كبيرة موجودة بالسلطة، والأحزاب السياسية، بما فيها التي تصف نفسها أحزاب معارضة، لا تلقى أي تأييد في الشارع من قبل نشطاء الحراك الذين يعتبرونها جزءًا من السلطة.

هذا الفراغ يجعل الطريق ممهدًا أمام العملية الانتقالية المتوقعة حسب تخطيط وضمانات الطرف السياسي الأقوى حاليًا، وهو المؤسسة العسكرية، وقد كان لذلك دلائل بعد أن بدأت معظم وسائل الإعلام في مناقشة الأزمة التي يمكن أن تحدث في حالة عدم تولي بن صالح للرئاسة مؤقتًا، وهي الخطوة التي كان يرفضها الحراك باعتبار بن صالح أحد أركان "العصابة".

وفقًا للاتجاه الحالي، فهناك ميل عام لمهادنة مطالب الحراك الشعبي، لذلك لا توقعات لتغيير قد يطال الخطاب الإعلامي

ووفقًا للاتجاه الحالي، فهناك ميل عام لمهادنة مطالب الحراك، وهذا ما يظهر حتى في خطابات رئيس الأركان قايد صالح، لذلك فلا توقعات لتغييرٍ في الخطاب الإعلامي إلا لو كان للجيش رؤية أخرى أو تصور لرئيس من خلفية عسكرية، فلن يكون هنالك مجالًا كبيرًا للاعتراض خاصة مع إحكام  القبضة على ملاك المنابر الإعلامية من أصحاب العلاقات المباشرة مع السلطة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسائل مثقفين وإعلاميين جزائريين إلى بوتفليقة وشقيقه: "ضيّعتم كل الفرص"

حجب الإعلانات عن قناتين جزائريتين بسبب تغطيتهما "الواضحة" للحراك الشعبي!