أحيا الدّور الأخير الذي لعبته الجزائر، في إنضاج الحلّ السياسي للأزمة الليبية، والدّفع نحو إطلاق النار في طرابلس، الآمال في عودة الدبلوماسية الجزائرية إلى سابق عهدها، ولعب أدوارٍ مهمّة، تُضاف إلى رصيدٍ تاريخيٍّ في حلّ الصراعات بين الدول، ولو على حساب أزمتها الداخلية.
تبنّي الجزائر لمبدأ الانتقال الديمقراطي في حلحلة أزمات عديد الدول، هو استمرار لعدّة مهام دبلوماسية سابقة
سنوات الغياب
بعد سنوات من الغياب عن المشهد الإقليمي والدّولي، خاصّة منذ تعرّض الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة لوعكة صحيّة في نيسان/أفريل 2013، ثم بسبب ظروف الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد، في أعقاب اندلاع الحراك الشعبي في شبّاط/فيفري2019، عادت الجزائر بشكلٍ لافتٍ إلى المشهد الإقليمي من نافذة الأزمة الليبية، حيث شهدت البلاد خلال الأيّام القليلة الماضية، حركية دبلوماسية تمثّلت في سلسلة زيارات لوزراء خارجية كلّ من تركيا وإيطاليا ومصر، إضافة إلى وفد من حكومة الوفاق الوطني بقيادة السراج، ووفد من حكومة طبرق الموالية لحفتر، بقيادة وزير خارجيته الهادي الحويج، كانت كلّها ذات صلة بالأزمة الليبية وتطوّراتها، التي كانت تقف عند منعطف بالغ الحساسية، بين الحرب والحلحلة السياسية.
دور الجزائر في الأزمة الليبية.. حنكة سياسية أم حتمية الموقع الجغرافي؟
اللافت من الخطابات الأولى للرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، فيما يخصّ الشؤون الدبلوماسية، وعلاقات الجزائر الخارجية، وموقعها في أزمات المنطقة وإقليم الساحل، أنّ هناك تحوّلًا واضحًا للجزائر في تعاطيها مع هذه الأزمات، خاصّة الأزمة في ليبيا وفي شمال مالي، عمّا كانت عليه في السنوات الأخيرة الماضية.
تعتبر الجزائر أنها معنية بالأزمتين الليبية والمالية على الصّعيدين؛ السّياسي بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية والأمنية، بحكم الحدود البرّية التي تجمعها مع مالي وليبيا، وضرورات الأمن القومي للبلاد.
الدور الذي تلعبه الجزائر اليوم، يزكّيه متابعون للشأن الاستراتيجي، مثلما قال الأستاذ في العلوم السياسية عبد الله بودهان في حديث إلى "الترا جزائر"، مشدّدًا على أن السياسة والأمن عاملان مهمّان ووجهان للبلد لا ينفصلان، في سياق دولي متحوّل ومتحرّك، على حدّ تعبيره.
الثابت أن العاملان السابقان؛ هما من دفعا الجزائر إلى التحرّك على الصعيد الخارجي، وربّما إلى الدفع أيضًا إلى حمل عديد الدول، للمسارعة إلى إشراكها في القضية الليبية بعدما استبعدت في وقت سابق من مؤتمر برلين، هنا، يقول بودهان، إنّ كلّ المستجدّات المتسارعة دفعت الجزائر إلى إعلان مواقف جدّية، واتخاذ خطوات عملية ساعدت في "إنضاج الحلّ السياسي في ليبيا".
رصيد في الدبلوماسية
عودة الجزائر إلى الفاعلية الدبلوماسية، جاء تزامنًا مع تعافيها سياسيًا، بعد انتخابات الرئاسة التي جرت في 12 كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، إذ أنّ البعد الجغرافي والسياسي للجزائر، يؤهّلها للعب أدوارٍ دبلوماسية متقدّمة، على الأقلّ في المشكلات والأزمات الخاصّة بمنطقتها وبمنطقة الساحل وأفريقيا، مثل أزمة ليبيا ومالي والنيجر، خاصّة وأن الجزائر تملك عديد العوامل والمعطيات الإيجابية التي تؤهّلها لذلك، من حيث التزامها في علاقاتها الخارجية والإقليمية، بمبدأ حسن الجوار وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، والدفع الدائم للحوار السياسي، كآلية لحلّ الأزمات ورفض التدخّلات السياسية والعسكرية.
تبنّي الجزائر لمبدأ الانتقال الديمقراطي في حلحلة أزمات عديد الدول، هو استمرار لعدّة مهام دبلوماسية قامت بها في السابق، إذ يحُسب للمدرسة الدبلوماسية الجزائرية منذ السبعينات، مساهمتها في حلّ عددٍ من الأزمات المعقدّة، كأزمة اختطاف وزراء النفط، لمنظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط "أوبك" عام 1975، وإصلاح العلاقة بين العراق وإيران، ودفعهما للتوقيع على اتفاقية الجزائر في حزيران/جوان عام 1975، وهي الاتفاقية التي وقّعها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، مع شاه إيران محمد رضا بهلوي.
علاوة على ذلك، تدخّلت الجزائر في حلّ أزمة الرّهائن الأميركيين في إيران، إذ احتجز طلبة إيرانيون 52 أميركيًا في السفارة الأميركية بطهران عام 1980، انتهت باتفاقية الجزائر في 19 كانون الثاني/جانفي 1981، وأُفرج عن الرهان بعد احتجاز دام 444 يومًا، وفي اتفاق الطائف، قاد الدّبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي مساعي إنهاء الحرب اللبنانية عام 1989، وكان يشغل وقتها منصب المبعوث الخاص لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة إلى لبنان.
اتفاقيات سلام
خلال العقدين الماضيين، تمحورت الإسهامات الدبلوماسية للجزائر في القارة الأفريقية، حيث لعبت دورًا في إنجاح اتّفاق سلام بين إثيوبيا وإرتيريا في الجزائر في كانون الأول/ديسمبر عام 2000، وأيضًا في إحلال السلام بين حركات أزواد في شمال النيجر والحكومة المركزية في نيامي عام 2005، وظلّت ترعى حتى الآن اتفاق السلام، كما رعت جلسات طويلة من المفاوضات السياسية، بين قادة حركات التوارق والحركات المسلّحة في منطقة شمال مالي، والحكومة المركزية في بماكو، توّجت باتفاق سلام وُقّع في الجزائر في أيّار/ماي 2015.
يعتبر كثيرون أن إسهامات الجزائر في إنهاء الأزمات الدولية يُمكن أن يعيدها إلى الواجهة الإقليمية
يعتبر كثيرون إسهامات الجزائر في إنهاء الأزمات الدولية، تراكمًا دبلوماسيًا يُمكن أن يعيدها إلى الواجهة الإقليمية، إذ يشدّد العارفون بالدبلوماسية الجزائرية، أنها تملك من الكوادر القادرة على تسيير الأزمات وإحلال السلام بعيدًا عن لغة السلاح، والبقاء في صفّ "عقيدتها الخارجية"، الداعية للحلول السياسية السلمية، جنّب متاهات الصراع المسلّح المكلفة جدًا.
دور الجزائر في الأزمة الليبية.. تقليصًا لمساحة فرنسا ومصر والإمارات
إيطاليا تدعم الموقف الجزائري بشأن الأزمة الليبية