23-يونيو-2019

لوحة الصرخة لإدوارد مونش (Getty)

أستلقي على الأرض. ذراعاي يُؤلمانني بشدّة. هذه أوّل مرّة أقوم فيها بإنعاش قلبٍ حقيقيٍّ. قُمت بذلك عشرات المرّات على دمًى مخصّصةٍ للمحاكاة. كانت تلك الأجسام البلاستيكيّة تعود إلى الحياة في كلّ مرّة، لكن هذه المرّة، لم يحدث ذلك! الجثّة ساكنة! ولا إشارات للحياة في تخطيط القلب! لقد مات.

هذا ما كتبته في أوّل مناوبة لي، داخل مصلحة الاستعجالات القلبيّة، في المركز الوطنيّ للطبّ الرّياضيّ بالجزائر العاصمة، وطيلة المناوبات اللّاحقة ستتكرّر تلك المشاهد من دون توقّف. أشعر بالسّعادة حين يعود أحدهم إلى الحياة، وبقدر تلك السّعادة يعتريني الحزن في كلّ مرّة يغادر أحدهم فيها بسبب سكتة قلبيّة.

السّكتات القلبيّة لعينة، فلا يغرنّك اسمها الهادئ واللّطيف. السّكتات القلبيّة صاخبة يذروها الحزن حدّ التّخمة.

أرى في عيني الفقيد دمعًا أسمع فيه بكاء أطفال سيتيتّمون. دمعًا يحكي عن زوجة أحبّها ستترمّل. دمعًا يُنجِّر أشجان عائلة وأحبّاء لن يروا ابتسامته مجدّدًا.

أرى في تلك الدّموع، التّي تغرورق بها عيناه ندمًا شديدًا عمّا قام به وما لم يقم . كيف يصير النّدم سائلًا إلى هذه الدّرجة؟

هل يرانا ونحن نحاول أن نُنعشه؟ ما الذّي جمعنا هنا؟ هل هو القدر؟ أم أنّها مجرّد صدفة؟ أضغط نزولًا و صعودًا على قفصه الصّدريّ. الجميع يصرخون. أحدهم يضع له حقن الأدرينالن والآخر يحضّر جهاز الصّعق لعلّ قلبه يرسل إشاراتٍ كهربائيةً في لحظة ما، ستصبح تلك الإشارات عزيزة للغاية، فيما يمرّر آخر جهاز التّنفّس عبر حلقه وأنا أضغط نازلًا هابطًا، وأفكّر في كلّ شيء. من الأولى بأن يفعل ذلك أنا المشرف على الحياة أم هو المشرف على الموت؟

 ماذا لو كنت مكانه؟ ماذا لو كان شخصًا أعرفه؟ ثم تذكّرت يومي السّيِّئ لأن الجوّ لم يعجبني أو لأنّي لا أملك مالًا يكفيني لأشبع شهوة طارئة، تذكّرت تلك التّي هجرتني فحزنت، أو ذلك الذي أمّنته فخانني، ألعن كلّ أسباب حزني، ثم أضغط من جديد بكلّ قوّتي وقد أسمع بين الفينة والأخرى - تمنّيت لو قلت بين نبضة وأخرى- ضلوعًا تتهشّم وستبقى شاهدة على تفانيّ في العمل وعن أساي.

حين توقف كلّ شيء، رأيت أهل الفقيد شرعوا يتوافدون، هل بلغ الخبر اللعين مسامعهم؟ أسمع عويلًا مستعدًّا للانطلاق. أراقب الطّبيب المقيم يخبر عائلته بالفاجعة، ثم أراهم ينهارون الواحد تلو الآخر، ثم أعود فأتذكّرها. كم تبدو صغيرة أمام الموت.

في كلّ عائلة شخص صلب أو هكذا يبدو، يحاول أن يهدّئ بقيّة أفراد العائلة، يفضّل الطّبيب أن يخبره هو بما حدث، فهو الأعقل أو هذا ما ظهر له، ومن سوء الأقدار أنّ ذلك الشّخص، الذي يبدو لحظتَها صلبًا مثل حديد إسمنتيٍّ ، ينهار فتراه في قاعة الاستعجالات. هل أنا بصدد فقيد جديد؟

اللّعنة! الموت ليس إشاعة. لذا حين تشعر بالضّجر زُرْ الموت في قاعات الإنعاش قبل أن يزورك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليستا قصّتين قصيرتين.. إنّه الواقع يدخّن ويشرب

مذكرات عريس.. تحيين القلب