ما تزال السينما الجزائرية تائهة، تبحث عبثًا عن هويتها وذاتها رغم محاولات الإنعاش التي تعرفها مع كلِّ فعلٍ سينمائي واعد، وها هي تُواصل البحثَ عن مأوى يحتضنها لِتلِدَ عسيرًا ما يخنق جوفها، من أعمالٍ تآكلت مع الزمن ولم نعرف لها طريقًا.
أين سيُعرض فيلم "هيليوبوليس" إذن؟ وهل هناك برنامج مسطر للقيام بذلك؟
فما السينما دون جمهورٍ يتفاعل مع أحداثها؟ وقاعاتٍ تتجلّى فيها تلك الحياة الأخرى التي يمنحها جوّ الفيلم وعالمه لعشاق هذا الفن؟ ما السينما دون إيرادات شباكٍ تكشف عن نجاحه أو فشله جماهيريًا، أو عمَّا أثاره من جدل بين الناس؟
اقرأ/ي أيضًا: "تحيا السينما".. أرضية رقمية جزائرية لتسهيل إنتاج وتمويل الأفلام
"تعتقد الأكاديمية اعتقادًا راسخًا أنه لا توجد طريقة لتعيش سحر الأفلام أكثر من رؤيتها في المسرح"، هذا ما قاله رئيس أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية في بيان حول إجراءاتِ تعديلٍ لقبول ترشيحات "الأوسكار" لعام 2021 جراء تفشي وباء كورونا، ورغم استمرار هذه الجائحة، لا ينكر أحد ضرورة وجود قاعاتٍ لائقة ومسارح تحيا فيها السينما.
قد يكون الفيلمُ مستقِلاًّ فقير الموارد والميزانية، غنيًا بجهدِ طاقمٍ شغوفٍ ومُحِبٍّ، وقد يكونُ عملًا من إنتاجٍ ودعم رسميَّيْن، تُفتح له جُلُّ الأبواب. لكِنَّ العملينِ بغض النظر عن جودتهما من عدمها، قد يصطدمان غالبًا بعرقلةٍ لآفاقِ وحرّيات توجهات الفيلم وفلسفةِ مخرجه، وبِتضييقٍ للأفق أمام خيارات السّيناريوهات التي ما تزال تتخبط إلى الآن في معظمها، وبعد عقود طويلة، في معضلة التَّأريخ السّينمائي لثورة التحرير، تأريخٌ صار موضةً رائجةً تخضع لمعايير السُّلطة التي تُحَرِّمُ على السينما المنتَجَةِ محليًا تجاوزها، بل وتفرش عليها رُؤَاها، تمامًا، كما حصل مع فيلم العربي بن مهيدي لمخرجه بشير درايس، حيثُ لم يتمَّ الإفراج عنه إلى حدِّ الساعة لخلافات حول ذكرِ "حقائق تاريخية" تراها السُّلطة غير قابلة للسّردِ السينمائيّ.
مع ذلك، جرت العادة مع بروز مشاريع واعدة لأفلامٍ من إنتاجٍ جزائريّ أن تصعد العديد من الأسئلة نحو السطح، ليعود النِّقاش قويًّا بعد خمودٍ مرحليّ. نقاشٌ لم يحسم بعدُ منذ عقود حول الأوضاع المزرية لصناعة السينما في الجزائر في ظلِّ غيابِ قاعات لائقة بمواصفات عالميةٍ تحترم قواعد العرض، بعيدًا عن وصلاتِ شاشات العرض الرخيصة التي ميزت قاعات عرضٍ مؤقتة استعانت بها وزارة الثقافة والديوان الوطني للثقافة والإعلام وقطاعات أخرى لسنوات كمحاولاتٍ يائسة لجلب المشاهد الجزائري، إضافة إلى عدة عروض مُرتجلة هنا وهناك تقدمها قاعات خاصّة.
كما أن بوادر قاعات السينما الخاصة بدت أكثر جدية، بمجهودات ودعم مالي لبعض الخواص، كتجربة "سينما مرجاجو" بوهران، والتي تعدُّ أحسن بكثير من المشاريع الرسمية حسب الأصداء.
في هذا السياق، أعلنت اللجنة المكلفة من طرف أكاديمية فنون وعلوم الصورة AMPAS))، بترشيح الفيلم الذي سيمثل الجزائر للتنافس خلال نسخة "الأوسكار" لعام 2021 منذ أيام، عن اختيارها لفيلم "هيليوبوليس" للمنافسة على أوسكار أحسن فيلم روائي طويل أجنبي، حيث ترأس هذه اللجنة المخرج محمد الأخضر حامينة الذي أشاد رفقة الأعضاء، حسب مصدر صحافي، بالجودة التقنية والفنية، وبتيمة الفيلم المُرشَّح التي يُعتقد أنها قد تجلب الدعم الرسمي المادي والإعلامي.
من المعروف أن فيلم "هيليوبوليس" هو أوّلُ تجارب المخرج جعفر قاسم السينمائية، فقد اعتدنا عليه قبلًا في الإخراج التلفزيوني لعدة مسلسلات وحصص المنوعات، ويحمل هذا الفيلم الاسم القديم لمدينة قالمة، حيث تدور أحداثه حول حياة عائلة جزائرية أيّامًا قبل أحداث الثامن من ماي 1948.
مع إعلان هذا الترشيح الذي تكفّل بنشره سليم عقار، المدير العام لمؤسسة سينماتيك الجزائر الوطنية على صفحته الفيسبوكية من خلال مقالٍ صحافي، غاب البيان من الصفحة والموقع الرسميين لوزارة الثقافة والفنون، وعن مواقع وصفحات أخرى رسمية تُعنَى بالسينما في الجزائر، أهمها المركز الوطني للسينما والسمعي البصري، مما أثار جدلًا حول ماهيةِ وجدوى دور وزارة الثقافة والفنون في دعم هذا النوع من الترشيحات، ونشر هذا البيان الذي يعد من صلاحياتها ومهامها بالدرجة الأولى.
لكن السؤال الأهم الذي وجب طرحه: هل يمكن تقديمُ فيلم لمسابقةٍ دون الإعلان عن الشروط الجديدة لترشيح الأفلام سينمائيًا، وماذا عن شرط عرضه لمدّة لا تقل عن سبعة أيام متتالية؟
رغم أن الأكاديمية كانت قد خففت من قواعدها لتسمح للأفلام التي لن تتمكن من شرط العرض في قاعات السينما هذه السنة بسبب جائحة كورونا بالتنافس على جوائز "الأوسكار"، وتشديدها على أن تعديلات أخرى قد تكون ضرورية مستقبلًا، إلا انها أكدت أن تعليق شرط السبعة أيام هو إجراء قد يتغير، حيث وافق مجلس المحافظين على تعليق "مؤقت" لهذا الشرط، للتأهل لجوائز "الأوسكار"، مع السماح بإصدار الأفلام رقميًا، "شرطَ أن يكون للفيلم تاريخ عرضٍ سابقٍ تم التخطيط له".
أين سيعرض فيلم "هيليوبوليس" إذن؟ وهل هناك برنامج مسطر للقيام بذلك؟ هل سيتم عرضه للجمهور الجزائري افتراضيًا؟ وما المنصات التي ستتيح ذلك؟ هل سيتاح رقميًا حسب شروط لجنة "الأوسكار" المنصّبة حديثًا؟ أم أن عروضه ستقتصر على بعض الأشخاص فقط؟
هل سيتم توفير مادة إعلانية ضخمة تدعم هذا الترشيح وتُعرِّف بالفيلم محليًا وعالميًا، للحصول على فرصة الترشح للقائمة القصيرة النهائية، في ظلّ انعدام بوادر أي إعلان عرض قريب للفيلم، ما عدا تلك الوصلات الإعلانية المقتبسة منه في صفحته الرسمية على فيسبوك؟
كل هذه تساؤلات لا تجد إجابة إلى حد كتابة هذه الأسطر، في ظلّ استمرار أزمة كورونا، وتأجيل حفل "الأوسكار" مرة أخرى إلى الخامس والعشرين من شهر نيسان/أفريل 2021؟
لقد تم فعلًا قبل هذا، قبول ترشيح فيلم بابيشة للمخرجة مونيا مدور "استثناءً" في نسخة "الأوسكار" الماضية، رغم عدم توفر شرط العرض في البلد الأم، لكن هذه هذه الخطوة جاءت تضامنًا مع طاقم الفيلم جرَّاءَ منع عرضه في الجزائر، فهل يتكرر الأمر مع فيلم قد تدعمه الجهات الرسمية في الجزائر؟
من هذا المنطلق، يعود النقاش ليُبعث من جديد أيضًا حول أسباب غياب عروضٍ أولى للأفلام المنتجَة محليا، إضافة إلى حملات إعلانية جدية للترويج لها داخل الجزائر وخارجها، في الوقت الذي يتم تقديمها للترشح لجوائز ومهرجانات دولية.
في ظلِّ غياب قاعات السينما المؤهلة لمثل هذه العروض، إذ تكادُ تنعدم تمامًا لولا بعض المحاولات الفردية لفتح قاعات خاصّة، وبعض القاعات في العاصمة التي تعرض أفلامًا تجارية في أغلبها أو قديمة مقارنة مع عروض قاعات السينما العالمية، وهي غالبًا ما تجلب نوعية خاصة من المرتادين، والمراهقين في أغلبهم، كما أن صالاتٍ سينمائية عريقة وكبيرة ذات تاريخ حافل بالعروض لأعرق الأفلام في مختلف أنحاء الوطن، تعاني من حالة مزرية وحالة "دمار شامل"، بسبب الإهمال والإغلاق الذي لم يُعرف سبب لاستمراره منذ بداية العشرية السوداء إلى غاية اللحظة، كسينما "الرمال" في قسنطينة، إضافة إلى سينما "فيرساي" التي تقطنها عوائل عديدة منذ سنوات.
ما تزال نداءات الاستغاثة التي أطلقها فنانون ونشطاء ومثقفون لإنقاذ هذه الصروح وترميمها لإعادة فتحها مستمرة منذ سنوات، قصدَ تمكين المشاهد الجزائري وعشاق السينما والفن من التمتع بحقهم في الترفيه وإشباع شغفهم السينمائي.
بعض قاعات السينما في الجزائر صارت مرتعًا للقمامة والحيوانات الضالة وملجأً للمدمنين والمشردين
ورغم الوعود العديدة التي منحها الوزراء الذين تداولوا على حقيبة الثقافة في السنوات الماضية، بقيت قراراتهم ووعودهم حبرًا على ورق، وأحيانًا حديثًا عابرًا لا مشروعًا حقيقيًا لإحياء هذه القاعات التي تبكيها أجيالٌ واكبت سنوات مجدها، لكنها الآن صارت مرتعًا للقمامة والحيوانات الضالة وملجأً للمدمنين والمشردين الذين لم يجدوا أدفأ من قاعة سينما حملت لسنوات طويلة دفءَ الفن السابع.
اقرأ/ي أيضًا:
السينما الجزائرية تفقد ملاكها الأبيض
هل أساء فيلم أحمد راشدي الجديد للثّورة الجزائرية؟