24-سبتمبر-2019

يُنسب طبق "الشليطة" إلى ولاية برج بوعريريج (بنتراست)

تعدّ الجزائر قارّة، ليس فقط من زاوية مساحتها، التّي تقترب من مليونين ونصف المليون متر مربّع، محتلّةً بذلك المرتبة الأولى عربيًّا وأفريقيًّا، بعد تقسيم السّودان عام 2011، بل أيضًا من زاوية تعدّد أطباق مطبخها، التّي تكاد تختلف في كلّ مئة كيلومتر، وحتّى الأطباق ذات الامتداد الوطنيّ، مثل "الكسكسيّ" و"الشّخشوخة"، تزخر هي نفسها بتنوّعات كثيرة، من جهة إلى أخرى، ويعد طبق "الشليطة" من بين هذه الوجبات التي لا يستغني عنها الفقراء والأغنياء في موائدها، وخاصة بولاية برج بوعريريج.

لا يمكن لزائر برج بوعريريج أن يعرّج على هذه الولاية دون أن يكون طبق "الشليطة" حاضرًا على مائدة الطعام

تحتكر مناطق معيّنة نسبة أطباق معيّنة إليها، حتّى وإن كانت ممتدّة في مناطق أخرى، فتعرف بها، وتقصد من أجلها، وتكون محلّ إكرام الوافدين والتّفاخر بين المقيمين. نجد هذا في بسكرة ووادي سوف مع طبق الدوبارة، وفي بوسعادة مع طبق الزفيطي، وفي تلمسان وما جاورها من مدن مع الحريرة، وفي قسنطينة مع شخشوخة الظفر.

تُعرف منطقة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، بكونها عاصمة طبق الشليطة، وله أسماء أخرى أقلّ شهرة، مثل "الحميس"، حتّى أن اسم المنطقة، خاصّة عاصمة الولاية والمفاصل الأمازيغيّة منها، بات مقرونا به.

يتكوّن طبق الشليطة من الفلفل، عادةً ما يُفضّل أن يكون حارًّا، والطّماطم والثّوم وزيت الزّيتون. وثمّة إضافات أخرى قد تنزاح به إلى أن يصبح طبقًا شبيهًا يسمّى "الشّكشوكة". حيث تقلى المكوّنات في الزّيت أو تُشوى على النّار، ويتمّ تقطيعها وصبّ زيت الزّيتون عليها، مع إمكانية استعمال السّمن البلديّ مكانه.

يُفضّل "البرايجيّة"، هكذا يُسمّى سكّان برج بوعريريج، تناول الشّليطة بالـ"الكسرة" أو "المطلوع"، وهما خبزان يُعدّان في البيوت. كما يُفضّلون اللّبن رفيقًا، لأنّ شرب الماء لا يتناسب مع الطّعام الحارّ. ومنه المثل الشّعبي "الما والحار كيما الما والنّار". أي أنّهما لا يلتقيان. كما نجد مثلًا شعبيًّا في مديح الطّعام الحارّ يقول: "الماكلة بلا حار كيما الرّاجل بلا دار".

يقول الشاعر والمهتمّ بالثقافة الشّعبيّة رشيد بلمومن لـ"الترا جزائر" إنّ ثمّة سياقات أدّت إلى تكريس ميل سكّان المنطقة إلى الطّعام الحارّ، منها كونها منطقة مرتفعة وباردة، وذات تربة كريمة في إنتاج الخضر، وما يترتّب عنها من توابل.

ويضيف رشيد بلمومن: "ربط المخيال الشّعبيّ في المنطقة تناول الطعام الحارّ بالشّجاعة والرّجولة، في مقابل السّخرية ممّن يتجنّب ذلك إلّا لدواعٍ صحيّة، حتّى أنّ بعض الأسر البرايجيّة لا تستعمل الفلفل الحارّ أو الهريسة الحارّة إلّا في الحليب. وهو الواقع الذّي يدفع الأطفال إلى أن يتعوّدوا على الطّعم الحارّ منذ صغرهم".

في ساحة القلعة بقلب مدينة برج بوعريريج، طرحنا على نخبة من الشّباب، الذّين تتراوح أعمارهم بين الـ 15 وال35: "أيّتهما ستجيب، دعوة إلى اللّحم المشويّ أم دعوة إلى الشّليطة؟". فكان أن اختار سبعة من عشرة الدّعوة الثّانية. وطلبت منهم أن يهاتفوا أسرهم ليسألوها إن كانت أعدّت الشّليطة في ذلك اليوم، فكانت النّتيجة 8 من 10.

يقول الشّاب فاتح، 22 عامًا، إنّه يستطيع أن يكتفي بطبق الشليطة على مدار العام، لو كانت معدة الإنسان تتحمّل ذلك، ولو كانت الشّليطة توفّر كلّ العناصر الغذائيّة، التّي يحتاج إليها جسمه، "فهي تجمع بين خصائص المقبّلات، إذ تحرّضك على مزيد من الأكل، وخصائص الأطباق الرّئيسيّة، إذ توفّر لك الإحساس بالشّبع. كلّ ذلك بتكاليف زهيدة".

ثمّة من يكتفي بـالشليطة طبقًا وحيدًا في الغداء أو العشاء. وثمّة من يجعله رفيقًا لأطباق أخرى. وقلّة هم الذّين يغيّبونه تمامًا. وقد يتسبّب تغييبه في تشنّجات بين الزّوج وزوجته، إذ ذكر لي أحد المحامين أنّه استلم قضية طلاق بسبب أنّ الزّوج لم يجد "الشّليطة" على المائدة، في شهر رمضان، الذّي ترقى فيه الشّليطة إلى مقام الطبق المقدّس. في المقابل، يمكن أن تتسبّب "الشّليطة" في ترميم علاقات أسريّة وإنسانيّة كانت متشنّجة.

وتتميّز الشليطة بكونها طبقًا يستقطب الفقراء والأغنياء. ويفرض نفسه على موائد الطّرفين. ويبقى الفارق الوحيد بينهما قدرة كلّ طرف على توفير الفلفل الحار، في الفترات التّي يكون فيها نادرًا، بما يؤدّي إلى ارتفاع سعره، خاصّة خلال الشّتاء، حيث يصل إلى أكثر من 200 دينار، في مقابل 50 دينارًا خلال فصل الصّيف.

غياب التّفاضل الطّبقيّ، في طبق الشليطة، وتوفّره في كلّ البيوت، جعل روّاد مواقع التّواصل الاجتماعيّ فيسبوك يستعرضونه ويتفاخرون بطرقهم في إعداده وتقديمه. يقول الشّاب شريف لـ"ألترا جزائر" إنّه لا يخاف أن يثير شهيّة الفقراء والمعوزين، حين ينشر صورًا للشّليطة، لأنّها متاحة للجميع، "على عكس الأطباق التّي تتطلّب مستوًى ماليًّا معيّنًا".   

 الكاتب رشيد بلمومن: " يمسل سكان برج بوعريريج إلى الطعام الحار كون هذه المنطقة لها مميزاتها الجغرافية تتسم بالعلو والبرودة

وهو المعطى الإنسانيّ، الذّي ركّز عليه القاص عيسى بن محمود صاحب المجموعة القصصيّة "الشّليطة تغمر المدينة"، في تصريحه لـ"الترا جزائر". يقول إنّ الصّراع بين الطّبقات الاجتماعيّة ظلّ قائمًا وسيبقى. وإنّ ثمّة أطباقًا بسيطة استطاعت أن تردم الهوّة بينها، وتخلق متعة مشتركة بين الفقير والغنّي. وهو ما يمنحها بركة خاصّة. يسأل: "لماذا لا نتوفّر على دراسات وبحوث وأعمال أدبيّة تشتغل على الأطباق الممتدّة في الواقع والمخيال الشّعبيّين، وتتمتّع بقداسة شعبيّة خاصّة؟".