22-نوفمبر-2021

إيمانويل ماكرون, عبد المجيد تبون (تركيب/الترا جزائر)

 

تتوالى تصريحات المسؤولين والمؤسسات الفرنسية التي تحاول تحسين العلاقات مع الجزائر، بعد التصريح الأخير الذي صدر عن الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي شكك فيه بوجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، لكن دون تقديم اعتذار عمّا ورد في كلام سيد الإليزيه، ليتأكد بذلك عدم جدية باريس في إقامة علاقات جدّية مع الجزائر بعيدة عما وصفته السلطات الجزائرية بـ "النظرة الاستعمارية".

تصريح الإليزيه لم يتضمن أي تصحيح لما جاء على لسان ماكرون بشأن تاريخ الأمة الجزائرية واتهم الجزائر بأنها أساءت فهم خطاب الرئيس الفرنسي

يجمع كثيرون، أن فرنسا تعتمد في تعاملها مع الجزائر على منطق خطاب يتوافق من الحكومات التي تخدم مصالحها، لكن دون المساس بعقيدة ثابتة في تعامل رؤسائها تجاه الجزائر من عهد شارل ديغول إلى اليوم، وإن اختلفت الأسباب والأحداث التي تجعل خطاب الإليزيه متوافقًا مع السلطة الجزائر أو معارضًا لها، بما فيها تصريحات ما كرون الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون: الاعتذار عن جرائم الاستعمار لن يحلّ المشكلة

هنا، شبّه متابعون خطاب إيمانويل ماكرون المشكك في دولة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسين بالخطاب الذي تبنّت فرنسا طيلة فترتها الاستعمارية، وجاء قريبًا جدًا من خطاب الجنرال الفرنسي شارل ديغول بعد اضطراره إلى إعلان تقرير مصير الجزائر، بعد حرب دفع فيها الجزائريون أكثر من مليون ونصف شهيد، وهو يعني أن "مواقف فرنسا الرسمية تجاه الجزائر لم تحدّ عن نطرتها الاستعماري للبلاد".

قال الجنرال الفرنسي شارل ديغول في سنة 1959 خلال إعلانه عن لجوء فرنسا إلى تقرير المصير بعد حرب دامية في الجزائر "سأطرح سؤالًا على الجزائريين ..، لم تكن هناك أبدًا أيّة وحدة ولا أّية سيادة جزائرية، القرطاجيون والرومان، الوندال، البزنطيون، عرب سوريا وعرب قرطبة، الأتراك، والفرنسيون بدورهم اخترقوا البلاد، وفي أيّ وقت من الأوقات وبأي شكل من الأشكال، لم توجد أيّة دولة تسمى الجزائر".

 دون اعتذار

بداية تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، نشرت صحيفة "لوموند" ما دار خلال ساعتين بقصر الإليزيه بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون و18 شابًا فرنسيًا من أصل جزائري ومن مزدوجي الجنسية وبعض الجزائريين، والتي أحدثت أزمة بين البلدين.

وتساءل ماكرون في حديثه عن "ملف الذاكرة" بين البلدين خلال حديثه مع هؤلاء الشباب بالقول"هل كانت هناك فعلًا أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا هو السؤال".

وأحدثت هذه التصريحات غضبا واسعًا في الجزائر وسط الجهات الرسمية والشعبية، وهو ما جعل الحكومة تستدعي سفيرها بباريس للتشاور، والذي لم يعد حتى اليوم إلى منصبه.

وحاولت بعد هذا الرد باريس تهدئة الأوضاع، لكن دون التوبة عما ورد في  كلام ماكرون.

وفي التاسع من الشهر الجاري، قال مسؤول في الإليزيه إن "الرئيس إيمانويل ماكرون يأسف للجدل وسوء الفهم الناجم عن تصريحاته.. وهو شديد التمسك بتنمية العلاقات" مع الجزائر، مضيفا أن الرئيس الفرنسي "يكنّ أكبر قدر من الاحترام للأمة الجزائرية وتاريخها وسيادة الجزائر".

 لكن تصريح الإليزيه لم يتضمن أي تصحيح لما جاء على لسان ماكرون بشأن تاريخ الأمة الجزائرية؛ بل اتهم الجزائر بأنها أساءت فهم خطاب الرئيس الفرنسي.

وعلى المنحى ذاته، جاءت تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جون إيفل ودريان الذي قال في مقابلة صحفية  مع صحيفة "لوومند" نشرت الجمعة  الماضية "لدينا روابط راسخة في التاريخ. نتمنى أن تكون الشراكة الفرنسية-الجزائرية طموحة".

وأضاف "من المنطقي عندما ندرك تاريخنا أن تعود جروح للظهور لكن ينبغي تجاوز ذلك لاستعادة علاقة ثقة".

وحسب لو دريان، فإنه "قد يحصل سوء فهم من وقت لآخر لكن ذلك لا يقلل من الأهمية التي نوليها للعلاقات بين بلدينا".

وأردف قائلًا "تجب المحافظة على هذا الرابط القائم على احترام السيادة والإرادة المشتركة على تجاوز الخلافات للعودة إلى علاقة هادئة".

ويظهر من حديث رئيس الدبلوماسية الفرنسية أنه  تجنب هو الآخر الاعتراف بالأخطاء المرتكبة من طرف فرنسا لتوتير العلاقات بين البلدين، بل إنه حاول تجاوز هذا المشكل والحديث فقط عن المصالح الفرنسية، حيث دعا إلى إشراك أكبر للجزائر في حل النزاع في مالي، ويعني هذا الإشراك حسب النظرة الفرنسية رفع الجزائر قرار منع عبور الطيران العسكري فوق أجوائها في رحلته إلى الساحل.

شرعنة الاحتلال

لا يشكّل الخطاب الفرنسي المشكك في تاريخ الأمة الجزائرية مفاجأة للأستاذ الجامعي في التاريخ توفيق بن زردة الذي أوضح لـ" الترا جزائر" أن تصريحات ماكرون ومن سبقه من الساسة والمؤرخين الفرنسية مبنية كلها على سياسة إقصاء ثقافة الآخر في محاولة متكررة لشرعنة الاحتلال الفرنسي للجزائر.

وأضاف بن زردة أنه من هذا المنطلق فخطاب الساسة الفرنسيين يحاول على الدوام تصدير صور كليشيهات عن الجزائر مرادفة للبدائية والفوضى، وأن الاستعمار آلية من شأنها تغيير الواقع المادي قبل الاحتلال الفرنسي سنة 1830.

وأوضح أستاذ التاريخ أن النظرة الاستعمارية التي يتميز بها الخطاب الرسمي الفرنسي، تتمثل في أن ما عاشته الجزائر خارج العهود الأوروبية كان كله صورة سوداوية ترى أن الجزائر عاشت فراغا حضاريا بعد الفترة الرومانية ووصول الفتح الإسلامي.

وبالنسبة لتوفيق بن زردة، فإن المعضلة الاستعمارية الفرنسية مقارنة بدول أخرى قد تجاوزت حدودها الزمنية، لأن الصراع الدائر ما يزال مستمرا، مبينا أن هذه المعضلة توظف من قبل الساسة عند كل موعد انتخابي وسياسي.

الهوية الجزائرية

ويرى  بن زردة ان التصريحات الفرنسية  الأخيرة ورغم ما تحمله من افتزازات تظل لا حدث، بالنظر إلى أنها استمرار لنظرة استعمارية إقصائية بنيت على إلغاء كل الهويات الأخرى، وفق  نظرة نظام احتلالي شمولي، فهي حلقة من التاريخ مفقودة الإنسانية تهاجم حتى الموتى، ولعل في جماجم شهداء الجزائر الموجودة في متحف الإنسان والطبيعة الفرنسي اكبر دليل على ذلك.

وبرأي متابعين، فإن ماكرون الذي بنى حملته الانتخابية للوصول إلى الرئاسة على تجريم الاستعمار بالعزف على ملف الذاكرة  المتعلق بالاحتلال الفرنسي في الجزائر، يحاول اليوم اللعب على وتر آخر يتمثل في مهاجمة كل ما هو جزائري لمحاولة استماتة معسكر اليمين المتطرف الذي صار خطابه يلقى تجاوبا لدى الناخبين، ولعل في شعبية إيريك زمور ومارين لوبان اللذين يصبحان ويمسيان على مهاجمة الجزائر اكبر دليل.

ويلعب ماكرون بهذا الملف أيضًا آخر أوراقه، كون فخ  الكتابة المشتركة للتاريخ التي دعا إليها تقرير بنجامين ستورا لم تأت بجديد، لذلك فإن العودة إلى الخطاب الكلاسيكي للساسة الفرنسيين المبني على استفزاز الجزائريين بتصريحات معينة أو سن قوانين تمجد الاستعمار كمشروع قانون تعويض الحركى والاعتراف بهم  ما هو إلا  الوجه الحقيقي لصاحب قصر الإليزيه حتى وإن حاول بين مرة وأخرى الظهور بأنه يختلف عن الآخرين في تعامله مع ماضي بلاده الاستعماري في الجزائر.

بات ظاهرًا أن الوصول إلى سدة الحكم في فرنسا يأخذ بعين الاعتبار مسألة تمجيد الاستعمار والتضييق على المهاجرين والتحكم في الملفات الأفريقية

ومن المؤكد أن الأيام المقبلة ستحمل كسابقاتها تصريحات جديدة من مختلف السياسيين الفرنسيين حول الجزائر، خاصة مع اقتراب الرئاسيات الفرنسية وتصاعد شعبية اليمين المتطرف في فرنسا، حيث بات ظاهرًا أن الوصول إلى سدة الحكم في فرنسا يأخذ بعين الاعتبار مسألة تمجيد الاستعمار والتضييق على المهاجرين والتحكم في الملفات الأفريقية منها الملف الليبي ومالي، وفي كل الحالات، يبدو أن البلدين يتجهان إلى تهدئة التوترات دون تقديم أّية تنازلات تذكر، ففرنسا دعت إلى التهدئة دون أن الاعتذار عن تصريحات ماكرون، والجزائر وصفت خطاب الإليزيه بـ"المعقول"، ولكنها تستمر في تنفيذ إجراءات تأجيلية لفتح صفحة جديدة مع فرنسا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماكرون: النظام الجزائري أنهكه الحراك الشعبي

ماكرون "يتهرّب" من ملفّ الذاكرة ويُهنئ الجزائريين بذكرى الثورة