تباينت ردود الأفعال في الشارع الجزائري، حول طريقة وكيفية إدارة المؤسّسة العسكرية وتعاملها مع الحراك الشعبي، فبينما يرى متابعون أنّ المؤسّسة العسكرية لم تتفاعل مع مطالب المتظاهرين في الشارع، بل ورافق ذلك قمع للنشاط وحصار أمني على ساحات الاحتجاج وتشويهٍ إعلامي للمتظاهرين، يرى الطرف الآخر، أن المؤسّسة العسكرية رافقت الحراك الشعبي، وأن القيادة العسكرية حرصت على الطابع السلمي للمسيرات.
ترى أطراف أخرى أن موقف المؤسّسة العسكرية عرف تدرّجًا في التفاعل والتعامل مع الحراك الشعبي
وبين هذا وذاك، ترى أطراف أخرى أن موقف المؤسسة العسكرية عرف تدرّجًا في التفاعل والتعامل مع الحراك الشعبي، من متوجّس ومتحفّظ في البداية، إلى مرافق ومؤيّد في الأشهر الأولى، وصولًا إلى مرحلة المواجهة السياسية وشنّ حملة اعتقالات ومتابعات قضائية وأمنية للناشطين في الأشهر الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: تهمة واحدة وأحكام قضائية متباينة.. معتقلو الرأي بين البراءة والحبس
عدم تكرار التجارب السابقة
في هذا السياق، سجّل كثير من المتتبعين للشأن السياسي، أن المؤسّسة العسكرية لم تتعامل مع الحراك الشعبي وفق المنطق العسكري المتداول تاريخيًا في البلاد، أو عبر صورة تواطؤ الجيوش في دول العالم الثالث ضدّ شعوبها باستخدام القوّة.
هنا، أجمعت تقارير إعلامية على أنّ تسيير الحراك الشعبي من طرف المؤسّسة العسكرية لم يُسجّل مواجهات دامية في كبرى شوارع المدن، مقارنة بما كان يجري سابقًا، أو عبر هيمنة الآلة العسكرية على مسرح الأحداث.
ويُستشف من خطابات رئيس قائد الأركان السابق، أحمد قايد صالح، أن القيادة العسكرية لم تبد استعدادًا لإعادة سيناريوهات المواجهة المباشرة مع الحركات المجتمعية، بناءً على عدم رغبتها في الدفاع عن نظام الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، أو بسبب مخاوفها من التورّط في التدخّل المباشر في حلّ الأزمة بكل أبعادها السياسية، الأمنية، والعسكرية، مع تحمل تبعات هذا التدخّل، والرضوخ للابتزاز الدولي الخارجي.
هذه المقاربة لا تُلغي تدخّل الجيش في العملية السياسية ومخرجاتها. بل إنّها طالبت فعليًا بتفعيل المادة 102 من الدستور، وإقرار حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، القرار الذي يفسّر بالتدخّل العسكري في الشأن السياسي، لكن المؤسّسة استندت إلى مرجعية دستورية في حماية السيادة الشعبية، ونعتت محيط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بـ "العصابة" أو القوى غير الدستورية، فهل كانت مراسيم تشييع جنازة الفريق قايد صالح، الذي رافقته حشودٌ غفيرة، بمثابة اعتراف بحسن إدارته للأزمة؟
حصانة الحراك الشعبي
يُوعز أنصار الاحتجاجات الشعبية أن الطابع السلمي للحراك، كان وراء المحافظة على الطابع السلمي، وتفادي المواجهة والصدام مع قوات الأمن، ويضيف نشطاء في الحراك الشعبي، أنه على الرغم من التضييقات والقمع، تبنى سياسة اللاعنف. هنا، يقول نشطاء إنّهم استفادوا من التجارب السابقة، فالمستفيد من حالة العنف والفوضى هي السلطة، فهذه الأخيرة باستطاعتها إدارة الأزمة، عبر إقرار منع التظاهر، أو إعلان حالة الطوارئ، ويشدّد النشطاء على أنّ الحراك الشعبي يختلف جذريًا عن الحركات الاحتجاجية المناطقية أو الحزبية السابقة، فهو ليس وليد صراعاتٍ فوقية، ولا حركة تحمل بذور الفكر الصدامي.
إدارة أمنية وسياسية
من جهته، يرى المحلّل السياسي لحسن خلاص، أن المؤسّسة العسكرية وجدت نفسها منذ اندلاع الحراك الشعبي، مُلزمة بإدارة معلنة ومكشوفة للأزمة خاصّة في غياب رئيس الجمهورية.
وفي إطار المقارنة بين إدارة الأزمة الأخيرة، وسنوات 1988 و1991، شدّد المتحدّث أن تدخل المؤسّسة الأمنية والعسكرية سابقًا، كان بأمر من رئيس الجمهورية، بعد ثبوت عدم قدرة مؤسّسة الشرطة على احتواء الوضع، مضيفًا أنه في سنة 1988، كان تدخّل المؤسسّة العسكرية بسبب أعمال شغب مسّت المؤسّسات ورموز الحزب الواحد. أمّا في سنة 1991، يستطرد خلّاص، أنّ المؤسسة تدخلت لوضع حدٍ لديكتاتورية حزبية استغلّت احتلال الشوارع، لتفرض أجندتها الخاصّة على جميع المواطنين، على حدّ تعبيره.
وأضاف المتحدّث، أن هذه المرّة اضطلعت المؤسّسة العسكرية بإدارة مزدوجة للوضع، من خلال مقاربة مبنية على تسيير وإدارة الحراك، حتى لا يُفلت وتتلقفه دوائر أخرى داخلية وخارجية، وهذا بدل فكرة القضاء عليه وتحييده.
وعلى هذا الأساس يقول المحلّل السياسي، إنه تم اعتماد مقاربة ازدواجية السياسي والعسكري الأمني، موضحًا أن خطابات رئيس الأركان أخرجت المؤسّسة العسكرية من الصمت، وجعلت المواطن يتفاعل معها، وباستطاعته ترقّب تدابير أمنية قادمة، عكس الغموض الذي كان سائدًا في تعامل المؤسّسة مع الاضطرابات.
وفي تقدير المتحدث، فإن المؤسسة العسكرية مارست السياسة، لكنها ظلّت على ذلك بخلفية أمنية وبخطابات وقائية وتحذيرية، رغم أن تسييرها أدّى إلى تضييقٍ نسبيٍ على الحرّيات، وحبس ناشطين ومدوّنين، وغلقٍ للمجال الإعلامي، وإلزام الإعلام بنوعٍ من الأحادية، وتدعيم النظرة التجييشية والدعائية ضدّ التيّارات التي لا تتفق مع نهج المؤسّسة العسكرية لحلّ الأزمة. وخلص خلاص، إلى أن انضباط الحراك السلمي ساعد المؤسّسة العسكرية على إدارة أفضل للحراك وللأزمة، على حدّ قوله.
السلمية قاسم مشترك
من جانبه، ذكر الصحافي عثمان لحياني، أن الحراك فاجأ المؤسّسة العسكرية في جغرافيته ومداه، وبحسب المتحدّث فإنّ المؤسّسة العسكرية لم تكن جاهزة للتعاطي مع الحراك بدليل الارتباك الذي ساد موقفها المتضمّن في خطابات قايد صالح، على حدّ قوله.
وأفاد المتحدّث، أن المؤسّسة بحكم عدّة عوامل غيّرت قاعدة التعامل مع الحراك، ولم تتبن النهج الأمني والقمعي نفسه، الذي ساد مع قيادات الجيش قبل 2004.
هنا، إذا استعرضنا المحطّات التاريخية المشابهة، يقول عثمان لحياني في حديث إلى "الترا جزائر"، سنجد أن "الجيش كان يعمد إلى حالة استعمال القوّة والنار ضدّ الانتفاضات المناطقية أو المرحلية. في مسيرة عنابة المؤيدة لبن بلة والرافضة للانقلاب عام 1964، أو الربيع الأمازيغي سنة 1980، أو أحداث قسنطينة 1986، أو انتفاضة أكتوبر 1988، أو اعتصام الفيس في عام 1991، أو أزمة التسعينات وصولًا إلى أحداث منطقة القبائل عام 2001".
يُشير المتحدّث إلى أن الجيش عمد إلى استعمال القوّة والنار في السابق، بخلاف تفاعله مع الحراك. متسائلًا هل كان ذلك لتغير قاعدة السلمية، أو عقيدة الجيش؟ أم لدواعٍ أخرى تتعلّق أولا بسلمية الحراك الذي لم يوفّر أي سبب للجيش للتعامل معه بعنف، أو لجغرافية الحراك وطنيًا؟ هذا أمر غير محسوم.
يعلّق لحياني قائلًا: "ما هو محسومٌ هو أنّ ثمة قاعدة تم تركيزها في المشهد الجزائري، على صعيد المؤسسة العسكرية والشعب، وهي السلمية وعدم إراقة الدم تحت أي ظرف".
وفي تقدير الصحافي عينه، فإن مشروع احترافية الجيش الذي أطلق عام 2002، وبدأ تطبيقه عام 2005، ربّما يكون له دورٌ في تحوّل عقيدة الجيش في علاقته بإدارة الشأن العام، على حدّ قوله.
موقفُ الجيش عدم إراقة الدمّ لا يُغفل مؤاخذة المؤسّسة العسكرية
جديرٌ بالذكر، أن موقفُ الجيش وعدم إراقة الدمّ لا يُغفل مؤاخذة المؤسّسة العسكرية، باعتبارها كانت الفاعل المركزي في المشهد خلال الـ10 أشهر الماضية، بالنسبة لآراء عدة، وحالت دون التأسيس لحوارٍ وطني يقود إلى مسارٍ ديمقراطي، سواءً بسبب الخوف المضخّم من الحالة الانتقالية أو لتضخّم العقل العسكري الذي يتأسّس على الهيمنة.
اقرأ/ي أيضًا: