24-ديسمبر-2023
(الصورة: فيسبوك) زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى ولاية الجلفلة

(الصورة: فيسبوك) زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى ولاية الجلفلة

كان يبدو أن المشهد السياسي في الجزائر، سجّل تراجعًا لافتًا في التحركات الدولية والإقليمية، عقب رحيل رمطان لعمامرة عن منصب وزارة الخارجية في آذار/مارس الماضي، بعد أن خاض رحلات "مكوكية" لتعزيز دور الجزائر إقليميًا وأفريقيًا وحتى دوليًا، وبات واضحًا أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يسعى إلى ترتيب البيت داخليًا مع اقتراب موعد الرئاسيات ورغم أن الخرجات الميدانية إلى ولايات الوطن، كانت تقليدًا راسخًا لدى رؤساء سبقوا الرئيس تبون، غير أن هذه الزيارات أصبحت حدثًا سياسيًا في حدّ ذاته، بعد أولى خرجات الرئيس الميدانية إلى ولاية الجلفة (300 كيلومترًا جنوبي العاصمة الجزائرية) منذ اعتلائه سدة الحكم في ديسمبر/كانون الأول 2019.

ارتبطت التحركات الداخلية للسلطة بالسلم الاجتماعي وتعزيز لم شمل الجزائريين

زيارة الجلفة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كانت من أهم المحطات البارزة في عمل الرئيس تبون في الداخل الجزائري، إذ تعتبر صورة مصغّرة عن الجزائر العميقة، تفقّد فيها مختلف المشاريع الاستثمارية، والتقى فيها مع أعيان وممثلي مختلف أطياف وفعاليات المجتمع المدني بالولاية، واستمع إلى انشغالاتهم والإجابة عن تساؤلاتهم.

وتغطّي هذه المشاريع كل من قطاعات الصناعة والفلاحة والمشاريع التنموية، منها فكّ العزلة عن عدة مناطق الجنوب بإعطاء إشارة انطلاق القطار على خط بوغزول – الجلفة – الأغواط، على مسافة 250 كيلومترًا، فضلًا عن كونه مشروًع ضخمًا بامتياز لأنه يدخل ضمن مشروع يربط بين عاصمة البلاد شمالا إلى عاصمة "الأهقار" تمنراست في أقصى الجنوب ومنه نحو دولة النيجر على مسافة 2439 كلم.

هذا المشروع، يدخل ضمن مختلف المشاريع الخاصة بالبنى التحتية وتنفيذ مخططات التنمية المحلية، إذ أعلن انطلاق العمل بكل من مركز مكافحة السرطان، وكلية الطب بجامعة الجلفة، بالإضافة إلى بعث مشروع السد الأخضر الذي يعتبر أحد رهانات الحكومة لمواجهة زحف رمال الصحراء نحو الشمال بسبب التغيرات المناخية.

وأعلنت السلطات خلال زيارة الرئيس عن استهداف تشجير مساحة 400 ألف هكتار في غضون السنوات الثلاث القادمة، وذلك في المرحلة الأولى من المشروع الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي؛ أي خلال فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، واستهدف وقت ذاك تشجير خمسة ملايين هكتار في 13 ولاية، قبل أن يتوقف في سنوات الثمانينيات.

وبذلك يعدّ بعث هذا المشروع أهم قرارات  عام من العهدة الأولى للرئيس تبون، خصوصًا أمام توجّه عالمي ووطني نحو مكافحة التصحّر بسبب التحولات البيئية والتغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية وإيجاد بدائل لمكافحة الجفاف أيضًا مع نقص منسوب المياه.

زيارة ثانية قادته للعمق الجزائري، فكانت ولاية تندوف في أقصى الجنوب على الحدود مع موريتانيا، المحطة الثانية للرئيس، إذ أعلن خلالها عن عدة مشاريع اقتصادية حيوية كبرى في المنطقة، أهمها: مشروع استغلال المنجم الضّخم للحديد المستخرج من منجم غارا جبيلات، الذي يعتبر من بين أكبر مخزونات الحديد في العالم باحتياطي ثلاثة مليارات طن، حيث وضع حجر الأساس للمشروع وأمر بإنجاز "مدينة منجمية" بامتياز، عن طريق توفير كافة الخدمات ومرافق سكنية واجتماعية على غرار الكهرباء وشبكة المياه لقاعدة الحياة وللساكنة.

بالأرقام، تقدّر تكلفة المشروع بنحو 15 مليار دولار، كما يساهم المشروع مستقبلًا في خلق 25 ألف منصب عمل مباشر و125 ألف منصب غير مباشر، أما عملية الاستغلال فتنفذ على ثلاث مراحل: تُنجَز خلال الأولى البنية التحتية لمشروع ووحدة نموذجية للإنتاج تنتهي خلال عام 2024، أما المرحلة الثانية سينتج خلالها ما بين مليونين إلى أربعة ملايين طن من خام الحديد حتى 2027، أما الثالثة، تتوقع أرقام حكومية إنتاج 50 مليون طن من الحديد سنويًا.

كما تقرّر خلال الزيارة، إنجاز مركّب الصلب وسكك الحديد والهياكل المعدنية بالمنطقة الصناعية "توميات" بولاية بشار، باستثمار قوامه 1 مليار دولار، في إطار الاستغلال المدمج للمنجم من خلال جملة من المنشآت والبنى التحتية على غرار خط السكك الحديدية غارا جبيلات-بشار، ومصنع المعالجة الأولية لخام حديد غارا جبيلات.

هذه المشاريع الاقتصادية، لها أبعادها السياسية أيضًا، كونها تقع على الحدود الجزائرية الغربية، فمنجم غارا جبيلات، لطالما كان محل خلاف بسبب اتفاقيات تعاون دار جدل طويل حول إلغائها من عدمه.

تغييرات وآفاق الميدان

من باب توضيح تحركات الرئيس خلال سنة 2023، تبدو زيارة الرئيس تبون للجلفة وتندوف، خطوة لمعاينة المنجزات الحكومية في الميدان، وتحسّس مدى تنفيذ قراراته التي تمخضت عن اجتماعات مجلس الوزراء، وتكثيف مجهودات الطاقم الحكومي والإطارات السامية في متابعة المشاريع وفقا لتعهداته عشية الانتخابات الرئاسية في 2019.

إن كان الاقتصاد هو العصب الأساسي لمشروع الرئيس تبون، فإن التغييرات السياسية الكبرى التي شهدتها المناصب العليا تبقى سمة غالبة في عامه الرابع من الحكم، إذ وجب الإشارة هنا إلى التغييرات الكبرى التي طالت قصر الحكومة، فبعملية حسابية بسيطة أجرى الرئيس خلال أربع سنوات من حكمه تسعة تغييرات على الحكومات منذ شهر يناير/ كانون الثاني 2020، إذ استهلك ثلاثة رؤساء حكومات كانوا يشغلون منصب وزير أول، وهم عبد العزيز جراد وأيمن بن عبد الرحمان ونذير العرباوي، بمجموع طاقم وزاري قوامه 80 وزيرًا، تداولوا على عدة قطاعات.

ووفق ذلك، يتبادر إلى الذهن السؤال الذي يطرح بإلحاح خلال الأعوام الأربع من عهدة الرئيس الأولى هو: هل التغييرات الحاصلة على الجهاز الحكومي جاءت في سياق البحث عن التوليفة الوزارية التي تنفّذ مشاريع الرئيس؟ أو بالأحرى هل يمكنه أن يفصل في تقسيم الوزارات التي تجزأت تارة والتأم شملها تارة أخرى، على غرار قطاعات الصناعة والمناجم والبيئة والطاقات المتجددة والصحة والثقافة؟

للإجابة على هذا السؤال، يقول أستاذ العلوم السياسية فريد بوطارن: " يتضح جليًا أنه في إطار مشروع الجزائر الجديدة، فإن تعهد تبون بتنفيذ الالتزامات الـ 54 التي قطعها كوعود على نفسه إبان دخوله المعترك الانتخابي في ،2019 وأعاد التذكير بها أثناء تنصيبه رئيسا للجمهورية، يفرض عليه أن يعثر على فريق يجسد تلك الالتزامات التي شملت المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المجالات".

وبالتعريج على هذا الجانب المهمّ من السنة السياسية، يضيف متحدث " الترا جزائر" أنّ غالبية القرارات التي أفرج عنها الرئيس تجسدت عبر جملة من القوانين التي من شأنها التأسيس للعدالة ومحاربة الفساد والفصل الحقيقي بين السلطات وتوسيع صلاحيات البرلمان بغرفتيه من ناحية التشريع والرقابة، وتعزيز الفعل السياسي والحزبي، فضلًا عن الإصلاحات التي تمسّ الحياة الفردية من حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحق التعبير.

وبالإضافة إلى هذه الإصلاحات، تتسم أربع سنوات من عهدة الرئيس تبون بـ "استمرار العمل على إبعاد المال الفاسد عن السياسة والقضاء"، علاوة على إعادة الاعتبار للمؤسسات المنتخبة وفتح المجال للمرأة والشباب للمشاركة في الحياة السياسية الوطنية.

سياسة اجتماعية

اجتماعيًا، ارتبطت التحركات الداخلية للسلطة بالسلم الاجتماعي، وتعزيز لم شمل الجزائريين، على أساس عمل الدولة على مواصلة السياسة الاجتماعية التي تتميز بها الجزائر منذ الاستقلال، خاصّة وأن الرئيس لا ينف في عديد اللقاءات الإعلامية بأنه يواجه جدار صدّ كبير بمحاربته لمجموعات نافذة أو ضاغطة، ما وسم منذ الحراك الشعبي بـ "العصابة" وهي التي استشرت في دواليب الإدارة والمؤسسات.

تقييم سنة رابعة من حكم الرئيس وعام 2023 كقطعة مجزأة من فترة عهدة رئاسية، لا يختلف عن السنوات الثلاث السابقة، وذلك من حيث الملفات الثقيلة التي ورثها تبون بمجرّد مسكه زمام السلطة، خاصّة منها معالجة ملفّات الفساد، والقضاء على تغول المال السياسي وتراكم توسعه خلال العقود الأخيرة، أو ما يوصف بـ "العصابة" ولوبيات السياسة والمال.

سياسية خارجية

يمكن وصف عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسبانيا بأنها كانت أبرز حدث سياسي هذه السنة، فبعد قطيعة استمرت لأكثر من 20 شهرًا، بدأت بوادر تطبيع العلاقات مع الجارة الشمالية، حيث اعتمدت الجزائر عبد الفتاح دغموم سفيرًا جديدًا في إسبانيا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد تغيير مدريد موقفها بشأن الصحراء، وهو الخلاف الذي بدأت بسببه بوادر قطع العلاقات.

تجسدت بوادر عودة العلاقات الجزائرية أيضًا في عودة رحلات الطيران إلى إسبانيا بما تحمله أيضًا من عودة للعلاقات التجارية، وجاء استقبال السفير الإسباني في الجزائر من طرف رئيس مجلس التجديد الاقتصادي كمال مولى، في يأتي في سياق انفراج العلاقات بين الجزائر ومدريد.

بخصوص العلاقات الجزائرية الفرنسية، مازالت تراوح مكانها بعد عودتها إلى مربّع الأزمة، وانفجرت هذه المرة بعد اتهام وجهته وكالة الأنباء الجزائرية للقناة الفرنسية "فرانس 24"، اعتبرت فيه أن معالجتها لموضوع حرائق الغابات يخدم أهدافًا انفصالية.

يمكن وصف عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسبانيا بأنها كانت أبرز حدث سياسي هذه السنة

في هذا السياق، وبعد أشهر من القطيعة أعقبت أشهر الحراك الجزائري، ودخول الجزائر في أزمات معقدة أبرزها ملف الذاكرة والاعتراف بجرائم الحرب، وجد ماكرون نفسه بعد بداية عودة العلاقات تدريجيًا إثر زيارة قادته إلى الجزائر، مجبرًا على خوض معركة جديدة لعودة العلاقات التي بقيت مضطربة مع الجزائر منذ مجئ الرئيس إلى الحكم، وهي أطول فترة تسجل فيها الجزائر خلافات مع باريس منذ الاستقلال.