في الطريق بين قسنطينة وباتنة شرق الجزائر، لم يتوقّف خالد (27 سنة) عن سرد تجارب أصدقائه في الغربة، ركبوا قوارب الموت في طريقهم المجهول نحو الغرب، ونجحوا في الوصول، ترك وراءه عائلته وأصدقاءه وأحلامه منذ أن حصل عل شهادة الباكالوريا قبل تسع سنوات، ليكون قرار الهجرة هو القرار الوحيد الذي سيطر على عقله، إذ خاض التجربة ثلاث مرات دون أن يحالفه الحظ، لكنه مصرّ على تكرار التجربة.
يتساءل الطالب المتخرج من كلية الهندسة بجامعة قسنطينة: لدي شهادات عليا متعددة، حاولت الاشتغال في أكثر من وظيفة، وجربت حتى عقود ما قبل التشغيل، لكن ماذا تفعل لك أجرة لا تتعدى الـ 15 ألف دينار
شهادات عليا وماذا بعد؟
نحن مجرد أرقام تعريفية في بطاقة التعريف الوطنية، يقول خالد لـ "الترا جزائر"، لا أملك حتى حسابًا في شبكة التواصل الاجتماعي باسمي الحقيقي، عشرات الأسماء التي اخترتها لألجل عالم الفضاء الافتراضي لأتعرف على العشرات من الجزائريين وغيرهم ممن جربوا الهجرة السرية، ولكنني لم أوفق في ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: تقرير: 4200 "حراﭪ" جزائري يصلون إسبانيا في 6 أشهر
بمرارة يروي الطالب المتخرج من كلية الهندسة بجامعة قسنطينة، "لدي شهادات عليا متعددة، حاولت الاشتغال في أكثر من وظيفة، وجربت حتى عقود ما قبل التشغيل، لكن ماذا تفعل لك أجرة لا تتعدى الـ 15 ألف دينار (لا تتجاوز 80 يورو)، لإعالة أسرة عدد أفرادها ثمانية، يقطنون في بيت سكني في حي شعبي، لا يليق بعيش البشر، نعم سأكرر التجربة مرات أخرى.. يقطع حبل تفكيره في الظروف ليكرر أن تكرار التجربة هو الحلّ.
قصة خالد والعشرات من الجزائريين من فئة الشباب خاصة، تتكرّر على أعتاب السواحل الجزائرية، الشرقية والغربية، كثيرون يحلمون بالهجرة، حتى وإن كانت الطريق وعرة، ولكن المثير أن مسافة الأميال بين الجزائر وإيطاليا مثلا تساوي ستة آلاف يورو وأكثر. سعى خالد وشريكه هشام لأن يجمعاها، لأجل دفعها لسماسرة "الحرقة" بالزوارق البحرية، وهم من يتكفلون بتوفير لهم الزورق الذي يقلّهم في عرض البحر، مجرد ملابس وأوراق نقدية تُحفظ جيدًا وملابس وسُترة نجاة إن لم تنجح العملية ليتمّ إنقاذهم، إن كُتب لهم العيش.
يروي الشاب هشام (28 عامًا) في حديث إلى "الترا جزائر، عن محاولته الأولى والثانية اللتان باءتا بالفشل بعدما قضى في عرض البحر، و كاد أن يموت لولا تدخل حراس السّواحل، لافتًا إلى أن فكرة المحاولة مرة أخرى لازالت تراوده لأنّ الأفق مسدود، على حدّ تعبيره.
هذان الشابان، حاولا في كلّ مرة جمع المال لأجل تحقيق الهدف المرجو، حيث اشتغلًا كثيرًا في ورشات البناء وغيرها من المهن لأجل تحصيل مبلغ محترم يكفي لتسديد فاتورة الهجرة عبر قوارب صغيرة، المهم بالنسبة لهما تحقيق حلم الهجرة بعدما قضيا سنوات في الدراسة، وتحصيل شهادات عليا بـ "الميزيرية" أي بالتغلب على محن الفقر والخصاصة لظروف عائلتيهما الصعبة جدًا، على حد تعبيرهما.
مرارة العيش
وفي طريق العودة، هل تفكرون في طريق العودة؟ أو طريق الغرق؟ ماذا سيحدث لعائلتيكما؟ أسئلة كثيرة، العودة أو الذهاب سيان بالنسبة لهذين الشابين، فكلاهما متشبث بفكرة الهجرة، عبر قوارب الموت، وكما يقول كل شاب جزائري أقدم على هذه الخطوة، إنها خطوة: "قاتلة، لكن ياكلني الحوت في البحر خير من يأكلني الدود".
الوصول لعنابة ليس النهاية، فهناك تبدأ رحلة التقصي والتحري من أجل تحديد الموعد المناسب للرحلة، وكل شيء يمرّ بحذر وعزيمة لمواصلة الخطوة حتى وإن كانت غير صائبة.
يعيد الحديث، عن هؤلاء المهمشين، فتح جرح الجزائريين الذين يودّعون تباعًا أرضهم وأهلهم في رحلة غير محسوبة العواقب، أو ربما " قاتلة"، بين شباب يموتون في عرض البحر، وعائلات مفجوعة من مصير أبنائها، مع الأنباء المتواترة عن ضياعهم في البحر أو وصولهم إلى مراكز تجميع دولية لمهاجرين من عدد من البلدان، خاصة منها الأفريقية.
الملفِت للانتباه، أن الهجرة السرية في الجزائر، أصبحت ظاهرة استفحلت السنوات الأخيرة، إذ تشير الأرقام التي أعلنت عنها الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود المعروفة بـ"فرونتكس" عن وصول أكثر من سبعة آلاف جزائري إلى إسبانيا بطريقة سرية خلال السنة الجارية.
هذا الرقم مخيف جدًا، ومرتفع جدًا، إذ يدقّ كثيرون ناقوس الخطر، وهو ما أشار إليه أستاذ علم الاجتماع السياسي، ناصر جابي في تدوينة على حسابه الشخصي بمنصة التواصل الاجتماعي فيسبوك، معتبرًا أن "من يريد حل مشاكل الجزائر والجزائريين عليه بالتعرف على أسباب الهجرة لديهم ومعالجتها".
انتحار بطيء
مع ظروف جائحة كورونا، ازدادت عمليات الهجرة السرّية، خصوصًا وأن الأوضاع الاقتصادية في العالم جمعيها تأثرت بسبب الوباء، غير أن ذلك لم يمنع من استمرار حلم الشباب وحتى الكهول في معانقة المغامرة الصعبة.
في هذا الصدد، لفت الباحث في علم الاجتماع والديمغرافيا بجامعة أم البواقي شرق الجزائر عبد الكريم لعوايدية إلى أن الوضع الصحي لم يغير فكرة الكثيرين في الهجرة السرية، مشددا في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن الأسباب الاجتماعية زادت في حدة الظاهرة، وهو ما يعني وضع: "اليأس لدى الشباب الجزائري من تحسن الأوضاع، بل لا يوجد تحسّن في الأفق".
مقياس الأمل حسب الأستاذ لعوايدية، يمكن أن "نراه من خلال الظروف المعيشية؛ فعلى المستوى الاقتصادي، نلاحظ آلاف أصحاب الشهادات العليا يعتصمون أمام وزارة التعليم العالي ومديريات التشغيل عبر الوطن، خاصّة منهم الدكاترة الذين لا زالوا ينددون بالتهميش، وغيرهم من الشباب البطال في عدد من المناطق الجزائرية".
هنا، تشير بعض الدراسات إلى أن ظاهرة الهجرة السرية تحتاج إلى إعادة مراجعة سياسة الدولة التنموية، وتوجيه كل جهودها في استثمار الشباب والكفاءات في الشغل وتحسين الخدمات، على أساس العدل وتكافؤ الفرص، وتؤكّد أن "مشكلة الهجرة السرية التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة تحتاج الى مراجعة شاملة لكل السياسات الخاصة بالتنمية وتفعيل دور الشباب بأسس العدل والمساواة وتكافؤ الفرص".
تشير بعض الدراسات إلى أن ظاهرة الهجرة السرية تحتاج إلى إعادة مراجعة سياسة الدولة التنموية، وتوجيه كل جهودها في استثمار الشباب والكفاءات في الشغل وتحسين الخدمات
هو ذلك الجرح الذي لن يندمل حتى وإن تمكَّن البعض منهم الوصول للضفة الأخرى من البحر المتوسط، إلا أنّ الرّحلة لن تنتهي بمجرّد الوصول، وحلقاتها قد تزداد تعقيدًا هناك من وراء البحر، إما الغرق في ملاقات الشرطة، أو الترحيل والعودة للوطن. ولقصّة خالد وهشام وغيرهما تفاصيل أخرى وبقية.
اقرأ/ي أيضًا:
عودة الهجرة السرّية.. أزمة اجتماعية أم سياسية؟
الجزائر وإسبانيا تبحثان ملف الهجرة السريّة والإرهاب