28-يونيو-2024
فواد معلى

فؤاد معلى (تركيب: الترا جزائر)

لم يكن فؤاد معلى، هذا التاجر والجامعي المتخصصفي الهندسة الميكانيكية من جامعة بومرداس، يتوقع، وهو يغرس، العام 2013، أول شجرة أمام بيته الواقع بحي الباطوار، بباتنة شرقي الجزائر،أن تلك الشجرة ستلد غابة من المشاريع الخضراء.

رجلٌ أخضر

رحلت تلك الفكرة من حيه إلى كل أنحاء المدينة ثم الولاية، لتسافر بعد ذلك إلى كل ربوع البلاد الجزائرية، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لتلامس حدود الصحراء مع دول الساحل. وأكثر من ذلك أن تلاقي قبولا كبيرا، بعدما صار شعار " خضراء بإذن الله"، واحد من أكثر "الهاشتاغات الشفوية" شيوعا في البلاد.

 وكما لو أن المثل القائل " لا تكمن الثروة في المال بل في السمعة"، يعلل الرجل سر النجاح في حديث لـ "الترا جزائر" قائلا: " لم يتأسس هذا المشروع بأموال كبيرة، فقد ولد من فكرة بسيطة سرعان ما لقيت استجابة واسعة من قبل أبناء الأحياء و المحسنين و الخيرين الذين ساعدونا بالمعدات والشاحنات".

ويُضيف: " إن من أعظم الأعمال و الصدقات الجارية، كما يقول الحديث الشريف "إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، وأظن أن توفر الصدق والمصداقية، هما المحركان اللذان صنعا هذه التجربة الفريدة، صحيح أني صرت مصنفا في خانة المؤثرين الإيجابيين، لكن في الحقيقة المشروع هو من عرّفني، فما من أحد كان سيعرفني لولا هذا المشروع الإيجابي" .

الأم الروحية

ترعرع فؤاد في قرية لقصر الواقعة في بلدية تكوت جنوبي شرق باتنة، وحينما كان في الخامسة من عمره، دأبت جدته هنية شباح على إيقاظه بعد صلاة الفجر ليرافقها في سقي الأشجار المغروسة يوميا. وهذا الروتين المستمر لم يكن مجرد هواية وترف بل معافرة حقيقية ضد الطبيعة القاسية، ومحافظة على الحياة، فالشجرة قبل أن تكون مصدر رزق هي صانعة نظام المناخ الملائم.

عن تلك التجربة يعترف لـ "الترا جزائر" ممتنا: " أنا مدين لجدتي المرحومة هنية فهي الأم الروحية لمشروع الجزائر الخضراء، وما لقنتني إياه في تلك المرحلة هو البذرة الأولى لميلاد هذا المشروع الحلم".

فؤاد معلى لـ "الترا جزائر": أنا مدين لجدتي المرحومة هنية فهي الأم الروحية لمشروع الجزائر الخضراء

وإلى حد ما، يعيد فؤاد العاشق للأرض والطبيعة، المترحل من ولاية إلى أخرى أسطورة الأمريكي جون شابمان، ذلك الرجل الذي كرس خمسين سنة من حياته في زراعة بذور التفاح، جائبا ولايات كبرى في الغرب الأمريكي بين أعوام 1780 و1845، مكتسبا محبة الأمريكيين واحترام الهنود الحمر، الذين كانوا لا يؤذونه في سنوات حروبهم ضد البيض، نظير عشقه للأرض والطبيعة والأشجار.

باب الدار

قرر الرجل أن يشرع في تشجير الحي الذي يقيم فيه، فانطلقت حملة بسيطة كانت حجر الأساس لمد المشروع، وبعد ثلاث سنوات، فقط، ارتفعت تلك الجذوع إلى حدود المترين، فطرأ تغيير ملحوظ في المشهد فاتحا الشهية التي تأتي مع قضم فاكهة الانتصار، فيضيف: " كنت دائم التساؤل لماذا حوّاف طرقاتنا عارية من الأشجار؟ ويوم كشفت لابن عمي عن حلمي الأخضر في تشجير حي الباطوار ثم بوزوران، استصغر القصة التي بدت مستحيلة كما قال وطبعا لم يكن الأمر بالنسبة لي سهلا، بيد أني تجرأت. مشكلتنا أننا نرمي المنشفة قبل أن نخوض النزال، لكن العمل وحده من يكسبك الرهان".

 إلى ذلك يُردف: " البركة في الحركة مثال يبدو صحيحا للغاية، فبعد أعوام طلعت أشجار التوت التي صارت مقصدا للأولاد القاطفين للثمرة اللذيذة، كما ارتقت أشجار الزيتون التي يقصدها المواطنون لاقتطاع الزبوج، لا بل حتى أشجار الكاليتوس التي غرسناها نفعت البشر خلال أزمة كورونا".

فؤاد معلى: كنت دائم التساؤل،  لماذا حوّاف طرقاتنا عارية من الأشجار؟

 يضحك متابعًا: " قيل لي أن أشجار الزيتون تخلف حساسية، هم لا يعلمون أني مريض بالحساسية ورغم ذلك أواظب على الغراسة، فالحساسية عارض غير قاتل يستغرق أسبوعا فقط، أما القاتل الحقيقي للحياة فهو أن نعيش مكتئبين على مدار أعوام في بيئة صفراء وشهباء، ولو أننا خضعنا لرغبات الناس ما كنانحقق شيئا. إذا عزمت على أمر فتوكل على الله.والحمد لله كانت التجربة المفيدةهي نقطة البداية لحلم وفير أكبر من سابقه".

أزرق في أخضر

أنشأ فؤاد الذي يرأس اليوم جمعية الجزائر الخضراء، صفحة فيسبوك حملت اسم "أمام كل بيت شجرة" تأقلما مع مستجدات تغير المشهد الإعلامي، وقد مكنت تلك الصفحة التي يتابعها أكثر من ربع مليون شخص، من بث الفكرة وتدعيمها بالقدوة الميدانية، كما لو أن القدر سخر هذا الفضاء الأزرق خدمةً للمشروع الأخضر.

يرى فؤاد معلى أنه " يكفي أن تغرس فكرة خيرة حتى يتلقفها الجميع، هكذا نما المشروع وانتقل من الحي إلى المدينة، بهذه الطريقة ولدت فكرة أمام كل بيت شجرة، واجهنا صعوبات لوجسيتية في البداية فلم ننهزم. كنا نجلب الشتائل ونغرسها أمام البيوت بالتنسيق مع سكان تلك الأحياء، كما كنا نلجأ لمساعدة السلطات المحلية التي توفر لنا صهاريج المياه، ليتكفل أبناء الحي بضمان المتابعة، فأهم من غرس الفسيلة هو الاعتناء بها على الدوام ورعايتها عبر الري والتقليم والحماية من عمليات التخريب أو التلف".

ولتوضيح طبيعة تلك العمليات الواسعة، يضيف: " طبعا لا يجب أن يكون الغرس جزافيا، يحتاج أول الأمر لدراسة حول النوعيات المتلائمة مع مناخ المنطقة، أنا ضد غرس نخيل الزينة، المعروف بالواشنطنية، في شوارع المدن، يمكن غرس وحدات منها أمام الإدارات لكن تعميمها خطأ كبير، لأنها تشغل حيزا كبيرا، دون أن توفر الظل المطلوب، كما أنها لا تنتج الأوكسيجين الكثيف، بل من الأفضل أن تلجأ للأشجار المثمرة والمعمرة المقاومة، هذا أفضل خيار بناء على تجربة عقد كامل، سابقا زرع الفرنسيون التروان الياباني المعروف محليا " التيب" في مدن داخلية، لكن تغير المناخ تسبب في تيبس هذه الأشجار لذا من الأجدر اللجوء للشتلات المحلية، أو غراسة نباتات ملائمة فقد جربنا شجرة الزنزليق و لقيت نجاحا كبيرا حتى أن العديد باتوا يطلبونها".

فؤاد معلى: أنا ضد غرس نخيل الزينة، المعروف بالواشنطنية، في شوارع المدن، يمكن غرس وحدات منها أمام الإدارات لكن تعميمها خطأ كبير

مشتلة في كل بلدية

لا يتذكر المتحدث عدد الأشجار التي غرست على مدار 11 سنة، ففي الأيام الفارطة غرس المتطوعون أكثر من 20 ألف شجرة في أسبوع، ما يعني أنها تحسب بالملايين، لكن لغة الأرقام تلك لا تستهويه كثيرا إذ يقول: " إن هذه المبادرة كان يمكن أن تصبح مبادرة عالمية لو لقيت التعميم الإعلامي المطلوب، ليبقى هدفنا الأسمى هو أن يصبح سلوك غراسة الشجرة سلوكا يوميا روتينيا مثل تناول الخبز بالحليب، وتفعيلا لذلك نعد لمشروع مشتلة في كل ولاية، هذا سيسمح لنا بتوفير الفسائل في عين المكان، وتفادي التنقل المتكرر وتضييع الوقت والجهد والتسريع في وتيرة التنفيذ، على أمل أن نؤسس مشتلة في كل بلدية".

بالمطلق وجد هذا المشروع ليبقى وكي يتمدد جراء إيمان معتنقيه به، فعدد متابعي صفحة الجزائر الخضراء ارتفع، راهنا، إلى ما يقارب المليون. ثمة ما يفسر هذا الالتفاف حول مشروع نجح عمليا في أن يقضى على الشعور بالعجز الدائم عن ابتكار الأشياء الإيجابية في محيط يعاني منسلبية مزمنة. أمّا فؤاد الرجل الأخضر فقد منح مفهوما حقيقيا لمعنى جمعيات المجتمع المدني التي تخدم المواطنين بمشروع خيّر بأهداف واضحة ملموسة، لا مجرد خطابات بلا عمل أو أمل.