14-فبراير-2024
الأرز الأطلسي بولاية باتنة (صورة: الترا جزائر)

أشجار أرز أطلسي ميتة بولاية باتنة (صورة: الترا جزائر)

تعتبر شجرة الأرز أو "إِيذْڨَلْ" كما تسمى بالشاوية، أو "البيڨنون" كما تلقب بالعامية الدارجة، إرثًا تاريخيًا وطبيعيًا، كبير المنافع البيئية والطبية والجمالية، ولأجل حماية هذا النوع من الأشجار تقرّر قبل ثلاث سنوات، تصنيف المحمية الطبيعية شيليا حظيرة وطنية بعد عشر سنوات من الدراسة.

الخبير عيسى العابد لـ "الترا جزائر": قام فرنسيون بنقل بذور الأرز الأطلسي من الجزائر وأعادوا غرسها بإقليم سافوا بفرنسا، ولتوفرها على مناخ ملائم نمت بشكل مزدهر و مثالي

في القرن الرابع قبل الميلاد، استخدم النوميديون (أقدم الممالك الجزائرية) خشب الأرز، دعائم في بناء ضريح إِمَدغاسَن الملكي، الذي لا يزال شامخًا ببلدية بومية، شمال باتنة، شرقي الجزائر، ولأن خشب الأرز مقاوم للرطوبة والتعفن والحشرات والسوس، فقد اعتمده الرومان والإغريق في بناء القصور والمعابد والسفن، أما زيته المسمى"دم الأرز"، فقد استعمله الفراعنة في راتنج التحنيط، فيما استخدمه الأشوريون والبابليون قبل خمسة آلاف سنة في التبخير لمعالجة أمراض الصفراء والسعال والمعدة.

لكن هذه الثروة الغابية والسياحية باتت اليوم مهددة بالزوال والاندثار، في معاقلها الأوراسية بولايتي باتنة وخنشلة، حيث كانت تقدر نهاية القرن الماضي بـ 27.000 هكتار حسب دراسة بودي، لتصبح اليوم في حدود 17 ألف هكتار حسب تقارير إدارية، فيما تؤكد معاينات ميدانية، أنها أقل بكثير ممّا هو مدون على الأوراق، فالإحصائيات تتحدث عن جغرافية انتشار الأرز الأطلسي دون الأخذ بعين الاعتبار المساحات الشاسعة من الغابات الميتة التي خلفتها ظاهرة "تماوت الأرز".

الأرز الأطلسي

الغابة ذات الوجهين

وأنت تتجول في حظيرة بلزمة الشاسعة بمساحة 26.500 هكتار، والواقعة على بعد 7 كلم عن مدينة باتنة، أو غابات الزقاق جنوبًا، أو حتى في غابات أولاد يعقوب وشيليا بخنشلة، تأسرك أشجار الأرز ذات الأوراق الإبيرية المتدلية مثل مظلات وارفة خلال سقوط الثلوج شتاء، أو أثناء ابتهاج الطبيعة ربيعًا، لكنك ستصدم حتمًا، وأنت ترى هكتارات شاسعة من الأرز العاري والجاف، كما لو أنها مقابر جماعية لأشجار منتهية في قلب حدائق الجبال الساحرة.

تسمى الظاهرة التي بدأت منذ الثمانينيات واستفحلت في الأعوام الأخيرة بتماوت أو اضمحلال الأرز، هنا، يوضح عيسى العابد وهو خبير في الغابات كان شغل منصب مدير محافظة الغابات لولاية باتنة ومدير حظيرة بلزمة الوطنية، ومؤلف كتاب حول الظاهرة سيصدر قريبًا، إن "هذه الظاهرة لوحظت بالأوراس منذ سنة 1984، ثم تفاقمت حدتها في الأعوام الأخيرة، هناك مناطق برمتها مسحت مسحًا، مثلا غابة أرز جبل بومرزوق التي كانت تضم 300 هكتار، لم يبق منها اليوم شيء بعدما حلّ محلها غطاء الصنوبر الحلبي، هذا مثال يوضح أثار التماوت بشكلٍ قاس ومدمر".

أكثر من ذلك لا تزال بعض المناطق تحمل طوبونوميا تدل على أنها كانت موطنًا للأرز، مثل رأس البيڨنون، أو ثنية البيڨنون، لكنها فقدت تلك الأشجار واحتفظت بالأسماء كما لو أنها شاهدة على موتها.

أما الخبير الغابي عثمان بريكي، وهو إطار سابق في المدرسة الوطنية للغابات بباتنة، والذي صدر له كتاب بسويسرا منذ فترة حول تماوت الأرز فيقدم رقمًا مرعبًا في حديث إلى "الترا جزائر"، موضحًا أن "الحظيرة الوطنية لبلزمة التي كانت تحصي 5500 هكتار من الأرز الأطلسي فيما مضى، فقدت قرابة النصف من مساحتها، بعدما قطعنا 2500 هكتار من الأرز الميت تفاديًا للعدوى في السنوات الأخيرة. هذا ولاتزال هناك بؤر موبوءة معرضة للجز الميكانيكي".

الأرز

الظل والضوء

يرجع مهندسو الغابات والمختصين الذين تحدثنا إليهم، عن أسباب موت الأشجار، إلى عوامل طبيعية بحتة مثل التغيرات المناخية، على رأسها ارتفاع الحرارة والجفاف، والتناقص المطري، بالإضافة إلى أخرى بشرية مثل الرعي العشوائي غير المتزن، فأشجار الأرز تنمو في المرتفعات العالية شديدة البرودة، ذات الكميات المطرية والثلجية الغزيرة.

سبّب الجفاف ما يسمى "الإجهاد المائي"، وهو ما قدم بشأنه الأستاذ عبد الحفيظ حمشي المختص في النباتات، ورقة بحثية بسطت الأمر كما يلي: "يحتاج الأرز سنويًا لكميات مطرية تتراوح بين 500 و 600 ملم في الحد الأدنى و 1700 ملم كحد أقصى للاستمرار والنمو و لمقاومة العوامل الحرارية و التيارات الساخنة التي تأتي من الجنوب، فالأوراس واقع ضمن سلسلة الأطلس الصحراوي، و هو آخر درع طبيعي في مواجهة الصحراء و التصحر، أما الأكواز البنية التي تعد ثمرة الشجرة و الحاملة لبذرات الاستخلاف فتحتاج لدرجة برودة ما بين 5  إلى 20 درجة تحت الصفر للتفتيق و النمو".

الأرز الأطلسي

ويدعم الخبير عيسى العابد هذا الطرح بقوله لـ "الترا جزائر" إن الأرز يحتاج لمنظومة مناخية دقيقة. إن البذور التي تطرحها الأكواز تنمو وتستمرّ في البرودة والرطوبة، لتصبح شتلات صغيرة وهي تحتاج للظل كي تبقى وتستمر. أما حينما تكبر فتحتاج لضوء الشمس، لذا فإن الدورة تنقطع بمجرد تناقص الرطوبة للشتلات الصغيرة و تموت بمجرد تعرضها لرياح السيروكو – الشهيلي- الضارة، و لهذا السبب يكثر تماوت غابات شيليا و بلزمة الجنوبية، أي تلك المواجهة لرياح الجنوب"ريح الخماسين"، فيما لا تزال الغابات الواقعة في الجزء الشمالي حيّة، نظير ما تستفيد من البرد و الثلوج و الظلال، مثل غابة برجم أكثر الغابات اخضرارًا، لقد قام فرنسيون بنقل بذور الأرز الأطلسي من الجزائر وأعادوا غرسها بإقليم لا أوت سافوا بفرنسا، ولتوفرها على مناخ ملائم نمت بشكل مزدهر و مثالي " 

الفراشات القاتلة

حينما تزور غابات الأرز الأطلسي مترامية الأطراف في مناطق بلزمة وأولاد يعقوب وشيليا والزقاق وقطيان، ورأيت الأكواز البنية العائمة في كبّات صوف بيضاء، تشبه "العهن المنفوش"، يوصيك العارفون بتجنب العبث بها، كي لا تكلفك الإصابة بأعراض و التهابات خطيرة قريبة من العمى، في حال تغلغل ذراتها المتناثرة في العينين، و أما خبراء الغابات فهي بالنسبة لهم دليل على مرض الشجرة، بوباء يخلفه نوع من الديدان الجرارة، التي تسير في رتل، وتسمى علميًا يرقات جادوب أعشاش الأرز الأطلسي، أما كنيتها العلمية فهو دودة البونجياني، وهذه الحشرات فتاكة للغاية لقدرتها على الاختباء تحت الأرض و التكيف مع المناخ لتبيض تحت التراب، و هي قادرة على الكمون لما يربو عن ثلاثين سنة، قبل أن تهاجم الأشجار.

يضيف عيسى العابد ما يلي: "عندما زرت غابة متضررة أصبت بصدمة، بدا هجوم دود بونجياني مثل حريق كبير، لقد عرى في ليلة واحدة عشرات الأشجار وتركها بلا أوراق مثل الجراد تمامًا. وحتى البذور التي تكتنزها أكواز الأرز وجرّاء نهشها من يرقات الجادوب تصبح عاجزة عن توليد دورة تكاثر جديدة".

الأرز الأطلسي

ويسهب خبير الغابات عثمان بريكي في حديث إلى "الترا جزائر" أنه لشجرة الأرز 11 عدوًا، تبدأ هشاشتها بعوامل محرضة مثل أثر الحرائق سواءً تلك التي تسبب فيها النابالم خلال الفترة الاستعمارية أو خلال الأعوام القريبة، ثم الجفاف وشح الأمطار. وهناك عوامل مفعلة للفناء تستغل ضعف مناعتها، مثل دودة السكوليت التي تخرم الشجرة وتتوغل داخلها لتبيض فيها، تقاوم الشجرة العدوان بإفراز مادة، فتطلق السكوليت رائحة تجذب حشرات سكوليت أخرى لتغزو الشجرة حد الإنهاك التام. يتقوى السكوليت من طاقة وروح الشجرة الميتة فيغدو فراشة مزركشة سرعان ما تطير مخلفة بيضها هناك، باحثة شجرة أرز أخرى لتجدد فيها دورة الموت".

قبل سنوات قام خبراء أميركيون من جامعة أريزونا، بمهمة استكشافية ودراسية لغابات بلزمة وشيليا، أظهرت نتائجها الأثر المدمر لتغير المناخ، ونظّمت عدة ملتقيات بباتنة، قصد إيجاد حلول علمية ناجعة لتدهور الأرز، لكن النتائج لم تأخرت في المجيئ، أما التدهور فواقع يمكن مشاهدته عيانًا، حتى أن كثيرين يرون أن المساحات المقدرة بـ 11 ألف هكتار بولاية خنشلة و7 آلاف هكتار بولاية باتنة، لم تعد دقيقة وفي حاجة إلى تحيين جديد لرسم خريطة فعلية عبر صور أقمار صناعية، لا بل إن بعض المتشائمين- عطفًا على ما سبق- يتوقعون سيناريوهات قاتمة تتنبأ باختفاء الأرز من الأوراس و مناطق أخرى خلال العقود القادمة.

الأرز الأطلسي

ضوء أمل 

لا ينكر خبراء هذه النبوءة التشاؤمية لكنهم يؤكّدون بأن الطبيعة تجدد ذاتها بذاتها، بعد ظهور ما بات يعرف بالتجديد الطبيعي للأرز في مناطق عديدة بالحظيرة، وهذا التوالد يمنح أملًا لبقاء الأرز مستمرًا في هذه الربوع ومثيلاتها، حيث يكشف عثمان بريكي قائلًا: "جربنا التجديد الاصطناعي لكنه فشل، لم تنجح غراسته سوى بخمسة في المائة، لكن التجديد الطبيعي لافت للنظر، فكل غابة ميتة تُبعث من رمادها".

من جهته يعبر عيسى العابد عن تجدد غابات الأرز أنه "لاحظنا في غابات عدة عودة الأرز للنمو، ففي منطقة كاف إيسلان شمال مثلًا، الواقعة في الحظيرة الوطنية لبلزمة، نبتت أشجار أرز بين شقوق جدر جبال صخرية، هذا دليل يؤكّد قدرة الأرز على النمو في الجذامير، ثم ليكبر بين فلوج صغيرة، مستفيدًا من المياه والثلوج والرطوبة العالية ومن الصخور التي تحميه من الحرارة المرتفعة والرياح الساخنة، لقد اكتشفنا غابة من 30 هكتارًا قمنا بجعلها محمية مسورة حتى لا تطالها الأبقار وأقدام البشر، ويعني هذا مثلما تعنيه مواقع أخرى استعاد فيها الأرز دورته الطبيعة، بأن هناك أمل قائم شريطة، التسيير الجيد للغابات الجزائرية وهو الأمر الذي افتقدناه كثيرًا في العقود الأخيرة".

شجرة الأرز باتت اليوم مهددة بالزوال والاندثار في معاقلها الأوراسية بولايتي باتنة وخنشلة

وطبعًا، يقصد المتحدث بتسيير الغابة نقاطًا عدة، منها عودة تفعيل حرس الغابة، و تنشيط حملات المعالجة الميكانيكية والكيماوية للأشجار المتضررة من الديدان الجرارة لقطع سلسلة العدوى، وبعث مهاجع حراس الغابة للحد من التواجد البشري غير المبرر في بعض المناطق الغابية المحمية التي يتهافت عليها المخيّمون والجوالون، وتعيين أدلاء يرشدونهم للمسالك المسموحة ويبعدونهم عن المسالك الممنوعة، ولمراقبة رعي الأبقار العشوائي، والحد من ظاهرة القص غير الشرعي للأشجار التي يقوم مهربو الحطب ببيعها لصناع القصع الخشبية، وأسطوانات تقطيع اللحوم، أو الاحتفاظ بها كديكور طبيعي في المنازل و الفيلات الفاخرة.