فرضَت التطوّرات الحاصلة في فلسطين وفي أعقاب اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة، تجدّد الحديث عن سنّ قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني ورفع سقف التصعيد في الموقف الجزائري حيال ذلك، إذ كشفت وثيقة برلمانية عن الكتلة النيابية لحركة مجتمع السلم، عن جملة من المحاذير في علاقة مع الكيان الإسرائيلي، أو مختلف المؤسسات والهيئات الداعمة له أو التي تتعامل معه، في خطوة إيجابية في نظر البعض فيما يراها البعض الآخر قرار يختصّ به الرّئيس الجزائري بناءً على قوانين دستورية.
يعاقب كل من يساهم أو يشارك في ارتكاب أفعال التطبيع مع الكيان الصهيوني أو يحاول ارتكابها بالسجن من 5 إلى 15 سنة
وفي رزنامة البنود التي جاءت في الوثيقة، تنصّ مسودّة القانون على" تجريم كل فعل من شأنه أن يتضمن فعل التطبيع مع الكيان الصهيوني، و"تمنع التّعامل واقامة أية اتصالات أو علاقات أو فتح مكاتب تمثيل من أي نوع وعلى أي مستوى كان مع الكيان الصهيوني بطرق مباشرة أو غير مباشرة".
كما ذكر المشروع أنه "يمنع على كل شخص أن يعقد بالذات أو بالوكالة اتفاقًا مع هيئات أو أشخاص مقيمين بالأراضي المحتلة أو منتمين إليها بجنسياتهم أو يعلمون لحسابها أو مصلحتها مهما كان موضوع الاتفاقات، صفقات تجارية أو تعاملات مالية أو أيّ تعامل آخر مهما كانت طبيعته".
وفي سياق ذي صلة، تطرقت الوثيقة المسودة إلى ضرورة "منع السفر من وإلى الكيان الصهيوني وإقامة أية اتصالات ولقاءات مع الهيئات والأشخاص، كما يمنع دخول حاملي جنسية الكيان الصهيوني إلى الجزائر أو إلى مقرّات وفروع البعثات الدبلوماسية التابعة لها".
إضافة إلى ما سبق أشارت إلى "منع المشاركة في أي نشاط يقام بالكيان الصهيوني أو يساهم فيه أو يحضره أشخاص معنويون أو طبيعيون، سواءً كان هذا النشاط سياسيًا أو أكاديميًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو فنيًا أو رياضيًا أو غيره، سواءً نظمته هيئات رسمية أو غير رسمية".
كما نصّت مواد المشروع على "منع مشاركة أي نشاط يقام في الجزائر، أو يساهم أو يشارك فيه أشخاص طبيعيون أو معنويون يحملون جنسية الكيان الصهيوني أو يقيمون به، سواء كان النشاط سياسيًا أو أكاديميا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أ سياحيًا أو غيره".
وفي سياق آخر، دعت الوثيقة المسودة إلى "منع مستخدمي الشبكة العنكبوتية أو وسائط الاتصال الإلكتروني من الاتصال والتعاقد مع المواقع والخدمات الإلكترونية التي منشأها في الكيان الصهيوني أو التابعة لهيئات أو للشركات المتواطئة والداعمة للاحتلال، ويتم حجب جميع المواقع والخدمات من طرف الجهة الوصية".
وواصلت أنه "يدخل في حكم المنع كل تأييد أو تجميد أو ترويج أو دعاية أو دعم لأعمال أو تجارة أو إعلانات من أي نوع كانت، أو سلوك يتنافى مع أحكام هذا القانون أو جوهره سواءً تم ذلك خفية أو جهرًا بأيّة وسيلة من وسائل الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعة".
وتنص أيضًا على عقوبات في حق "كل من يساهم أو يشارك في ارتكاب أفعال التطبيع مع الكيان الصهيوني أو يحاول ارتكابها بعقوبة السجن من خمسة إلى 15 سنة وبغرامة مالية".
وتمّ إيداع الوثيقة –المشروع لدى مكتب البرلمان، الذي سينظر فيه وفي حال الموافقة عليه يتعين إحالته على لجنة الشؤون القانونية والحريات في البرلمان، والتي ستناقش مسوَّدة القانون قبل أن تحيله على الجلسة العامة للبرلمان.
موقِف واحد
إجرائيًا، يتفق الرأي العام الشعبي والسياسي في الجزائر على موقف واحد مناهض للتطبيع، إذ أخذت هذه القضية التي ظلت خطوة باهتة لدى مختلف الدول العربية منذ السبعينات إلى غاية العام 2020، لتحرّك الكيان بأذرعه المالية والسياسية نحو سحب عديد الدول العربية نحو أحضانه، وهو ما ترفضه الجزائر حكومة وساسة وشعبًا.
الملفِت للنّظر، أن مسودة القانون كمبادرة تشريعية صادرة من نواب البرلمان الجزائري، خطوة لقطع الطريق أمام أيّة عملية أو خطوة نحو التطبيع مع الكيان، حتى وإن كانت الجزائر حسمت هذا الموقف في السرّ والعلن، إلا أنّ التطورات الحاصلة في فلسطين أحيت هذا المبدأ وأيقظت بركان تهديد الكيان من التغلغل في الدول التي لازالت محافظة على موقفها من حيث المبدأ والتطبيق.
في هذا السياق قال مندوب أصحاب هذه المبادرة التشريعية، عن حركة مجتمع السلم النائب يوسف عجيسة، إنّ هذه المبادرة تستهدف غلق كلّ المنافذ الممكنة مستقبلًا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، مشيرًا في تصريح لـ"الترا جزائر" إلى أن هناك بعض الدول كانت في غضون السنوات الماضية بعيدة تمامًا عن التطبيع، لكن الكيان الصهيوني لازال مواصلًا في مشوار التطبيع مع الدول ووجد سريعًا سبل التغلغل في وسطها وأوجد ظروف أخرى للتّطبيع.
صلاحيات الرّئيس
رغم المبدأ السامي للمبادرة التي لازالت في بدايات التشكُّل، إلا أن مثل هذه الخطوات بحسب العارفين بهذا الملفّ الشائك، لا تجد الطريق لإقرارها بسبب معوقات سياسية أهمها لكونها تتداخل مع صلاحيات دستورية تخصّ رئيس الجمهورية الذي هو صاحب الحق في كلّ ما يتعلق بملفات السياسات الخارجية.
أما نييابيًا فإن أغلبية الأعضاء في البرلمان الجزائري لا تدعم هذه الخطوات إلا بموافقة من السّلطة، خاصّة بالنسبة لنواب أحزاب الموالاة، كما أنها تفتقد لسلطة التقدير السياسي.
مثل هذه القوانين والمسودّات التّشريعية تسبّب حرجًا للسلطة الجزائرية من حيث التزاماتها السياسية، حسب الباحث في الاتصال السياسي عبد السلام جنوحات من جامعة أمّ البواقي شرق الجزائر، حيث أشار إلى موافقة الجزائر على المبادرة العربية لقمة بيروت التي طرحتها الرياض والتي تتضمّن الاعتراف العربي بالكيان الإسرائيلي مقابل اعترافها بحقّ الفلسطينيين في إقامة الدولة (الأرض مقابل السلام).
ومن خلال هذا المعطى، أكد الأستاذة جنوحات لـ"الترا جزائر" أن موقف الجزائر يظلّ منسجمًا مع التزاماته الداخلية والخارجية خصوصًا وأنها باشرت في لملمة أطراف الفصائل الفلسطينية لعقد مؤتمر جامع في الجزائر، وهو ما يعني أن التشويش على أي مسعى في هذا المنوال أو هذا الخطّ ليس الآن.
وأشار تفي الأخير إلى أن "تجريم التطبيع يحتاج إلى عمل سياسي كبير بعيد عن الأضواء لاعتبارات كثيرة، لا يمكن الإقرار بها دونما ربطها بمتطلبات سياسية واقتصادية".
مشروعية الموقف
في الغالب السّلطة السياسية في الجزائر لا تعترِض على هذه المبادرات السياسية والشّعبية لكونها تغذّي الموقف الرّسمي ضدّ التّطبيع وتتغذّى منه بالأساس، وتعزّز الموقف الرسمي وتعطيه مشروعية.
بعيدًا عما يُوسم بالموقف السياسي الرّسمي، سبق للسّلطة الجزائرية في فترات سابقة أن اتخذت مواقف وقرارات "مريبة" ولكن بحكم مقتضيات الدّولة (ردود دبلوماسية في حينها) أو لظروف خاصة دفعت أطراف سياسية وشعبية إلى الاعتراض على التطبيع، ليفتح لها ممرًا للتّراجع وتقرير هذا التراجع، على غرار ما حصل في سنة 2000، وما شهدته الساحة وقتها من رفض شعبي لزيارة المغني الفرنسي اليهودي الأصل أنريكو ماسياس الجزائر (ولد في قسنطينة زمن الاستعمار الفرنسي ) بسبب دعمه لـ "إسرائيل".
يروي عدد من السياسيين من الشخصيات الجزائرية، لـ"الترا جزائر" أن الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لدى زيارته لفرنسا في العام 1999، ردّ بلباقة تقتضيها أعراف دبلوماسية الزيارة الخارجية على طلب المغنّي ماسياس الذي طلب زيارة مسقط رأسه، قائلًا له: "ولِمَ لا؟"، وهو ردّ دبلوماسي من رئيس جمهورية ومقتضيات تصرفات الدولة في تلك اللّحظة وأمام الوفود الرسمية بباريس.
الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة أذعن للموقف الشّعبي الرّافض لزيارة المغني ماسياس
كما تكشفّت حقيقة الحادثة في اعترافات كثير من السياسيين الجزائريين أن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة أذعن للموقف الشّعبي الرّافض لزيارة المغني ماسياس، ونظّمت على خلفيتها حملة مناهضة للزيارة، وتكرّر طلب لمغني لدى زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للجزائر في 2012، إذ رفعت الأصوات الشعبية والسياسية الحرج أمام السلطة في عدم تلبية طلبه، خصوصًا وأن الجزائر ملتزمة بموقفها السيادي الدّائم الرافض للتّطبيع بمختلف أشكاله وألوانه وتحت أي مُسمّى وغرض.