20-ديسمبر-2019

نذير إسماعيل/سوريا

قدّمتُ استقالتي لمدير المكتبة الوطنيّة الجزائريّة الدّكتور أمين الزّاوي نهاية عام 2004، وتفرّغت للعمل في الإذاعة الجزائريّة التي التحقت بها متعاونًا في أيلول/سبتمبر من عام 2003. وُعِدْتُ بالتوظيف في التلفزيون، وتقديم برنامجٍ ثقافيٍّ كبيرٍ، شريطة أن أستقيلَ من الإذاعة، فاستقلتُ في الأيّام التّي كنتُ فيها على عتبات التّوظيف.

بعد ثلاثة أيّامٍ جائعةٍ بلياليها صحوتُ فوجدتُ أرنبًا صغيرًا نائمًا في دائرة الضّوء التّي أحدثها الثّقب الذّي أحدثتُه في الجدار

ثمّ اكتشفتُ أنَّ الأمرَ مجردُ مؤامرة علميّةٍ، لحرماني من التّوظيف في الإذاعة، فعدت إلى بدايات التحاقي بالعاصمة يوم 30 حزيران/جوان من عام 2002، حيث لم أكن أملك سقفًا أو لقمةً أو راتبًا.

اقرأ/ي أيضًا: التفلسف في عصر بلا حكمة

التقيتُ الفتى الأمازيغيّ غيلاس، الذّي كنت ساعدته في إعداد مذكّرة تخرّجه، حين كنتُ مستشارًا في المكتبة الوطنيّة، فعرض عليّ أن أقيمَ في بنايةٍ يُجهّزها أبوه العسكريُّ في حومة "الأقبية الثلاثة" بضاحية الحرّاش. ولم تكنْ البناية إلا هيكلًا بلا أبوابٍ ولا نوافذَ. وكانت تتحوّل، بعد المغرب، إلى محشاشةٍ لشباب الحومة.

أحدثتُ ثقبًا صغيرًا في الجدار، كانت تصلني منه حكاياتُ الشّباب، تمامًا كما كنت أمنح أذنيَّ لحكايات الشّباب من خلف باب اتحاد الكتّاب، فحصل لي تنوّع بحكم الفارق الاجتماعيِّ بين شارع ديدوش مراد وضاحية الحرّاش.

لقد كانت من العتبات التّي برمجتني على الكتابة السّرديّة، بطلبٍ من القصيدة نفسِها، إذ ثمّة فرق بين شاعرٍ جاء إلى الكتابة الرّوائيّة طلبًا لمزيد من الهواء وآخرَ اقتحمها طلبًا لمزيد من الأضواء.

بعد ثلاثة أيّامٍ جائعةٍ بلياليها، صحوتُ فوجدتُ أرنبًا صغيرًا نائمًا في دائرة الضّوء التّي أحدثها الثّقب الذّي أحدثتُه في الجدار، فاستأنستُ به وأعطيته الماءَ والعشبَ والأمان. لقد ارتفع بي الإحساسُ بالغربة والقرف من الكتّاب الذّين قطعوا رزقي، إلى مقامٍ بتُّ أملك فيه الاستعدادَ لأن أواخِيَ حيوانًا.

بعد ساعاتٍ، بدأ الأرنب يتحوّل في رأسي من صديقٍ إلى وجبة: طرقتُ البابَ المقابلَ للبناية/ خرج إليّ الفتى "ب"/ طلبتُ منه خنجرًا/ ادّعيت أنّني أحتاجه لتقشير البطاطا/ نسيتُ أن أطلبَ ملحًا أيضًا/ أمسكتُ الخنجرَ بقوّةٍ/ انطلقتُ إلى الأرنب بسرعةٍ، حتى لا أتراجعَ عن قرار ذبحه، فلستُ أنا من يذبح أخاه.. يا خّاه/ وجدته غارقًا في دائرة الضّوء/ خطفته خطفًا/ ذبحته ذبحًا/ بقي رأسه في يدي/ شرعتْ جثته تتخبّط في دائرة الدّم والضّوء/ انخرطتُ في نوبة بكاءٍ عميقة/ جمعتُ أكياسَ الإسمنت/ أشعلتُ نارًا/ سلختُ الأرنبَ، ورحتُ أشويه بدمعي.

أثارتْ عودتي إلى البناية جاريًا بالخنجر شكوكَ الفتى "ب"، فنادى على فتيان الحومة الذين اقتحموا عليّ البناية، معتقدين أنّني ذبحتُ أحدَهم. فوقفوا على مشهدٍ الأرنب المغدور، تمامًا في المكان الذّي تعوّدوا على أن يسهروا فيه، ويمدّوني بحكاياتٍ ضاقت عنها القصيدة.

بعد المغرب، وقد اجتمعت الشلّة في الأسفل، تذرّعتُ بإعادة الموس للفتى "ب"، وشرحت ما حصل في الصّبيحة، فقام من أحضر لي الطعامَ ومن أحضر لي التّبغَ ومن أحضر لي الفراشَ والغطاء. وبعد يومين، صارت لي غرفة مجهزة بسريرٍ ومواعينَ وتلفازٍ، بعد أن جلبوا لي خيطَ كهرباءٍ من البيت اللّصيق.

لقد تركوا شبه العراء في أسفل البنابة، وصاروا يسهرون عندي في الغرفة، فنتبادل الكلامَ والطّعامَ والأحلامَ والأوهامَ والأنغامَ والأفلامَ، مقابل مال كنّا نصرفه على جسور ليلنا إلى السّماء. ثمّ صرنا نتبادل الصّحو باكرًا لنحمّل في السّوق.

ذاتَ صبيحةٍ بلا مشاعرَ واضحةٍ، كلّمني صديقي أحمد بن صبّان، وقد عُيِّن مديرَ إنتاجٍ في قناة الجزائريّة الثّالثة:

ـ لم أعد أسمعك في الإذاعة. وينك؟

 ـ أنا حمّال في الحرّاش

ـ هز روحك وأرواح عندي للمكتب.

لم يُراعِ الرّجلُ كونَ زملاءَ له في التّلفزيون أعلى منه منصبًا وأكثرَ نفوذًا كانوا سببًا في إخراجي من الإذاعة، فاقترح عليّ الالتحاقَ بالشّاشة.

قاموا بإخراج ما في جيوبهم من مالٍ، ثمّ قاموا بي إلى محلٍّ، فاشتروا لي بذلةً وقميصًا وربطةَ عنقٍ وصبّاطًا

عدتُ إلى خلوتي وشلّتي في الحرّاش، فحدّتهم عن التحاقي بالتلفزيون. وقد كانوا يفهمونني (على الطاير)، فقاموا بإخراج ما في جيوبهم من مالٍ، ثمّ قاموا بي إلى محلٍّ، فاشتروا لي بذلةً وقميصًا وربطةَ عنقٍ وصبّاطًا، بما وضعني أمام هذا السّؤال: هل ترضيك ربطة العنق أيّتها الكتابة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن