11-مارس-2019

من حراك الشارع الجزائري (Getty)

رهان تجنّب الإجهاض

ثمّة أعمال فنّيّة في السّنوات الأخيرة، كأنّها جُسّدت بعد أو أثناء هذا الحراك لا قبله. منها "جرنال القوسطو" و"عاشور العاشر" نموذجًا. وهما عملان كوميديان أنتجتهما قناتان مستقلّتان خلال شهر رمضان لأكثر من موسم،، وأطّرتهما جرأة صارخة، في السّخريّة من الزّمرة الحاكمة الحاليّة، وتعرية طريقتها في التّفكير والتّسيير، فتبنّتهما الأسرة الجزائريّة وباتت وجوههما نجومًا لا يشقّ لها غبار في الحضور والتّأثير. كما أنّ هناك مظاهر سابقة للرّوح السّلميّة، التّي تميّز بها شباب الحراك، منها الإفطارات الجماعيّة في الشّوارع الرّئيسيّة.

إنّ رصيدنا نحن الجزائريين، من الفرص التّاريخيّة الشّبيهة بفرصة هذا الحراك الشّعبيّ كثيرة جدًّا عبر تاريخنا القديم والمعاصر

هذا الحراك ليس لقيطًا. فقط لم يجد من يستثمر في بوادره ومظاهره سابقًا، لا من طرف النّخبة السّياسيّة حاكمة ومعارضة،  ولا من طرف النّخبة الثّقافيّة نظاميّة ومستقلّة، بل إنّهما انخرطتا في تتفيهه وتسفيهه والقول عنه إنّه "غاشي" أي دهماء. وحان له الآن، بعد مرحلة الإعلان عن نفسه بنفسه، أن يمرّ إلى مرحلة هيكلة صفوفه، بإفراز نخبة من داخله، حتّى يتجنّب الانزلاقات العفويّة والمدروسة معًا، في مقدّمتها أن تتولّى الجهة التّي يرفضها إفراز وجوه لتمثيله، فتكون معارضة لها في الظّاهر، لكنّها موالية لها وعاملة على استمرارها في الخفاء.

اقرأ/ي أيضًا: مثقفو الجزائر والحراك الشعبي.. اعتراف ومراجعة

إنّ رصيدنا نحن الجزائريين، من الفرص التّاريخيّة الشّبيهة بفرصة هذا الحراك الشّعبيّ كثيرة جدًّا عبر تاريخنا القديم والمعاصر. استثمرنا بعضها وجنينا ثمارها، مثلما حدث في الفاتح من نوفمبر عام 1954، وأضعنا بعضها، مثلما حدث في مظاهرات 5 تشرين الأول/أكتوبر عام 1988. وعلينا الانتباه الجماعيّ إلى أنّ معظم الفرص ضاعت بسبب عدم تأطير الحراك من جهة، ومن جهة ثانية الثّقة الشّعبيّة في الوعود المتأخرة للسّلطة، التّي تحسن استغلال الضميرين الدّيني والوطني للإنسان الجزائريّ.

عبث الموالاة

كلّ مناصري العهدة الخامسة للرّئيس المترشّح عبد العزيز بوتفليقة (1937) في البلاتوهات التّلفزيونيّة غير مقنعين، ويُحاولون أن يُبيّضوا الأسود، لأنّهم يتوجّهون إلى من كلّفهم بالحديث ليقولوا له إنّهم حضروا وتكلّموا، فاشهد علينا واذكرنا عند توزيع الغنيمة، منطق العصابة كما سمّها الحراك في شعاراته، أو يتوجّهون إلى أنفسهم، التي لم تتقبّل المفاجأة، ولا يتوجّهون إلى عقول الجزائريين، الذين رفضوا خيار العهدة الخامسة احترامًا لعقولهم.

أحدهم سئل في فضائيّة أجنبيّة: لماذا لم يُنجز الرّئيس مستشفى يُعالج فيه داخل الجزائر، إذ كيف يصرف 1000 مليار دولار أمريكيّ، بعضها وُجّه لبناء المسجد الأعظم، في ظلّ وجود 25 ألف مسجد في الجزائر، بينما لا يوجد مستشفى بالمعايير العالميّة، فقال إنّ الغربيّين يحتكرون التّكنولوجيا.

هل يُقنع هذا الكلام شبابًا تدبّروا رقم المستشفى السويسري، الذّي عالج فيه الرئيس، وأغرقوه بمكالماتهم، التّي أطّرتها روح تجمع بين الدعابة والوعي؟ فليسألوا الخبراء عن القوّة، التي يتميّز بها شارع يجمع بين الدّعابة والوعي، فإن لم يجيبوهم، فليشاهدوا عشرة مشاهد لا غير، لأحدى المسيرات الثّلاث الماضية. في الحقيقة ما يحدث هذه الأيّام في الجزائر هو صراع بين العقل والعبث، الذي تفطّن له حتّى أطفال المدارس وفتيان الثّانويات، فخرجوا متظاهرين ضدّه.

احتكار الوطن

استجاب المتظاهرون لدعوة الاكتفاء بحمل الأعلام الوطنيّة في مسيراتهم، حتّى لا تتحوّل المسيرات الشّعبيّة إلى مسرح لاستعراض الرّموز الفئويّة والأيديولوجيّة والمناطقيّة، التّي طالما غذّتها الجماعة الحاكمة، حتّى تحول دون تحالف قوى المجتمع المدنيّ ضدّها، غير أنّهم لم يجدوا العدد الكافي من الأعلام الوطنيّة، ليصنعوا بها مشهدًا بديعًا يُكرّس البعد السّلميّ والوطنيّ للحراك، بسبب احتكار الأعلام، من طرف البلديّات والمؤسّسات الحكوميّة.

كلّ مناصري العهدة الخامسة للرّئيس المترشّح عبد العزيز بوتفليقة في البلاتوهات التّلفزيونيّة غير مقنعين

إنّ هذا السّلوك يدلّ على أنّ النّظام يختزل الوطن في الرّئيس، فهو يحجب العلم الوطنيّ، عن المسيرات المناهضة له. وقد كان يُخرجها من قبل في زياراته الرّسميّة أو في المناسبات الوطنيّة. وإنّ من بين أعظم ثمار الحراك الشّعبيّ تحرير رموز الوطن/الجمهوريّة من الاحتكار السّياسي والفئوي المقيت، ليعود العلم الوطنيّ إلى المواطن صاحبه الحقيقيّ.

اقرأ/ي أيضًا: مساءلة جزائرية تأخرت "قليلًا"

إنّ ربط الزّمرة الحاكمة للعلم الوطنيّ بها، جعل الجزائريين يحتفظون بتقديسه في أذهانهم، لكنّهم لا يحملونه كثيرًا في أيديهم ويُعلّقونه في بيوتهم، فالتّلاميذ يشمئزّون من الوقوف له يوميًّا في المدارس، والشّباب استعاضوا عنه برايات فرقهم لكرة القدم في الملاعب. لكنّ الحراك السّلميّ بما زرعه فيهم من أمل وتطلّع حقيقيّ إلى مستقبل حقيقيّ جعلهم يتبنّون العلم الوطنيّ من جديد، فهم يتلحّفون به، في رمزيّة رائعة لاستعدادهم أن يفدوه بالأرواح والأجساد. بالمناسبة: لماذا اختفى الحديث عن الهجرة غير النّظاميّة هذه الأيّام؟ 

 

اقرأ/ي أيضًا:

حراك الجزائر.. ثورة الشباب على بوتفليقة والأبوية

التفكير في حراك 22/2 الجزائري