31-أكتوبر-2021

(الصورة: الحرة)

ما يزال الجدل حول تعليمات تعميم اللغة العربية في شتى المجالات وعبر مختلف الإدارات والمصالح في الجزائر قائما كإشكاليةٍ لم تجد بعد طريقها الآمن، لتبقى مشاريع فَرْضِهَا كلغةٍ رسمية وحيدة للتعاملات والكتابة في كل القطاعات، من بين المشاريع القديمة الجديدة التي تظهر بين الفترة والأخرى في كل منعرج سياسي أو تربوي دونما  طرح دراسات أو مخططات جادة، ودونما تجسيد فعلي كامل في أرض الواقع.

أرزقي فراد: من الواجب أن تصنع سياسة التعريب في مخابر الجامعات، وألا تقع في مخابر الإيديولوجيات

 في ذات السياق، تستمر الاختلافات التي تصل أحيانا إلى حد المشادات الكلامية بين الأفراد بمختلف توجهاتهم وثقافاتهم، ليدخل في هذه الدوامة بعض المثقفين والسياسيين، كلٌّ حسب توجهه، ويستمر الجدل عقيما حول دعم هذا التعميم أو رفضه، بين مرحب أو متحفظ، أو رافض تماما لهذه الخطوة.

اقرأ/ي أيضًا: لا حذف للأمازيغية من مناهج التربية

ضرورة أو استقواء؟

 تبدو النقاشات والآراء المختلفة (على كثرتها) في كل مرة، حول تعميم استعمال اللغة العربية في مختلف المجالات والمعاملات الإدارية وتقوية وجودها في مناهج التعليم بغية القضاء شيئا فشيئا على أثر اللغة الفرنسية ذات الأثر الكولونيالي في الثقافة الشعبية الجزائرية، إشارةً واضحةً على صعوبة حصر خيارات شعبٍ واحد (متعدد الثقافات المكتسبة) في لغة واحدة، قد يستعملها في حياته اليومية على اختلافها.

ورغم جماليات هذه اللغة وكثرة داعميها في الجزائر، يجزم بعض المتابعين أن الاختلاف الذي يتمتع به المواطنون بتنوع لهجاتهم ولغاتهم المتداخلة عبر مختلف أنحاء الوطن، قد خلق لغة خاصة يصعب تحييدها، بين تلك الموجودة منذ القدم أو تلك المكتسبة مع مرور الزمن (ولو كانت "غنيمة حرب" أو من آثار الاستعمار)، فلم يعد من السهل بتاتا حصر هذا الاختلاف الذي يعتبره كثيرون مكسبا، في زاوية لغة واحدة موجودة عوض الأخرى، وقد أثرت الهوية المتداخلة والمتشابكة التي فرضها التاريخ بكل مراحله العصيبة والذهبية على حد سواء ( حسب مختلف من الآراء) على تكوين اللغات الرسمية واللهجات المتداولة في البلاد.

هل من الممكن التعامل مع الوضع الحالي أم وجب فرض العربية كخطوة تملّصٍ دون خضوعٍ للدراسات والمخططات، هل وجب الآن إضافة اللغة الانجليزية التي يفرضها التطور وتحسين التواصل مع العالم، أم أن الركب سيعود دوما نحو الوراء بغية الاستقواء بصراعات لا تجد حلا، حتى ينسى المواطن الجزائري العالق في هذا الصراع اللغوي، (الهوياتي غالبا)، والمحصور في دوامات من الصراعات المفتعلة التي لا تنضب مشاكلها، وضعَه الحياتي اليومي الذي وصل به إلى درجات مخيفة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا تحت إمرة سلطة شيزوفرينية؟

لغةٌ للضّبط الاجتماعي؟!

تعددت الآراء من الناحية التاريخية حول سياسات التعريب في الجزائر، فنجد في هذا السياق تحديدا، تصريحا مطولا للمؤرخ الجزائري محمد حربي  في مذكراته المصورة التي تكونت من 23 حلقة، قال فيها إن الرئيس الراحل بومدين كان متمسكًا جدًا باللغة العربية، لكن هذا التمسك كان بدافع استغلالها كلغة ضبط اجتماعي، وليس من أجل ماهيتها المقدسة كلغة لدى الجزائريين، أي أن الأمر حسب تفسيره، لم يتعلق بقُدُسية العربية بقدر ما كان لضرورة استغلالها.

ذكر محمد حربي خلال ذات اللقاء، أن الخبير الاقتصادي المصري محمد دويدار الذي كان آنذاك عضوا في لجنة التعريب، قد أخبره بأن أحمد طالب الإبراهيمي  كان قد دعا لعقد اجتماع للحديث حول مسألة التعريب، إلا أنه حضر أخيرًا ليعلن القرار النهائي لبومدين بانتهاج هذه السياسة دون عقد الاجتماع، وقد جاء هذا القرار حسب المتحدث، تزامنًا مع المظاهرات التي قادها طلبة الاتحاد العام للطلاب الجزائريين ضد النظام، وواجهتها في المقابل مظاهرة مضادة قام بها طلبة كلية الحقوق (المُعرّبة).

أكد حربي أن هذه الأحداث هي ما دفعت بومدين إلى الاعتماد على الناطقين باسم اللغة العربية، حسب ما قاله له محمد دويدار، وذكر المتحدث أن المفرنسين قد وقعوا تاريخيًا في خلط كبير في شرحهم لحركة الإصلاح التي قام بها الإسلاميون البعثيون، إذ لم تكن لهؤلاء حسبه، علاقة مباشرة بذلك القرار في الحقيقة، لأن هاجس البعثيين في الجزائر كان يكمن في نشر اللغة العربية، إضافة إلى أن رؤاهم  كانت مطابقَةً لرؤى القوميين العرب فيما تعلّق بتحديد ما هو عربي، ومن بين هؤلاء القوميين كان هنالك الكثير من المسيحيين العرب، الذين  تبنوا العربية وساهموا في نشر ما يسمى بـ "إرادة أن تكون عربيًا"، وقد جاءت مسألة الإرادة هذه بالتزامن مع رفض المالطيين القاطع  للانتماء إلى العالم العربي رغم لغتهم وحديثهم باللغة العربية، كما أن عبارة "من يريد أن يكون عربيَا" حسب حربي، قد وُضعت تحت تصرف المالطيين مثلما أمكنها أن تكون لمن أرادها من الشعوب. (في إشارة إلى الجزائر).

أضاف حربي أن هنالك اعتقادًا ساد طويلًا بأن التعريب بنوعيته تلك كان صنيعة بلدان الشرق الأوسط، لكنه حسب التحقيقات التي أجراها بنفسه، وجد بأن اختيار الأساتذة العرب الذين جاؤوا للتدريس في الجزائر قد تم من طرف السلطة الجزائرية التي اتجهت في خياراتها تلك نحو الأشخاص من ذوي التكوين الإسلامي، في حين تم رفض قدوم الكثير من الأساتذة ذوي التوجه اليساري.

قال المؤرّخ أيضًا أن مسؤولية اختيار الأساتذة الذين ذهبوا إلى الجزائر بنزعاتهم الدينية والسياسية التي أثرت في التعليم، تقع على عاتق السلطة الجزائرية، وهذا ما لا يريد الناس أن يقروا به، أما الفكرة التي رددها المفرنسون بأن الدول الشرق أوسطية هي من أرادت تعريب الجزائر فكانت غير صحيحة حسبه.

من أنقذ العربية في الجزائر؟

اليوم، ومع استمرار التجاذبات وردود الأفعال حول فرض اللغة العربية الذي لا يرى وضعه استقرارا، تساءل الكاتب سعيد خطيبي في مقال  حمل عنوان من أنقذ اللغة العربيّة في الجزائر؟:

  "متى نقرّ بأن اللسان الجزائري إنّما لسان هجين؟ لا هو عربي فصيح ولا هو أعجمي؟".

وأضاف سعيد خطيبي أن هذه "الهجنة" مكسب، تستحق أن نستثمرها، فمن حقّ الشعب تنويع لسانه، لا أن نفرض عليه لغة واحدة.

قال الكاتب أيضًا في ذات المنشور، أننا منذ 30 سنة نسمع عن قرارات وقوانين فرض العربية لغة وحيدة، في الشّارع وفي الإدارة، لكن لا شيء تحقّق، والعربية لم تفقد مكانتها، بينما الفرنسية ما تزال – أيضاً – جزءاً من المكوّن اللساني.

يؤكد خطيبي هنا من خلال نظرة تاريخيّة، أن اللغة العربية عاشت حالًا أفضل قبل الاستقلال مما تعرفه اليوم، بل إن الكثير من الوثائق تنبّهنا إلى أن "مدارس الأهالي" (على خلاف المدارس الكولونيالية) كانت تدرّس العربية، إضافة إلى فضل الزّوايا الصّوفية، التي وفّرت تعليمًا مجانيًا للغة العربية، وأشاعت إسلامًا متسامحًا عكس مدارس "جمعيّة العلماء"، التي كانت تفرض تسعيرات عالية على من يودّ تعلّمها (وصلت أحيانا 100 فرنك عن كلّ تلميذ، مع إلزام الأولياء دفع تكلفة الأكل والمبيت إذا كان تلميذًا في النّظام الدّاخلي).

أضاف خطيبي أن قادة ثورة 1954 كانوا يتقنون العربية، مع أنّهم من جيل سادت فيه المدارس الفرنسية، رغم ذلك لم يضايقهم أن يستخدموا أو يستخدم النّاس لغة أخرى. فما هو الخلل إذن اليوم؟

 في الأخير، أشار الكاتب إلى أن حماية اللغة العربية، في الجزائر، يتأتى من تحسين مناهج تعلّمها في المدارس الابتدائيّة، ثم إتاحة الحقّ في تعلّم لغات أجنبية أخرى، بدءًا من المرحلة المتوسطة، إتاحة عدالة لغويّة، لا حمايتها بمجرد قرارات أو أوامر إداريّة.

مخابر الأيديولوجيات

في سياق آخر، صرح الأستاذ محمد أرزقي فراد في حديث لـ "الترا جزائر"، أن اللغة العربية مظلومة في عقر دارها مرتين، فالمرّة الأولى حسبه تأتي عن طريق تطبيق التعريب بشكلٍ انفعالي دونما رؤية ودراسة، أي عن طريق "الطفرة"، وهو الأمر الذي نجم عنه فشل تعريب الإدارة والمحيط في الجزائر.

ومن ناحية أخرى، يشير المتحدث إلى وجود أشخاص يبطنون الفكر الفرانكوفيلي في مفاصل الدولة، وهم من عملوا كل ما في وسعهم من أجل إفشال التعريب في البلاد، مردفًأ:"أنه من الواجب أن تصنع سياسة التعريب في مخابر الجامعات، وألا تقع في مخابر الإيديولوجيات".

وتأسف المتحدث في حديثه  لكون العرب برمتهم قد أحلوا لغة المستعمر في حياتهم العامة وفي إدارة الدولة، محل اللغة العربية المتهمة بالتخلف. والحق ان التخلف ليس في اللغة بل إنه يكمن في عقول مستعمليها، كما قال الأديب ابراهيم اليازجي في هذا السياق: "اللغة بأهلها ، تشب بشبابهم وتهرم بهرمهم".

لغتان رسميتان وتعميم لواحدة!

في ذات السياق، قال الباحث الجامعي عقيل عبد الله أكير في حديث لـ "الترا جزائر" أن الحديث عن تعريب الإدارة حاليا أمرٌ تجاوزه الزمن، لأن الإدارة بالأصل معربة بالكامل (تقريبًا) منذ عقود ولم يبق الشيء الكثير لتعريبه، فوثائق الحالة المدنية والشهادات والعقود والأحكام القضائية وما يرتبط بها من مستندات ومختلف الوثائق التي تتعامل بها المرافق العمومية والإدارات مع المواطنين تحرر بالعربية وليس بلغة أخرى، كما أضاف أن المراسلات بين مختلف الإدارات أيضًا يحرّر أغلبها بالعربية.

  أكد الباحث أن قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وإن تم تطبيقه بالكامل تقريبا، فيتعين تجاوزه إلى اعتماد نص قانوني يتوافق مع أحكام الدستور الحالي الذي ينص على كون العربية والأمازيغية لغتان وطنيتان ورسميتان، كما أن تنزيل أحكام الدستور في هذا الشأن حسبه، يقتضي كذلك اعتماد نصوص جديدة لتعميم استعمال اللغتين الوطنيتين والرسميتين، ولو تدريجيًا بالنسبة للأمازيغية، كالبدء بتضمينها في بطاقات الهوية الوطنية وجوازات السفر والأوراق والقطع النقدية والعناوين والتسميات الرسمية لمؤسسات الدولة والمرافق العمومية ولوحات الإشارة وغيرها، مثلما تم بالنسبة للغة العربية منذ عقود، وذلك قبل الوصول إلى تحرير الوثائق الإدارية باللغتين جنبًا إلى جنب كما هو معمول به في الدول التي تعرف إزدواجية أو تعددية لغوية رسمية مثل سويسرا وكندا وبلجيكا وغيرها.

عقيل عبد الله أكير: مشكلة الإدارة تكمن في تخلفها وليس في اللغة التي تعمل بها،

من جهة أخرى، أشار عقيل عبد الله أكير إلى أن مشكلة الإدارة تكمن في تخلفها وليس في اللغة التي تعمل بها، أي في كون طريقة تنظيمها وسيرها وعملها ما تزال متخلفة بالمقارنة مع الإدارة العصرية المعمول بها في الدول المتقدمة كالتي سبق ذكرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر تقر رأس السنة الأمازيغية عيدًا وطنيًا.. نهاية الجدل؟

تدريس الأمازيغية في الجزائر..الواقع والمأمول