07-أبريل-2024
البقلاوة القسنطينية (فيسبوك/الترا جزائر)

البقلاوة القسنطينية (فيسبوك/الترا جزائر)

تعتبر البقلاوة القسنطينية سلطانة الصينية القسنطينية خلال أيام عيد الفطر المبارك، ومثلما تتزّين المرأة القسنطينية بأبهى حلة لاستقبال العيد كزهرة متفتحة بعد تعب الصيام وشحوبه، تتزين هذه الحلوى وتتوسط جلسة العائلة بكل جمالها وقداستها وحلاوتها المضبوطة، حيث تُعد من بين أجود وأشهى وأفضل أنواع البقلاوة الموجودة في الجزائر بشهادة كل من تذوقها من مختلف أنحاء الوطن.

الشاف عبد الحميد قرايري لـ "الترا جزائر": من الواجب الأخذ بالاعتبار نوعية الصينية التي ستطهى فيها البقلاوة وحجمها، لتحديد كمية العجين وكمية الحشو

يقال إنها الأفضل في كلّ بلدان المغرب الكبير والعالم العربي، إذ تتميّز بشكلها الهندسي المتقن المتكون من أشكال معينة متراصّة بحسابات دقيقة لدى التقطيع، وبارتفاع متساوٍ بين كل زواياها، وتزين وسط كل حبة منها بحبات اللوز، كما تتوسّط سينيتها النحاسية حبة جوز كاملة تضفي على شكلها فرادة لا تجدها في أي نوع آخر من البقلاوة في مختلف البلدان العربية التي تمتلك كل منها نسخة معينة.

فرادة بقلاوة قسنطينة

 تتفنّن نساء قسنطينة إذن في تحضير البقلاوة، وتمنحنها الوقت الكافي كضيف عزيز ذو قدر عالٍ في الأعياد والمناسبات، كما يتقنّ منذ الصغر في عادة متوارثة عن الأمهات والجدات، تقطيع وتزيين البقلاوة منذ عشرات العقود، حيث لا تخلو من حضورها الأعياد والأفراح وحفلات الطهور، ومختلف أنواع المناسبات الاجتماعية السعيدة، كما أنها تتربع على عرش صينية العيد في قسنطينة، ولا تخلو أي قعدة منه.

البقلاوة

وبما أن القسنطينيات يولين اهتمامًا كبيرًا بتفاصيل هذا اليوم حتى قبل بداية شهر رمضان، فهن يوفرن أجود أنواع المكسرات من جوز ولوز، إضافة إلى العسل الحر وماء الورد المقطر في البيوت التي ما تزال تحافظ على أشجار الورد والليمون والبرتقال في حدائقها الصغيرة المحيطة بالبيوت العتيقة ليتمكنّ من تحضيرها في الأسبوع الأخير من رمضان، بضعة أيام قبل العيد حتى يتسنى لها امتصاص العسل الذي تُسقى به وتكتسب تلك الحلاوة الممزوجة بنكهة الجوز أو اللوز أو كليهما مع مزيج ساحر مع عبق ماء الورد.

جدل حشو البقلاوة في قسنطينة

كثيرًا ما يُثار في الجلسات والقعدات، أو في مواقع التواصل الإجتماعي محليًا، موضوع الحلويات القسنطينية التي تستهلك كمية كبيرة من المكسرات، إذ يعتبر الأشخاص المنتمون إلى مدن أخرى أن القسنطينيات يبالغن جدًا في شراء أغلى المكسرات لتحضير البقلاوة، في حين يتم تحضيرها فقط بالفول السوداني في الكثير من المناطق، وكثيرًا ما يصل هذا الانتقاد إلى غاية السخرية، لكن  القسنطينيات بدورهن يبررن ذلك باعتيادهم على هذه العادة المتوارثة جيلًا بعد جيل، حيث تقول السيدة فوزية بن جلول وهي صانعة حلويات تقليدية، في حديث إلى "الترا جزائر" إن أي تغيير للوصفات الأصلية المتناقلة بين الأجيال خيانة لها وللأشخاص الذين أورثوها، فكثيرًا ما يحاول السكان المحليون لهذه المدينة عدم المساس بالوصفات الأصلية  للحلويات التقليدية  مثل المقروض والبقلاوة وطمينة اللوز وغيرها.

وتضيف المتحدثة هنا، أنه لا يصح تغيير مكون هو بالأصل سرٌ من أسرار لذة أي نوع من الحلويات، فما بالك بالبقلاوة، إذ لا يمانع الكثيرون تجربة وصفات جديدة لحلويات مشابهة، اقتصادية ومراعية لظروف كل شخص ولحالته المادية، ولا تعتمد على كميات كبيرة من المكسرات، لكنهم لا يعتبرونها  في الواقع تعديلا للوصفة الأصلية، ولا تعديلًا للطرق التقليدية، إنما يعتبرونها وصفات جديدة يمكن تجربتها وإضافتها كتجارب أخرى مرافقة للوصفات المقدسة التي لا يمكن المساس بحرمتها لدى العائلة القسنطينية.

البقلاوة

أصول البقلاوة واختلافها في قسنطينة

تاريخيًا، يختلف المؤرّخون كثيرًا حول أصول حلوى البقلاوة، حيث ينسبها كثيرون إلى الدولة العثمانية، في حين أن هنالك خلاف تاريخي كبير بين اليونانيين والأتراك والأرمن حول هذه الأصول، كما أن البعض يرجعون أول ظهور لها إلى الحضارة الأشورية في بلاد الرافدين، حيث ثبت وجود شكل أوّلي لها بعجينة هشة محشوة بمختلف أنواع المكسرات.

ومع كل هذه الاختلافات والخلافات التي ترجع وصول حلوى البقلاوة إلى الجزائر إلى العثمانيين، في حين يرجعها آخرون إلى حضارة الأندلس، تبقى البقلاوة القسنطينية بشكلها المتعارف عليه وطريقة تحضيرها فريدة من نوعها، حيث تحتفظ بشكلٍ فريد وتقطيع متقنٍ، إضافة إلى حشوها الذي كان منذ القديم  عبارة عن جوز مطحون مسقي بماء الزهر والعسل، فلم يُرَ لها مثيل في مكان آخر إلا بعد قرون، حينما بدأت الوصفة في الانتقال من منطقة إلى أخرى، وباتت الآن تعبر الحدود بفضل التكنولوجيا والقنوات ومواقع التواصل التي تنقل وصفاتها من عائلة إلى أخرى.

لا يخلو هذا الانتقال من بعض التعديلات والتغييرات، كجعل الحشوة خليطًا من عدة مكسرات، وتقطيعها بشكلٍ مختلف أو عشوائي، إضافة إلى تعويض العجين المحضر سلفًا في البيت بطريقة دقيقة، بعجينة "الجلاش" الجاهزة التي تفتقر إلى جودة العجينة المنزلية، خلفتها وقرمشتها وتوريدها الفريد من نوعه بطبقات الزبدة.

البقلاوة

تحضير البقلاوة القسنطينية

يشدّد صناع البقلاوة في قسنطينة على دقة المقادير التي وجب ألا يتم تغييرها حتى تحافظ على شكلها ومذاقها الأصلي، وفي هذا السياق، يقول الشاف عبد الحميد قرايري المختص في الطبخ والتراث الشعبي القسنطيني أنه من الواجب الأخذ بالاعتبار نوعية الصينية التي ستطهى فيها البقلاوة وحجمها، لتحديد كمية العجين وكمية الحشوة، ويفضل دائمًا هنا أن تكون الصينية قديمة ومصنوعة من النحاس، إضافة إلى تفضيل العائلات قديمًا وحتى الآن لحجم الصينية ذات القطر الذي يساوي مترًا، أو “سينية موميطرا” كما تسمى في اللهجة المحلية.

البقلاوة

أما بخصوص العجين، فهو يحضر دائمًا باستعمال مقادير مضبوطة تقاس بالكَيلة، أي مكيال واحد نقيس به كل المكونات، فعجينة البقلاوة تتكون من أربع كَيلات من الطحين، وكيلة واحدة فائضة "أي زائدة عن حدها حتى تسيح" من الزبدة الذائبة أو السمن والتي تسمى محليًا "البسوس"، وتخلط هذه المكونات جيدًا وتُجمع بكَيلة مخلوطة من ماء الورد والماء العادي، ثم يجمع العجين ويعجن جيدًا، وتقسم إلى عدة قطع (غالبًا ثماني أو سبع قطع لتشكيل طبقات البقلاوة المورقة)، وتترك لترتاح، كما يفضل تركها لليلة كاملة لتسهيل تشكيلها.

هنا، يضيف قرايري أن حشوة البقلاوة تتكون من ثلاث كَيلات من الجوز واللوز، ويفضل أن تكون كمية الجوز أكبر، مع كيلة من السكر، وتخلط جيدًا ثم تجمع شيئًا فشيئًا بأطراف الأصابع بماء الورد حتى تتشبع حبات الجوز واللوز وتصبح شبه عجينة.

البقلاوة

بعد ذلك، نأتي بصينية نحاسية دائرية قديمة، تدهن بالزبدة، ثم يتم فتح العجينة بواسطة النشاء على مقاس الصينية، وتوضع العجينة كطبقة أولى، وتدهن بدورها بالزبدة، وهنا، يؤكد الشاف عبد الحميد على إضافة طبقة ثانية مثل الأولى وتدهن، وهكذا حتى تكمل أربع طبقات من العجينة التي تفرد بشكلٍ رقيق وشفاف جدًا، كما يتم ثقب العجين بشوكة، ثم نأتي بالحشو ويوزع بالأصابع وسط الصينية، ويتم إعادة نفس الطبقات التحتية فوق الحشو مع الحرص على إخراج الهواء من الطبقات، وهكذا نحصل على أربع طبقات من فوق ومن تحت، من ثم يتم تقطيعها بحسابات متساوية على شكل الساعة أولا، ثم كل ربع  إلى ثمانية أقسام وهكذا إلى غاية نهاية التقطيع، حتى تكون الحبات متساوية، وتغرس في كل حبة بقلاوة حبة لوز، وفي المنتصف حبة جوز، وتدهن جيدًا بالزبدة.

يختلف مؤرّخون حول حلوى البقلاوة، حيث ينسبها كثيرون إلى الدولة العثمانية، في حين أن هنالك خلاف تاريخي كبير بين اليونانيين والأتراك والأرمن حول هذه الأصول

أما عن مرحلة الطهي فيصرح عبد الحميد أن الصينية ترسل إلى الخباز لتطهى في الفرن الحجري حتى تنضج هناك بشكلٍ متساوٍ، وترفق بالعسل البارد الذي يسقيها به الخباز فور إخراجها ساخنة، وحين تؤخّذ إلى البيت، يتم سقيها مرة أخرى بالعسل الساخن، وتترك لليلة أو ليلتين لتمتص كل العسل ويتسنى لصاحبتها في الأخير تقطيعها، وتوزيع أطرافها المقرمشة أو ما يسمى محليًا “الحواشي” التي تتبقى بعد التقطيع، حيث يتناولها أطفال وأفراد العائلة الذين يحبونها كثيرًا ويفضلونها دائمًا وهم يشاهدون بحب كبير مراحل تقطيع البقلاوة ليلة العيد.