25-أبريل-2019

أستاذ الفلسفة الغربية والمعاصرة بشير ربوح (العربي الجديد)

انقسمت النخبة المثقفة في الجزائر بعد انطلاق الحراك الشعبي قبل 10 جمعات، بين متأمل عن بعد ينتظر النتائج ليبني عليها أحكامه، ومنخرط في الفعل ممارسة وقراءة ومواكبة وتأملًا وطرحًا للأفكار.

بشير ربوح: تبنت دولة ما بعد الاستعمار في الجزائر رؤية تصحيرية لكل المجالات، وخاصة المجال الثقافي

يأتي أستاذ الفلسفة الغربية والمعاصرة في جامعة باتنة، البشير ربوح، الذي حصل قبل شهور قليلة على شهادة الدكتوراه بأطروحة بعنوان "المساءلة النقدية لمفهوم الميتافيزيقا في فضاء اللغة عند الفيلسوف هيدغر"، في طليعة المشتغلين بالسؤال الفلسفي في الجزائر، الذين أنعشهم فعل الحراك الشعبي، فرافقوا تفاصيله الاجتماعية والثقافية والحضارية، ومنحوها من التأمل والتفكيك، ما أخرجها من مقامها الشعبي العفوي والبسيط، إلى مقام الفعل المؤسس لمجتمع مدني جديد ومتجاوز.

اقرأ/ي أيضًا: إسماعيل مهنانة.. فيلسوف في الجامعة الجزائرية

ولأن اللغة هي "بيت الكينونة" عند الألماني مارتن هيدغر، فإن بشير ربوح ركز في منشوراته، التي قرأت الحراك، على استكناه اللغة، من خلال مقولات الحراك وشعاراته ومفرداته وصوره وفيديوهاته، لرصد القطائع المختلفة، التي باشرها الجيل الجديد مع الماضي، بكل وجوهه واتجاهاته.

في هذا الحوار مع "الترا جزائر"، نحاول الاقتراب من بعض رؤاه، بخصوص الحراك الشعبي، الذي يعتبره "منعطفًا تاريخيًا".


  • هل ترى أن السياقات التاريخية، التي تشكَّل داخلها مفهوم النخبة في الجزائر، هي التي جعلتها أقرب إلى فهم بنية السلطة السياسية أكثر من فهمها للبنية الاجتماعية؟

يمكن القول أولًا إن النخبة باعتبارها مفهومًا يشكل في أُفقه العام، كتلة تحوز على مشروع كبير يجمع أشتاتها ويدفعها للاتقاء حول قضايا كبرى، تكون كفيلة بأن تتصير إلى محرك اجتماعي قادر على تفعيل مجتمع بأكمله، وتكون قد تحققت في المرحلة الاستعمارية، بالرغم من انتفاء الشرط السياسي وهو الحرية.

غير أن المسألة تغيرت بشكل دراماتيكي في مرحلة الدولة الوطنية، أي ما بعد الاستعمار، لأنها تبنت رؤية تصحيرية لكل المجالات، وبخاصة المجال الثقافي، إذ تأسست على أيديولوجيا شبيهة بالبرقع، تحتوي على بقايا من المنظور الريفي، وأخرى مأخوذة من النظام الاشتراكي، وبمنحى غارق في السطحية والابتذال. 

بشير ربوح
بشير ربوح من إحدى مسيرات الحراك

ودشنت هذه الدولة مسلكًا يعتمد على إبعاد الشخصيات النخبوية، التي تمردت على خطابها، أو العمل على طردها من الفضاء العام وتهميشها، أو دفعها للانزواء والانسحاب من المجال السياسي، مثل: كاتب ياسين ومحمد البشير الإبراهيمي ومفدي زكريا ومحمد حربي، وغيرهم كثير. 

في المقابل هناك شخصيات نخبوية انخرطت وتورطت في خطاب النظام القائم، بحسب قناعات هشة، مما جعلها أقرب إلى فهم السلطة، وابتعدت بالتالي عن فهم المجتمع في قضاياه الكبرى.   

  • من هنا، أي دور تراه للمثقف في هذا المفصل التاريخي؟

استنادًا إلى ما سبق، يمكن أن تكون، أو ينبغي أن يُستغل هذا المنعطف التاريخي في تفعيل هذه الشخصيات النخبوية، والتي تنتمي لمختلف التوجهات الفكرية، ونقل فاعليتها إلى مستوى أعلى من الحركة، بحيث تتحول إلى كتلة تاريخية، تتبنى رؤية ثورية تعيد فيها تشكيل الماضي، وتعمل على غرس قيم حداثية بامتياز، مثل: النقد، الحوار، التجاوز، التفكيك، المسؤولية، الفردية الفاعلة، الإيمان بالاختلاف، الاعتقاد في الغيرية، الانفتاح على منجزات العصر المختلفة والمتجددة. 

وكذلك أن ينتقل المثقف التنويري المناضل من حالة الابتعاد عن الناس، إلى أفق جديد يتمثل في النزول إلى الشوارع الأنطولوجية، إذ يمكن أن يتحول الشارع إلى مفهوم مكاني ذي طابع وجودي نجسد فيه الكينونة الحقيقية والقادمة. فللمثقف دور تنويري، نضالي، يسعى إلى إنجاز حالة الحضور الدائم في الفضاء العام.  

  • حرر فعل الحراك كثيرًا من الحقول والمفاهيم. كيف يمكن لحقل الفلسفة أن يستغل الوضع للتحرر؟

الفلسفة هي جوهر الحراك، لأن الحراك بعفويته الرائعة وبتدفقه القوي على مستوى الفعل واللغة والرمزية القوية التي أفرزها والشخصيات الثقافية التي يؤمن بها؛ طرح أسئلة حارقة كانت مغيبة عن الساحة، مثل: المواطن، الدولة، الفرد، المثقف، المستقبل، السياسة، الحرية، الشباب، التاريخ، السيادة، وغيرها.

وهي في صميمها ذات طابع فلسفي، من هنا وجب على الفلسفة أن تنخرط في هذه المعمعة التاريخية، وأن تبني رؤية فلسفية بملمح جزائري، فالحراك حقل كريم للتفلسف الحق.

  • كيف تفسر عودة الفضاء الجامعي إلى تبني الهاجس السياسي؟

الفترة العبثية من الحكم البائد هي التي تسببت في إبعاد الفضاء الجامعي عن المجال السياسي، فالغاية الكبرى للنظام كانت لجم المؤسسة الجامعية ونخبتها عن التواجد والحضور والمشاركة في الفضاء العام، ومقاسمة الهموم الوطنية، وتقديم رؤى جديدة تكون بالضرورة مغايرة. وعمل النظام على محاربة كل الشخصيات المنخرطة في الشأن العام.

بشير ربوح
بشير ربوح: أعاد الحراك الحياة لأسئلة فلسفية غيبتها الفترة العبثية

 غير أن الحراك أظهر حالة العجز البنيوي الكامن في مفاصل الجامعة، وأن هذه السنوات العجاف أسهمت في الرفع من منسوب غياب الكفاءة في الجامعة الجزائرية، ويمكن أن يكون هذا المنعطف التاريخي، فرصة للجامعة الجزائرية لأن تعيد النظر في ذاتها وفق مقتضيات العصر، وأن تعود إلى حقيقيتها باعتبارها عقل الدولة كما وصفها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر.

  • من منظور فلسفي، ما هي الثمار الإيجابية لتجربة الحراك، بغض النظر عن المآلات السياسية؟

القراءة الفلسفية للحراك تقتضي التوجه مباشرة جهة هذه المفاصل:

  • الحراك أعاد الحياة إلى أسئلة غيبتها الفترة العبثية السابقة من الحكم، مثل أسئلة الدولة، الديمقراطية، المشاركة، الصدق السياسي، الخطابات المنفوخة، الواقع المزيف، الكذب النسقي... إلخ. ودفع بالعقول الحرة والصادقة مع ذاتها إلى فضح وتعرية ورفع الأغطية عن هذه المرحلة، ويكون ذلك بالاعتماد على الأسئلة الجديدة.
  • الفلسفة في عمقها تستمد موادها التفكيرية من الشارع، العامر بالذوات الجديدة والحرة، فنحن الآن نعيش حلمًا تاريخيًا، نريد أن ندفع به إلى  أقصى ممكناته المختزنة في داخله، ومن بينها: الفضاء العمومي، المثقف التنويري، الإعلام الصادق، الدولة المدنية، الدين والفضاء السياسي، التاريخ والهويات المتعددة.

بشير ربوح: أظهر الحراك العجز البنيوي في مفاصل الجامعة، وكيف أسهمت السنوات العجاف في غياب الكفاءة عن الجامعة الجزائرية

  • تبين لنا أن الفلسفة هي المرافق النقدي لهذا الحراك، عن طريق النقد، طرح الأسئلة، استثمار المفاهيم الفلسفية في تفعيل الحراك، مثل مفهوم الفعل، الاعتراف، الغيرية، الهجنة على مستوى الهوية، الحرية كسقف يحمينا من الديكتاتوريات، العدالة الاجتماعية كمطلب مشترك، الانفتاح على الآخر، فهم المتغيرات الكبرى.         

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة

"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها