26-سبتمبر-2019

الكاتب حميد عبد القادر(فيسبوك/ الترا جزائ)

وُلدَ حميد عبد القادر، في الجزائر العاصمة، سنة 1967. درس العلوم السّياسيّة والعلاقات الدّوليّة بجامعة الجزائر، والتحق بممارسة الصّحافة سنة 1990.

تندرج أعماله السّرديّة ضمن تيّار الواقعيّة الرّمزيّة، برصدها أهمَّ التّحوّلات، التّي عرفها المجتمع الجزائريّ خلال العقود الأخيرة

يرأس حاليًا القسم الثقافيّ ليومية "الخبر". وقد نشر عددًا من الكتب باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، منها أربع روايات هي: "الانزلاق" (1999). "مرايا الخوف" (2007). "توابل المدينة" (2013). "رجل في الخمسين" (2019). ومجموعة قصصيّة بعنوان "حكايات مقهى ملاكوف الحزينة".

اقرأ/ي أيضًا: حوار| سمير قسيمي: زاد الحراك أسئلتي وأوقفني على عبثية الوجود

تندرج أعماله السّرديّة ضمن تيّار الواقعيّة الرّمزيّة، برصدها أهمَّ التّحوّلات، التّي عرفها المجتمع الجزائريّ خلال العقود الأخيرة، وهو لا يكتفي بكتابة الرّواية فقط، بل يكتب عنها أيضًا، ويحاور كتّابها. وقد أصدر في هذا الباب "أسفار الزّمن البهيّ"، عن منشورات "أناب" 2013، و"الرّواية مملكة هذا العصر"، عن منشورات "دار ميم" 2019.

في هذا الحوار، الذّي أجراه "الترا جزائر" مع الكاتب، يفكّك حميد عبد القادر السّياقات، التّي أحاطت بنشوء الفنّ الرّوائي، وبهيمنته على بقيّة الأجناس الأدبيّة، والتحوّلات التّي عرفها. ويقدّم رؤيته الخاصّة له بصفته كاتبًا وقارئًا.

  • بشكل ما كانت الرّواية في السّابق فنًّا برجوازيًّا، ثمّ صارت اليوم فنّ الشعب (مملكة العصر كما عنونت كتابك الجديد). كيف تقرأ هذا التحوّل؟

بدأت الرّواية بالتّعبير عن هموم البرجوازيّة في الغرب،  حينما رافقت الثورة الصّناعيّة ،التي مكّنت هذه الفئة الاجتماعيّة، من الحلول محلّ فئة النّبلاء. لقد حدث تحوّل كبير في الغرب مع منتصف القرن السّابع عشر، حيث وجد الفرد نفسه في وضعية الوسيط. وأخذ يعتمد بدرجة أقلّ على الهيئات الخارجيةّ، مثل الكنيسة أو الحالة الاجتماعيّة أو القيم الأخلاقيّة، مثل الخير والفضيلة والشّرف أو الواجب.

من ناحية أخرى، فقد أضحى يفتقر إلى المرسى أو المتكئ، الذّي يستند إليه، كما كان يجد ذلك في الهيئات التقليدية. وهذا ما جعله بحاجة إلى ما يضمن له الخلاص.

حميد عبدالقادر
  • تقصد أنّ الرّواية (والثقافة بصفة عامّة) شكّلت إحدى مظاهر هذا الخلاص؟

 تطورت الرّواية مع تطوّر البرجوازيّة، التّي اعتمدت أساسًا على هذا الفرد وهو يعيش في المدينة، ويخضع لتطوّر اجتماعيّ رهيب شرحه الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (1820 ـ 1903) بشكل مستفيض.

  • هل ثمّة رواية تشكّل نموذجًا حيًّا لما ذهبتَ إليه؟

رواية "مارتن ايدن" التّي نشرها الرّوائي الأمريكي جاك لندن عام 1909، حيث تفاصيل محاولة شابٍّ بلوريتاري لأن يصبح كاتبًا كبيرًا. كما حدث هذا التحوّل أيضًا على المستوى الفكريّ، فنجد انتشار محاولات إعادة اكتشاف نصوص أرسطو. وكان ذلك بمثابة تعزيز للعقلانيّة على حساب جزء من الرّوحانية، التي كانت منتشرة في السّابق.

لقد أصبحت جغرافيّة الأماكن مألوفة أكثر للقرّاء. وتلتقي الشّخصيّات الخياليّة بشخصيات تاريخيّة (حقيقية) والأبطال المختارون على نحو متزايد من خلفيات متواضعة وأقلّ أسطورية.

صحيح أن محاولات ربط الرواية بالفئات الشعبية بدأت قبل هذا التاريخ، مع "ايميل زولا" بالخصوص، إلا أنّ بروز إخفاقات الثورة الصّناعيّة على مستوى ما لحق بالفئات العمّاليّة مع منتصف القرن الـ19، وظهور التّفاوت الاجتماعيّ، هو الذّي أعطى الرّواية هذه  القدرة على التوغّل بين الفئات الشّعبيّة، مع ظهور ما يّسمّى بالرّواية الاجتماعيّة.

وهي عمل أدبي يستنكر، عادةً من خلال الخيال الواقعيّ، المشاكل الاجتماعيّة وتأثيراتها على الأشخاص أو الجماعات الذّين هم ضحايا، من الطّبقات العاملة في معظم الأحيان. وأيضًا من الفلّاحين.

  • وكيف أصبحت الرواية "مملكة هذا العصر"، مثلما تشير إليه في كتابك؟

لا يمكن تفسير اعتبار الرّواية اليوم بمثابة مملكة هذا العصر، وسيدة هذا العالم، إلا من منطلق امتلاكها لسمة إمبراطورية، و حيازتها على ميل لا ينضب نحو الانفتاح والتوسع، مثل البيئة الغربية التي ولدت وانتشرت بها. فهي تعبر عن روح العصر الغربي الرأسمالي، وهو يكتسي روحًا توسعيّة. ألم يكن "رويارد كيبلينغ" روائيًا ناطقًا باسم الإمبراطورية البريطانيّة، ومُعبِّرًا عن توجّهاتها؟

تملك الرواية نزعة نحو بسط نفوذها لكي تحمل إليها وتجمع الفلسفة والتّاريخ والشّعر والمسرح وعلومًا أخرى كعلم النّفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، وحتّى السيرة الذاتية أدخلتها إلى عوالمها الرّحبة.

وهي عالم عجيب، لأنّها في مقابل هذه النّزعة الامبراطوريّة، قد تكون وسيلة لنقد هذه الرّوح التوسعية، وتلك النّزعة الامبرياليّة نفسها، مثلما توحي إليه روايات "جوزيف كونراد" (ناقد الوهم الكولونيالي بتعبير إدوارد سعيد)، وبالأخصّ في اثنين من أعماله الرّوائية، وهما: "لورد جيم"، و"قلب الظلام".

من هذا المنطلق، ليست الرواية إبداعا مُنحازًا فقط، بل هي صاحبة روح ديمقراطية قادرة على نقد وتجاوز الرّاهن نحو تصوّر آفاق مختلفة، وتقديم أصوات أخرى. لكلّ هذه الأسباب، تعتبر الرّواية مملكة هذا العصر، ولها الحظوة والمكانة في مجالس المُبدعين.

  • هل واجهت الرّواية في هذا المسار كبوات معيّنة؟

لقد واجهتها عدّة مشاكل خلال مسارها. لكنّها عرفت كيف تخرج منها سالمة لتكون مملكة هذا العالم، وسيدة هذا العصر. لقد عرفت الرواية كيف تفرض وجودها، فانتشرت بعد أن أصبحت انعكاسًا لروح العصر الحديث، وبعد أن فرضت نفسها على علوم مختلفة. 

وها هو الرّوائيّ يُزاحم المؤرّخ، حتّى أنّ القرّاء أصبحوا يؤمنون بما يكتبه الرّوائيّ، أكثر من إيمانهم بعمل المؤرّخ. فإذا كان المؤرخ، بالأخص ذلك الذي يُسمى بالمؤرّخ الرّسميّ، يتعامل مع الفاعلين كأنّهم أبطال، فإنّ الرّوائيّ ينزع صفة البطولة عنهم، ويفضّل التّعامل معهم كبشر، وهو ما يمنحه صفة الصّدق.

ولا أبالغ إن قلت، وفق هذه الحالة، إنّ الرّوائيّ المبدع يحوز على صفة المؤرّخ، مقارنة بالمؤرّخ الرّسميّ الذّي يخلق مرويّاتٍ بطوليّةً وأساطيرَ، وليس تاريخًا.

وبالعودة إلى "بول ريكور" في كتابه ''الذّات عينها كآخر''، نعثر على مسألة في غاية الأهمّيّة، هي فكرة ''الفضوليّة''. هذه الفضوليّة تحتلّ مكانة بارزة عند الرّوائيّ، أكثر منها عند المؤرّخ الرّسميّ الذّي يميل إلى البقاء على ما هو موجود على السّطح. لذلك، كان غابرييل غارسيا ماركيز ذكيًّا لمّا كتب في روايته ''مائة عام من العزلة''، بما يشبه الرّوح الشّكسبيريّة ما يلي: ''للأشياء حياتها الخاصّة بها. وما القضيّة سوى إيقاظ أرواحها''.

  • تدفعنا هذه المقولة إلى هذا السّؤال: استطاعت الرّواية عربيًّا وجزائريًّا أن تطغى من زاوية المقروئيّة، لكنّها كتابيًّا بقيت حكرًا على النّخبة المحكومة بالأيديولوجيات أكثر من كونها محكومة بالحياة، ولم تقتحم مجال كتابتها الذّّوات العادية، كما نجد عند الغربيين. لماذا؟

تجرّأ الرّوائي جيلالي خلاص يومًا، فراح يُسدي النّصيحةَ لروائي جزائريّ من الرُّواد، عُرف بميله لتيّار الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب، فقال له: "عليك بترك المواضيع الأيديولوجيّة جانبًا. فقد غرقتَ في الأيديولوجيّة حتّى الأذنين، إلى درجة أنّ كلُّ رواياتك هي دفاع عن مشروع أيديولوجي، والأجدر بك بعد كلّ هذا المسار الرّوائي، الّذي جعل منك روائيًا مُكرّسًا، أن تهتمّ بالمواضيع الّتي لها علاقة بالإنسان وهمومه".

ذهب خلاص بعيدًا في جرأته، فنصح الرّوائي المقصود بأن يُحوّل أدبه إلى فضاء يُترجم التّجربة الإنسانيّة من منطلق المعايشة الفردية والمُشاهدة اليوميّة لتفاصيل الحياة، وسرد المعاناة. لكنّ صاحبنا الرّوائيّ تعنّت بشدّة، ورفض أن يعمل بنصيحة جيلالي خلاص، فبلغ به الأمر أن غضب واستنكر الاقتراح استنكارًا شديدًا، وردّ النّصيحة ورفضها رفضًا قاطعًا، فردّد قائلًا: "هل تريدني أن أكشف للنّاس أنّني كنتُ أُميًّا وراعيًا؟".

ظلّ كاتبنا وفيًا للأيديولوجية الاشتراكية في ما كتبه لسنوات طويلة، ورمى جانبًا اقتراح جيلالي خلاص الّذي روى لي هذه الواقعة منذُ سنوات خلت، وهو يتحدّث عن ماهية الرّواية، فاستعاد مسار الرّوائي التّركي "يشار كمال" (1923-2015)، ذلك الأميّ الّذي اشتغل في مزارع القطن والأرز، قبل أن يُصبح كاتبًا ذا صيت كبير، متألّقًا في سماء الأدب العالمي، حتّى كاد يفتك جائزة نوبل للآداب سنة 1972، بفضل سلسلة روايات تمحورت حول شخصية قروية تدعى "ميميد"، صدرت ترجماتها الفرنسية عن دار "غاليمار".

كتب "يشّار كمال" عددًا كبيرًا من روايات فاقت الثلاثين، وترجمت إلى ما يربو عن الأربعين لغة. ويكمن سرّ نجاحه في أنّه نسج عالمه الرّوائي ونهله من هموم وشجون وآمال وآلام النّاس، ومن التّوق اللّامحدود للحرّية، دون أن يجد قارئه أيّ إشارة لأيّ أيديولوجية كانت، رغم أنّه مناضل سياسيّ ذائع الصّيت، وسجن مرّاتٍ عديدة من أجل أفكاره.

استعاد جيلالي خلاص هذه الواقعة، بعد أن تناقشنا في موضوع راهن الرّواية الجزائرية. اتّفقنا بسرعة على أنّها نزلت متأخّرة إلى عالم الإنسان وهمومه.

وتلك هي حال الثقافة عندنا بصفة عامة، فاقترابنا من منظومة التّفكير الفرانكفونية جعلنا متأثّرين جدًّا بالتّقاليد والنّزعات الأيديولوجية، أكثر من تأثّرنا بالإنسان، فالاهتمام بما هو إنسانيّ خاصّية أنجلوسكسونيّة لم تدخل ميولنا الثقافية، وظلّت غريبة عنّا، ونحن بعيدون عنها.

فإذا كانت فرنسا هي مهد الثورات العنيفة والأيديولوجيات الثّورية الدّمويّة، على غرار "اليعقوبية" وما شابهها، فإنّ بريطانيا في المقابل من ذلك ظلّت متمسّكة بفكرة التّغيير بواسطة الأفكار، فانتقلت للمرحلة الدّيمقراطية مع الاحتفاظ بالملكيّة، بينما قامت الدّيمقراطية الفرنسيّة على العنف الثوري وعلى الدّم والمقصلة والاغتيالات السّياسيّة.

ولحسن حظّ المتأثّرين بالعالم الأنجلوسكسوني، أنّهم ورثوا هذه التّقاليد الهادئة، فكتبوا أدبًا إنسانيًا بسيطًا في تعبيره وعميقًا في مغزاه ومعناه، لا يروم سوى تقديم حكايات عن صراع الإنسان من أجل البقاء في عالم مزيّف، منفردًا في طرحه ومختلفًا عن التقاليد الأدبيّة الفرنسيّة الثّوريّة الغارقة في محاولة تغيير المجتمع برمّته، قبل تغيير الإنسان.

أدّى رفض الكاتب المذكور لفكرة التخلّص من هيمنة الأيديولوجية في أدبه إلى كارثة حقيقية، حيث تأخّر أدبنا عن التحوّل لأدب إنساني، وبقي لفترة طويلة أدبًا أيديولوجيًا يهتمّ بالعامّ والشّامل على حساب التفرّد والخصوصيّة والمأساة الإنسانيّة.

لقد مجّد هذا الكاتب الأيديولوجيّة الاشتراكية، تمجيدًا كبيرًا، ولمّا هوت تلك الأيديولوجية، وسقطت، هوى معها أدبه وسقط بدوره. ولو عمل بنصيحة جيلالي خلاص، فإنّه حتمًا لن يعرف مثل ذلك المصير، وكان لأدبه أن يبقى ويدوم. لكنّه تعنّت، وظلّ يعتبرُ أنّ الأدب يجب أن يكون مُرادفًا للأيديولوجية، أو لا يكون.

  • هل نستطيع القول إنّ الشعر انتقم من هيمنة الرواية العربيّة عليه، فميّعها بدخوله إلى اللّغة الرّوائيّة، فوق الجرعة الشّعرية، التّي يقتضيها السّرد/ يسمح بها؟

تابعتُ منذ فترة، نقاشًا طريفًا بين الأدباء حول ما أسماه البعض "حرب الرّواية على الشّعر". ولفت انتباهي، أنّ هؤلاء الّذين أرادوا لهذا النّقاش أن يكون، قد تصوّروا "حربًا ضروسًا"، بين الرّوائيين والشّعراء، وروّجوا لوجود نيّة من لدن الرّوائيين لإقصاء الشّعراء، ونبذهم، ورميهم إلى أقصى النّكران. والحقيقة الّتّي لم يتفطّن لها هؤلاء، هي أنّ الرّواية مثلما تطوّرت منذ القرن الـ19 في الغرب، كان لها ميول ونوازع "إمبراطورية"، حيث نمت مع تحوّلات الرّأسمالية، وانتقالها إلى مرحلة الإمبرياليّة بالتّعبير اللّينيني. ومثل كلّ إمبريالية، كان للرّواية ميول نحو الالتهام، والتوسّع، لكن بدون حرب.

توسّعت الرّواية مثلما توسّعت الآلة الرأسمالية، وأصبحت رفيقة الإمبراطورية في خضم حركة نموّها هذه، وجرفت كلّ شيء في طريقها، فكان الشّعر من بين العوالم الإبداعيّة، الّتي زحفت عليها الرّواية ووضعتها تحت سلطتها الإمبراطورية، إذ أصبح الشّعر جزءً من الرّواية، ولغة الشّعر أضحت جزءً من لغة الرّواية. وشهد عالم الإبداع هجرة الشّعراء نحو الرّواية، فأصبح النّاشرون يوصدون أبوابهم على الشّعراء، ويفتحونها على الرّوائيين.

أعتقد أنّ الرّواية الغربيّة، وهي تضع الشّعر تحت إبطها، تصرّفت بحكمة، ورويّة، وبروح إنسانيّة. ولم تتصرّف وفق عقلية إقصائيّة، عنيفة، بل وفق روح رؤوفة، إلى درجة أنّ نجاح كلّ رواية أصبح مرتبطًا بمدى وجود لغة شاعرية بين ثناياها.

أصبحت البشريّة تبحث عن نفسها في الرّواية، بعد أن فقدت ثقتها في الشّعر. لكنّها في المقابل لم تبدِ أيّ رفض لشاعرية الرّواية، بل اعتبرتها عُذوبة مُستساغةً، ولذّة ضروريّة، وأمرًا محبوبًا.

لذلك جاء كلام الرّوائي الأرجنتيني "إرنستو ساباتو" صائبًا، حين قال: "النّثر هو النّهار، والشّعر هو اللّيل، طعامه الوحوشُ والرّموز، وهو كلام الظّلمات والمهاوي. إذن ليس هناك من روايةٍ عظيمة لم تكن في المحصّلة شعرًا".

وها هي الرّواية تعترف للشّعر بمكانته، وألقه، وقوّته. فليس في الأمر حرب ضروس، ولا شيء من هذا القبيل، بقدر ما هناك رغبة في التوسّع ضمن الاعتراف.

يعتقد بعض الشّعراء، الّذين انساقوا وراء هالة الرّواية، تحت تأثير روحها الإمبراطورية، أنّه ما من رواية حقيقيّة، إن لم تكن في المحصلة شعرًا. إنّهم يسعون للاحتفاظ بجدوى الشّعر. وهذا ينطبق أساسًا على الذّوق العربي، الّذي تتحكّم فيه الذّائقة الشّعرية، والبعيد عن عالم الرّوائي القائم على بناء هندسي يخضع للفكر أكثر منه للمشاعر. ففي العالم العربي، لن تكون الرّواية ناجحة، ما لم تكن قريبة من الشّعر.

  • كيف تقارب تجربة أحلام مستغانمي في هذا الباب؟

 لقد أدركت أحلام مستغاني هذا الأمر جيّدًا، فخلقت توليفة ناجحة بين الشّعر والرّواية. تركت الشّعر، وانتقلت للرّواية، دون أن تعلن حربًا ضروسًا على القصيدة.

  • ما دور اقتراب السّينما من الرّواية في جعل حظّ الشّر يتراجع؟

أعتقد، أنّ الشّعر وقع ضحية روح العصر، لم يكن محظوظًا مثل الرّواية. ولعبت ظاهرة تبنّي السّينما للرّواية دورًا كبيرًا في ترك البشرية للشّعر. السّينما الّتي تجاهلت الشّعر، والشّعراء. وباعتبارها الفضاء الإبداعي الأكثر تأثيرًا منذ القرن العشرين، انحازت السّينما للرّواية، ومكّنتها على القصيدة. فالأفلام هي الّتي أضحت تصنع الذّائقة الفنّيّة. وكان لانتقال الأعمال الرّوائية للسّينما عبر الاقتباس، مفعول إيجابي على الرّواية نفسها.

أدركت السّينما، وهي تستنجد بالرّواية، ما يمكن أن تقدّمه لها كقيمة مضافة، بفضل قدرتها على تقديم لحظة فهم الرّوح والوضعية البشريتين، كما أدركت أهمّيّة روحها الإمبراطورية، وقوّتها، وقدرتها على السّيطرة على ميول القرّاء. فرواية مثل رواية "غاتسبي العظيم" للأمريكي سكوت فيتجيرالد، ما تزال تحظى باهتمام القرّاء عبر العالم، لأنّ السّينما اقتبستها مرّتين، وفي كلّ مرّة يتزايد عدد قرّائها، بمجرّد مشاهدة الفيلم.

لقد أصبحت الرّواية وثيقة سوسيولوجيّة، نفهم العالم بواسطتها، ونتابع من خلالها مسالك الحياة اليوميّة ودُروبها المتشعّبة

أكثر من هذا، لقد أصبحت الرّواية وثيقة سوسيولوجيّة، نفهم العالم بواسطتها، ونتابع مسالك الحياة اليوميّة ودُروبها المتشعّبة، بينما بقي الشّعر حبيس التأنّق المجازيّ، واللّغة المجازية. لم تجد البشريّة في لحظة سعيها لفهم نفسها، والوقوف عند خرابها، وانحطاطها، سوى الرّواية، لكنّها فضّلت الرّواية الّتي تبنّت الشّعر، فأين هي الحرب الضّروس؟ أعتقد أنّها غير موجودة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة