04-يونيو-2020

الكاتب الإيطالي ريكاردو نيكولاي (فيسبوك/الترا جزائر)

غير بعيدٍ عن جامع كتشاوة، وفي المدخل السفلي لقصبة الجزائر وعند حومة "زوج عيون" تمامًا، تتراءى معالم جامع فريد جدًا من نوعه، إذ شُيّد فوق عدد من المحلّات التجارية التي لازالت تزاول نشاطها إلى غاية اليوم، تعلوه مئذنة وقبة صغيرة. توحي مساحته الصغيرة أن من بناه جعله كذلك ليتشابه مع النّسق المعماري لقصبة الجزائر، إنه جامع علي بتشين.

ريكاردو نيكولاي، كاتب إيطالي ألهمته قصّة مواطنه بتشينيو، فقدم من توسكانيا وطاف بدروب مزغنّة وأزقّتها الضيّقة

تحوّل المسجد إلى كنيسة في عهد الاحتلال الفرنسي، وكان يُطلق عليه وقتها "نوتر دام دو لا فيكتوار"، ليسترجع ماهيته الأولى بعد الاستقلال. يكتنز جامع "علي بتشين"، الذي شُيّد عام 1622، قصّة طويلة للبحّار الإيطالي ألبيريكو بيتشيني الذي وقع في أسر البحرية العثمانية. قصّة طويلة جعلت من البحّار الأسير أحد أعظم الشخصيات السياسية في الجزائر آنذاك، اعتنق بتشيني الإسلام، وغيّر اسمه إلى علي بتشين وتزوّج الأميرة لالاهم، ابنة السّلطان أحمد بلقاضي سلطان مملكة كوكو في منطقة القبائل، وقام علي بتشين بتمويل بناء جامع ليكون عربون محبّة ومهرًا لزوجته.

مسجد علي بتشين بالعاصمة

ريكاردو نيكولاي، كاتب إيطالي ألهمته قصة مواطنه بتشينيو، فقدم من توسكانيا تلك المدينة الرومانسية، وطاف بدروب مزغنة وأزقّتها الضيقة، وجعل من قصة حياة ألبيريكو بيتشيني هاجسًا أدبيًا، فنشر رواية "في حب أميرة" عام 2015، ويُرتقب أن ينشر رواية ثانية نهاية الشهر الجاري، كما ألّف كتاب "مغامرات علي بتشين" الموجّه للأطفال عام 2017، فيما اشتغل شقيقه ألبرتو نيكولاي، على مسرحية عُرضت في أوبرا الجزائر قبل عامين.

في هذا الحوار، يغوض بنا ريكاردو نيكولاي في قصّة حبّ بين ضفتي المتوسط، ويفصح عن اعتقاده بأن علي بتشين "لايزال حيّا".

  • من جديد، رواية أخرى عن حياة علي بتشين بعد روايتك الأولى "في حب أميرة "، من أين بدأت فكرة كتابة عمل روائي عن حياة الرايس ألبيريكو بيتشيني في الجزائر. يبدو أن نبع حكايا علي بتشين لا يريد أن ينضُب؟

ما حدث معي، كان أشبه بمن يعثر على شيءٍ وهو يبحث عن أمر آخر تمامًا، الفكرة وُلدت قبل سنوات، كنت مدعوًا لحضور تظاهرة ثقافية أقيمت في مدينة روكا غير بعيد عن مدينة ماسا، كانت تلك المرّة الأولى التي أسمع فيها عن القصّة المثيرة للبحّار ألبيريكو بوتشيني، ومغامراته في حوض المتوسّط. تحدّثت مع بعض الباحثين على هامش تلك التّظاهرة حول هذا الموضوع، ثم بدأت رحلة البحث وتقفي أثاره. الرايس بيتشيني ينحدر من المنطقة نفسها التي أسكن فيها، فهو مولود في مدينة ماسا بمقاطعة توسكاينا، وهو ما شكّل لي دافعا كبيرًا، لهذا بدأت في جمع القصص والحكايات، والتحقّق من الروايات والمصادر.أمضيت عامًا ونصف العام في البحث عن المراجع التّاريخية، والكتب القديمة التي تطرّقت لحكاية الأميرال علي بتشين، بعدها أتيت إلى الجزائر وزرت جامع علي بتشين وقصر رياس البحر الذي عاش فيه بتشيني فترة من الزمن.

  • يُجمع كثيرون أنّ روايتك الأولى نفخت روحًا جديدة في "أسطورة" علي بتشين، وأخرجت من ركام النسيان قصة حبّ عجيبة جمعت قرصانًا إيطاليًا وأميرة أمازيغية، فماذا تحمله دفّات روايتك الثانية؟ 

لا أُخفي عليك أنني كنت سعيدًا جدًّا بالأصداء التي كانت تصلني عن الرواية، لقد أحسست حقّا أنني حققت جزءًا ممّا كنت أريده أن يتحقّق، وهو إعادة إحياء هذه القصة القديمة، لقد ساهمت الترجمة الفرنسية للرواية في رواجها في الجزائر، بعدما أتت في حلّة جميلة بفضل مترجم جزائري قاطن في تورينو، اسمه كريم مترف، في تلك الرواية حاولت توظيف كل المعلومات التاريخية المؤّكدة التي جمعتها. نهاية الرواية كانت بوفاة علي بتشين ولم أكن حينها أفكّر في الكتابة مجددًا عن الأمر. لكن وقعت في يدي وثيقة تاريخية مهمّة خطّها رجلٌ كان خادمًا لدى علي بتشين يدعى إيمانويل، هناك قلت في قرارة نفسي "لا، لم تنته الحكاية بعد".

  • ماذا حدث بالضبط؟

عثرت على وثيقة كتبها أيمانويل الذي كان يشتغل لدى الرايس بتشين، جعلتني أكتشف تفاصيل جديدة عن حياته. جعلتُ من أيمانويل راويًا وبطلًا للحكاية وصوتها الأوّل، كانت رسالته بمثابة جوابٍ عن سؤال كنت أطرحه على نفسي، ماذا حدث بعد وفاة علي بتشين؟ وأيُّ مصير لاقته زوجته لالاهم وابنهما شلبي. لقد روى هذا الخادم ما فعله الانكشاريون في عائلة الأميرال بتشين بعد وفاته (اغتيل بتسميم قهوته)، لذلك قرّرت أن أبدأ في كتابة رواية جديدة، ستنشر نهاية شهر حزيران/جوان في إيطاليا، وسأحرص مجدّدًا على أن تصدر ترجمة فرنسية لها عن قريب.

  • في سياق حديثك عن الترجمة، متى نرى ترجمة عربية لرواياتك هل هناك مشروع ما في الأفق؟

شخصيا، أفكّر حقًا في ترجمة رواياتي حول علي بتشين إلى اللغة العربية، بل بات الأمر ضروريًا، في كل مرّة أزور فيها الجزائر أجد هذا السؤال ينتظرني، أعلم جيّدًا أن هناك قراءً في الجزائر لا يقرؤون بالفرنسية أو الإيطالية، وقصّة الحب التي جمعت علي بتشين والأميرة لالاهم، جديرة أيضًا بالترجمة للغات أخرى، سأحرص هذه المرّة على البحث عن مترجم لها للغة العربية مباشرة بعد صدورها في إيطاليا نهاية هذا الشهر.

  • تزور الجزائر عدّة مرّات، وكثيرًا ما تتحدّث عنها بكثير من الحب، هل لأنها كانت موطن علي بتشين، أم لأنها منجم حكايات غيّرت الكثير في سيرتك الذاتية؟

حين زرت الجزائر لأوّل مرة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015، شعرت بعاطفة خاصة جدًا، أتيت ومعي أسماء أماكن يجب أن أزورها وألتقي فيها شخوص روايتي، نزلت في فندق قريب من البريد المركزي، كنت أجلس هناك يوميًا أرتشف القهوة في مقاهيها أراقب حركة الناس، كنت أمشي وحيدًا ليلًا في أزقة القصبة، أستيقظ فجرًا وأخرج بحثًا عن روح علي بتشين وأقتفي أثاره في مسجد كتشاوة، سيدي رمضان، دار عزيزة، في أسواق باب عزون وباب الواد، وغالبًا ما كنت أجده هناك، حين أدخل قصر رياس البحر وأتنفّس هواء ذلك المكان، كنت أشفي غليلي من حلمٍ بات يراودني وهو أن أكون أنا هو علي بتشين.

يقول علي بتشين "حوض المتوسّط لم يكن دولة، هو لجميع من يُنصت له، سواءً من هنا أو من هناك"

  • مؤخّرًا، قام سفير الجزائر بإيطاليا بتدشين نصب تذكاري لعلي بتشين في مدينة ماسا، هل نال الرايس بتشين أخيرًا ما يستحق من الاعتراف؟

يقول علي بتشين "حوض المتوسّط لم يكن دولة، هو لجميع من يُنصت له، سواءً من هنا أو من هناك، من حيث تشرق السماء أو من حيث تميل لتغرب" ، لقد كان بحّارًا فذًا، وحاكمًا عادلًا، لم يكن الشخص الوحيد الذي تم القبض عليه في تاريخ البحرية الجزائرية، لقد كان ذلك أمرًا شائعًا، لكن علي بتشين كان حالة فريدة. كان أيضًا وفيًّا لوطنه إيطاليا، لقد أفرج ذات مرّة عن امرأتين من ماسا ورجل من كارارا بعد أن تم القبض عليهم، النصب التذكاري كان اعترافًا، لكن هناك الكثير من الأمور التي يُمكن فعلها من أجل هذه القصة العجيبة، في لوحة تدشين النصب كُتبت عبارة بالعربية، ذات العبارة باتت وشمًا على مِرفقي "علي بتشين مازال يعيش".