28-أغسطس-2020

عبد السلام فيلالي (فيسبوك/الترا جزائر)

ملأت موسوعة "الدّولة والمجتمع في الجزائر" بأجزائها السّتة (صدرت خمسة منها عن دار الوسام العربي؛ فيما صدر الجزء السّادس عن دار العقّاد)، فراغًا ملحوظًا في حقل الدّراسات المتعلّقة ببنية الدّولة الجزائريّة وعلاقتها بأنساق وتمظهرات المجتمع.

عبد السلام فيلالي: ما حصل بداية الثّمانينات في الجزائر هو امتداد لتداعيات الحرب الباردة

حاول عبد السّلام فيلالي (1971)، أستاذ علم الاجتماع السّياسي في جامعة عنّابة، في هذا المبحث الكبير أن يرصد بعين الأكاديميّ تشكّلات الدولة والمجتمع؛ منذ الدّويلات الأمازيغيّة، وما أعقبها من كيانات محتلّة للفضاء الجزائري، كان آخرها الاحتلال الفرنسيّ (1830 - 1962) الذّي شهد إرهاصات الحركة الوطنيّة المفضية إلى ثورة التّحرير التّي أفضت بدورها إلى الدّولة الوطنيّة بشكلها الحالي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | زبيدة عسول: الانتخابات لن تحل الأزمة وشرعية الرئيس ستكون مهزوزة

وسخّر الجزء السّادس والأخير من الموسوعة لمسعى الحراك الشّعبيّ والسّلميّ (22 شباط/ فيفري 2019) الذّي يراه صالح بين الدّولة والمجتمع. وحتّى وإن تعرّض؛ حسبه، إلى اختلالات وإجهاضات معيّنة؛ فسيظلّ البوصلة التّي توجّه المستقبل الجزائريّ.

في هذا الحوار الذّي خصّ به "الترا جزائر"، سنقترب من بعض عتبات مشروعه الذّي لا شكّ في أنّه ومشاريع أخرى لوجوه أخرى سيحرّض علم الاجتماع السّياسي في الجزائر على الخروج من مقام المسايرة والخمول إلى مقام المساءلة والبحث.

  • عادةً ما تناولت الدّراسات والبحوث الدولة والمجتمع بصفتهما حقلين/مبحثين منفصلين. بينما نجدهما متداخلين في بحثك الموسّع. لماذا؟

تحيل دراسة المجتمع من النّاحية السّوسيولوجيّة إلى مستويات متداخلة ومترابطة. وفي موضوع دراستي كنت حدّدت منطلقها من مسألة تمفصل أنساق القيمة مع أنساق التّوجيه. أي محاولة تحليل هيكلة المجتمع بدراسة بنية العلاقات الاجتماعيّة وما تتضمّنه من أنساق قيمة ثمّ تأثير أنساق التّوجيه فيها حسب غايات ومقاصد ورهانات الفاعلين الأساسيّين داخل هذا البناء الاجتماعي. وعليه ومن خلال فعل التّأثير (السّلطة) نرى أنّ هيكلة/إعادة هيكلة المجتمع التّي تحدّدت كبنية هي نتاج تفاعلات اجتماعيّة معقدّة ومستمرّة في الزّمن تتحكّم فيها شروط الحقل الاجتماعيّ التّي تؤسِّس لمنظومة علاقات اجتماعيّة مُعرِّفة لهذا المجتمع أو ذاك.

ماذا عن النّاحية الأنثروبولوجيّة؟

 إنّ كلّ بنية هي وظيفة. وهكذا يمكن صياغة إجابتي عن سؤالكم من أنّ الدّولة هي مأسسة لقيم اجتماعيّة أو القوانين التّي تحكم عمل المؤسّسات الاجتماعيّة في عمومها. الدّولة هي تعقّد للوظائف في مسار التّطور من البنى الاجتماعيّة الأوّليّة (الأسرة. العشيرة. القبيلة) ثمّ المجتمع الحديث الذّي ينبني على تجاوز شخصنة القرارات (السّلطة) نحو المؤسّسة التّي تعكس إرادة الأفراد. فيبرز دور القائمين على عمل النّظام السّياسيّ من منظور علم الاجتماع تبعًا للتّأثير الذّي ينجم عن اتّخاذ القرار وتطبيقه على النّظام الاجتماعيّ، بما يسمح بفهم انتظام روابط القوّة الدّاخليّة والخارجيّة أو قل علاقات السلّطة بما هي عنصر أساسيّ في تشكّل كلِّ نسق من الأنساق الاجتماعيّة. فدراسة تشكّل المركز (الفاعلون الأساسيّون داخل النّظام السّياسيّ) تفيد أيضًا تحليل ديناميكيّة الأنساق الاجتماعيّة والسّياسيّة، أي هيكلة المجتمع فوق قاعدة قيميّة محدّدة وفق أطروحة سوسيولوجية عامّة تقول بأنّ سلوكات الأفراد وآراءهم مرتبطة بمجموعة عناصر مرتبطة ببعضها البعض بواسطة علاقات. هكذا فإنّ علاقات السّلطة أو وظيفتها في المجتمع تشمل سلطة تحديد عمليات القرار للتّنشئة الاجتماعيّة أي سلطة إنتاج الواقع.

الخلاصة أنّ العلاقة بين المجتمع والدّولة، هي مجموع تمظهرات لطريقة انتظام الاجتماعيّ في كلّيتـه وليس فقط في جزء منه، عبر مسار معقّد وطويل من الصّراع والتّكيّف تكون السّلطة فيه، بما هي الوسيلة الفيصل، العامل الأساس في حسم هذا التّشكّل. أي أنّ التّنظيم الاجتماعيّ في إنتاجه ينحو إلى اعتباره "تنظيمًا لممارسة السّلطة داخل الجماعة أوّلًا، وبواسطتها ثانيًا"، مثلما يقول محمّد عابد الجابري.

  • على ذكرك للجابري. هل يجد الباحث في علم الاجتماع السّياسيّ وما يتعلّق به من مباحث صعوباتٍ في إيجاد المراجع والمصادر الكافية واللّازمة؟ 

من النّاحية المبدئيّة لا توجد مشكلة تتعلّق بالمراجع، فهذا مرتبط بقدرة الباحث وهمّته في التّعامل مع موضوعه ومنهجيّة دراسته. من تجربتي الشّخصية، كنت أمام مثل هذه المشكلة حين دراستي لمرحلة تطوّر المجتمع الجزائريّ وما يتعلّق بالجوانب الاقتصاديّة والسّياسيّة لما بعد سنة 1965. فالمراجع التّي تتناولها قليلة جدًّا، إلا أنّي تجاوزتها بالذّهاب إلى تناول المعطيات (الخام) فيما يتعلّق بالإحصائيات، الشّهادات والمذكّرات، ما كتب من مقالات صحفيّة وتحليلات لمختلف المنجزات أو الأخبار، ساعدني في هذا تطويري لوسائل بحث في الأنترنت حيث تمّت أرشفة كثير منها. إضافة إلى عمل جمع البيانات من دراسات وكتب ورسائل جامعيّة، لجزيئيات أقوم بموضعتها ضمن سياق التّحليل والذي أعمل عليه.

  • ما هي التّجارب/ الفترات التّي كان شكل الدّولة في الجزائر مستمدًّا فيها من طبيعة المجتمع؟ 

الدولة هي مؤسّسة المؤسّسات كتعريف بسيط لها. وكلّ مؤسّسة هي نتاج المجتمع. كان هذا هو موضوع دراستي في الجزء الأوّل، حيث بحثت في جذور نشأة الدّولة الجزائريّة التّي لا يمكن تحديد مجال زمنيّ محدّد لتشكّلها، وكلّ ما يمكن قوله في بداية التّشكّل أنّها نتاج بروز وعي وطنيّ مقاوم للهيمنة الاستعماريّة وسلب الأراضي؛ ثمّ مأسسة هذا الشّعور كمطالب سياسيّة بدأت كمطالب فئوية كما هو الحال مع عريضة أعيان قسنطينة لسنة 1887 الموجّهة للسّلطات الاستعماريّة التّي تكلّموا فيها "باسم الجزائر كلّها"، والتّي دعوا من خلالها إلى تنظيم المدارس العربيّة ودراسة الطّرق والوسائل الكفيلة بتمكين جميع الأهالي المسلمين من الاستفادة منها.

ثمّ منح الأهالي الأعضاء في المجالس البلديّة والمجالس العامّة نفس الحقوق الممنوحة للأعضاء الفرنسيّين، من دون استثناء. ومعنى هذا إلغاء التّحفّظ الاستثنائيّ الخاصّ بانتخاب شيوخ البلديّات ونوابهم. وباختصار، إقرار المساواة المطلقة بين أعضاء الهيئات المنتخبة، مهما كان نوعها. أو المطالب التّي تضمّنها بيان الشّاب الجزائريّ لسنة 1912 الذّي طالب بإلغاء قانون الأنديجانا. ثمّ ما أتى كبرنامج سياسيّ أوّلًا مع نشاط الأمير خالد سنة 1922 برنامج نجم شمال أفريقيا لسنة 1926، الذّي أسّس لنشاط الحركة الوطنيّة في بعدها الاستقلاليّ الذّي انتهى إلى ما ناله الشّعب الجزائريّ المناضل من دعم واضح وصريح في هيئة الأمم المتّحدة بالأغلبيّة المطلقة أي الاعتراف بحقّه في تقرير المصير في ديسمبر 1959. وفي نهاية المطاف استفتاء تقرير المصير المنظم يوم 19 مارس 1962، بنتيجة 5.975.000 صوت بنعم من أصل 6.000.000 ناخب.

  • أنت بهذا أردت القول إنّ الدّولة في الجزائر هي نتاج الوعي/ النّضال الشّعبيّ؟

هذا ما عبّرت عنه برامج ووثائق الحركة الوطنيّة وجبهة التّحرير الوطنيّ التاريخيّة، أمّا مسألة امتداد الدّولة في المجتمع وبنظمه فإنّها تحيل إلى مستويين:

أوّلًا: الشّرعية؛ وهو موضوع يثير إشكالية تحتاج إلى تفصيل كثير، لأنّه يسحب معه موضوعًا فرعيًّا لها، ويخصّ الشّرعيّة الثّوريّة التّي ظلّت؛ في نظري، قائمة إلى غاية قيام الحراك الشّعبيّ، الذي أراه صحوة مواطنيّة.

ثانيًا: العلاقة بين الدّولة المجتمع، إذ  قامت وفق ما أُسّس له الفاعلون السّياسيّون في مؤتمر طرابلس في اجتماع المجلس الوطنيّ للثّورة الجزائريّة في الفترة من 09 إلى 27 آب/أوت 1961، من ناحية تنظيم الحكم الذّي أفرد اللّجوء إلى القوّة بعد بروز دور هيئة الأركان العامّة.

والأمر الثّاني هو أنّه وانطلاقًا من أحد أهداف بناء الدّولة القاضي بتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وحيث توفّر الجزائر على ثروة النّفط، فقد جعلت النّظام السّياسيّ "لا يحتاج" إلى المجتمع فيما يخصّ تمويل المشاريع التّنمويّة، بما جعل الدّولة تقوم بأدوار الرّعاية الاجتماعيّة. والواقع أنّنا لا زلنا إلى غاية اليوم، في مواجهة هذه "المعضلات السّياسيّة"، التّي أبان الحراك الشّعبي عن إرادة شعبيّة في معالجتها.

  • قاربتَ بنية المجتمع الأمازيغي، ورصدت كثيرًا من خصوصياته في الاجتماع. لماذا لم تؤدِّ تلك الخصوصيات إلى تبلور تجربة جزائريّة في شكل الدّولة؟

تحتاج الإجابة على هذا السّؤال إلى تفصيل كبير حول بنية المجتمع الأمازيغي، إذ فعلت الرَّوْمَنَة فعلها، فالسّيطرة الطّويلة للحكم الرّومانيّ - البيزنطي، عدّلت في هذه البنية. فالجزائر هي ثاني دولة في العالم من حيث الآثار الرّومانية بعد إيطاليا، والمعالم المتبقّية تشير إلى حياة حضريّة كبيرة كانت سائدة. أقدّم لك مثال جامعة مادور (مداوروش في ولاية سوق أهراس). لقد أدى عامل المثاقفة إلى ذوبان كلّي للعناصر الثّقافيّة البربريّة في الحضارة الرّومانيّة، ومن الجانب السّياسي قضى على أهمّ جوهر في حياة مجتمع ما هو وجود نظام سياسي، متكوّن من نخبة حاكمة محلّية تشرف على هيكلته بحيث يعبّر عن الهوّية والطّموحات الشّعبيّة.

  • لكنّ الأمازيغ كانوا ينظرون إلى الوضع بصفته احتلالًا. أليس كذلك؟ 

حالة الفراغ تلك هي التّي تفسّر سهولة تغلغل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، لأنّها محرِّرة في جوهرها ولأنّها تتقاطع مع عناصر ثقافة المجتمع البربري كما يمكن التّدليل عليه مع شيوع المذهب الأريوسيّ في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيريّة. وعليه فإنّ ما يتمّ تداوله من نقاش حول تأثير الفتح الإسلاميّ لا تتضمّن تاريخانيّة للشّكل والتّطور. بل إنّ هذه الفتوحات كرّست حكمًا محلّيًّا مع ما يُسمّى "دول البربر" الكبرى: المرابطون، الموحّدون، والزيانيّون في الجزائر، وهو الحكم الذّي سرّع في عمليّة تعريب شمال أفريقيا بسبب الحاجات التّنظيمية التّي تستدعي اللّجوء إلى لغة تستطيع التّعبير عنه. وعليه فإنّ نموذج الدّولة التّي عرفتها منطقتنا لا يخرج عن نموذج الدّولة السّلاليّة - السّلطانيّة. ويمكن ضمّ نموذج الدّولة العثمانيّ- المملوكيّ أيضًا. ومن ثمّ لا يمكن الحديث عن تبلور تجربة جزائريّة في شكل الدّولة في تلك الفترة لأنّها ممارسة يعوزها تكوّن "عقد اجتماعي".

  • ما هي القطائع التّي تسبّبت فيها الفترة الاستعماريّة؛ على مستوى مفهوم الدّولة لدى الجزائريّين؟ وهل عوّض مفهوم "المجتمع" غياب مفهوم "الدّولة" كآلية للدّفاع عن الكيان الجزائريّ ضدّ سياسات الطّمس والتّغريب؟ 

ما تفضّلت به من مفاهيم مرتبط بتجربة نشأة الدّولة - الأمّة في أوروبا. هذه المفاهيم ببعدها السّوسيو - سياسي لم تكن قد تشكّلت بعد في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسيّ. لقد ذكرت لك تواريخ هذا التشكل التّي تناولتها بإسهاب في كتابي "المجتمع الجزائريّ المعاصر"، ابتداءً من أفكار حمدان خوجة "الوطنية" ثمّ تشكّل فكرة الوطن/الكيان الجزائريّ المغتصب، وأخيرًا نشأة الطّبقة المتوسّطة (البرجوازيّة) بعد أزمة وتفكّك أنظمة الإنتاج التّقليديّة وإكراهات ومتطلّبات الواقع الاقتصاديّ المستجدّ في نهاية القرن 19، وانهيار الأرستقراطيّة التّقليديّة، وأخيرًا التّحوّلات الاقتصاديّة الرّأسماليّة التّي تسارعت في بداية القرن العشرين، مع تشكّل الفضاء الحضريّ الجديد، ميلاد الطّبقة المتوسّطة، وبداية عصر المثاقفة. فعبارة (الدّولة كآلية للدّفاع عن الكيان الجزائريّ ضدّ سياسات الطّمس والتّغريب) ترتبط بمرحلة الاستقلال.

  • هذا يقودنا الى هذا السّؤال: هل كان نموذج الدولة المتبنّى؛ فجر الاستقلال الوطنيّ؛ منسجمًا مع أهداف ثورة التّحرير؟ أم أنّ الاختلال كان ثمرة لسوء التّطبيق والتّسيير؟ 

نعم. لقد تحقّق هذا النّموذج مع مشروع الدّولة والمجتمع الذّي أشرف النّظام السّياسي على تحقيقه خاصّة بعد سنة 1965. لكن وهذا شيء بديهيّ لا يمكن القفز على وقائع سياسيّة ودوليّة مؤثّرة فيه، في تحليلنا للمنجز التّنمويّ والمؤسّسات السّياسيّة التّي تمّ وضعها.

كأنّك تعتقد أنّ مسار الدّولة والمجتمع الجزائريّين كان سيكون مختلفًا لو لم يحدث الانقلاب العسكريّ عام 1965 أو ما يعرف بالتّصحيح الثّوريّ. صح؟

صعب أن توضع إجابات قصيرة لمثل هذه الأسئلة المركّبة. فوصف الانقلاب لا ينطبق في نظري على ما حدث في 19 حزيران/جوان 1965، ذلك أنّنا نعلم أنّ النّظام السّياسي الذّي تولّى حكم الجزائر هو نتاج "تحالف" بين الزّعيم التّاريخي أحمد بن بلّة و"هيئة الأركان العامّة" التّي كان يترأسها العقيد هوّاري بومدين التّي عدّلت في ميزان القوى داخل جيش التّحرير الوطني؛ ثمّ في مواجهة الحكومة المؤقّتة، فهي التّي فرضت "براديغم" خاصّ بالدّولة الفتيّة.

أنا عبّرت عن إبعاد أحمد بن بلّة بجملة "المركز يئوب إلى جوهره"، ولم أحبّذ استخدام تعبير "الانقلاب العسكري"، و هذا بناءً على رؤية أنّه لا يفيد في وصف عمليّة التّغيير التّي حصلت بشكل دقيق، رغم أنّ عمليّة التّغيير هي فعلًا تنتمي كمفهوم إلى الانقلاب العسكريّ. وكتعويض لهذا استخدمت مفهوم الإبعاد لأنّه أكثر دقّةً، توضيحًا منّي أنّ مركز القوّة لم يتزحزح يومًا وأنّ علاقات السّلطة داخل هذا التّحالف بين جماعة هيئة الأركان العامّة وأحمد بن بلّة بقيت على حالها، رغم سعي الرّئيس أحمد بن بلّة الحثيث لتغيير موازين القوى وبالتّالي في طبيعة هذه العلاقات. لقد كان هذا الإبعاد يعني في أساسه عدم إتاحة مزيد من الوقت للرّئيس لكي ينفّذ مشروعه والاستئثار بجميع السّلطات، ففي ذلك الوقت لم يتبقَّ للرّئيس سوى المسك بزمام وزارة الدّفاع لكي يحقّق ذلك. فما حدث هو استمرار "خطّ إيديولوجيّ سياسي" في الهيمنة على القرار السّياسيّ وغرض تصوّره وخياراته في التّنمية وبناء الدّولة.

  • كيف أثّر ما يمكن أن نسمّيه "الانقلاب اللّيبرالي"؛ بعد رحيل النّظام البومدييني؛ في نشوء مفهوم مختلف للدّولة والمجتمع الجزائريّين؟ وإلى أيّ مدى كان التّخبّط في وضع مشروع للمجتمع؛ على ضوء رؤية فلسفيّة وحضاريّة عارفة بخصوصياته وما يحيط بها من مناخات وتحوّلات عالميّة طريقًا إلى تجربة العنف والإرهاب؟

ما حصل بداية الثّمانينات في الجزائر هو امتداد لتداعيات الحرب الباردة. لقد انضمّ النّظام السّياسيّ سريعًا إلى مقتضيات تحوّل بنية العلاقات الدّوليّة في السّياسة والاقتصاد. لكن كانت تعوزه القدرة على "اللّعب مع الكبار" عندما تمّ تغيير البوصلة من "وجهة واشنطن" إلى "وجهة باريس" بشكل غير مدروس وعمل فردي وليس دولتيًّا. وحين انهيارت أسعار النّفط ابتداءً من سنة 1985، حدث انكشاف مدمّر، هشاشة الوضع الاقتصاديّ والماليّ وتأثير التّجاذبات السّياسيّة داخل النّظام السّياسيّ بين المحافظين واللّيبراليين، انتهت وعبر حوادث أكتوبر 1988 إلى انتصار الجناح اللّيبرالي وتقدّم دور فرنسا في المساعدة الاقتصاديّة ومواجهة الخطر الأصوليّ. فكانت النّتيجة أزمة أمنيّة خطيرة وانهيارًا في أسس الدّولة الوطنيّة الجزائريّة نتيجة حالة التّشرذم التّي ألمّت بالمجتمع الجزائريّ.

  • لماذا تلقّى الجزائريّون مشروع السّلم والمصالحة على أنّه ضرورة للحفاظ على الدّولة؛ لكنّهم فوجئوا لاحقًا بتفكّكها وغرقها في الفساد؟ 

كان مشروع السّلم والمصالحة وسيلة لضرب الفريق المهمين على النّظام السّياسيّ، الذّي أسمّيه أنا ب"الجانفريين" نسبةً إلى جانفي 1992. الذّين كانوا في موقع أقوى بعد التّخلص من الثّنائي اليمين زروال- محمد بتشين وجلاء موقفهم من أيّ بادرة مصالحة بين أبناء المجتمع. ثمّ ما كان يظهر من توجّهات حكم "أوليغارشي" (فضيحة مجمّع الخليفة). لقد كانت هذه الوسيلة ناجعة في تفكيك سطوة "جماعة الجانفرية" وحشرها إلى الزّاوية وضربها ضربة قاضية في سنة 2004 بعد فوز الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة بولاية ثانية بدعم من جهاز المخابرات. هذا النّجاح هو معالجة التّفكّك البنيويّ الذّي أصاب الدّولة الجزائريّة منذ الثّمانينات.

  • لكن لم يكن الأمر مصحوبًا بمشروع إصلاح سياسيّ؛ بل أدّى إلى العبث بالدّستور عام 2008 بفتح عهدات الرّئيس. هل ترى العكس؟

 كان يمكن أن يكون لذاك الإنجاز تأثيره الإيجابيّ الكبير لو تمّ تكريس إصلاحات سياسيّة يتقدّم المجتمع المدني مشهدَها لبناء نظام ديمقراطيّ. لقد برزت تشوّهات على هذه المعادلة بعد بروز توجّهات للحكم الفرديّ لدى الرّئيس المنتشي بنجاحه في إبعاد "الجنرالات" وبداية التّعافي الأمنيّ وارتفاع أسعار النّفط وبلوغها أرقامًا غير متوقّعة. الكارثة كانت بالاعتداء على الدّستور وتمرير ولاية رئاسيّة ثالثة تزامنًا مع تردّي صحّة الرّئيس واعتلال جسده بشكلٍ دائم، فتح المجال أمام ممارسات "مافياويّة" عنوانها تردّي الممارسة السّياسيّة واستشراء الفساد بشكل مدمّر.

عبد السلام فيلالي: الحراك هو إعادة مجرى النّهر إلى مساره الطّبيعي بمصالحة الدّولة مع المجتمع

خصّصت الجزء الأخير من بحثك لمسعى الحراك الشّعبيّ والسّلميّ. ما هي أهمّ الاستنتاجات التّي توصّلت إليها؟ 

الحراك هو إعادة مجرى النّهر إلى مساره الطّبيعي، بمصالحة الدّولة مع المجتمع. كلّنا يتذكر بفخر ذلك التّماهي بين مؤسّسات الدّولة والمجتمع خلال مسيرات الحراك. أنا مقتنع أنّ ديناميكيّة الحراك قد صارت واقعًا ومصيرًا ستسير على هديه الأجيال القادمة، بأن يتمّ الالتزام بمتطلّبات العمل الدّيمقراطيّ ودور المجتمع المدنيّ بشروط التّخلّص من أسباب تردّي الحياة السّياسيّة وانحطاطها وبناء دولة مدنيّة وفق ما هو معمول به في جميع أنحاء العالم، وخاصّة ما تعلّق بالفصل بين الذّات والموضوع في صياغة القوانين وعدم فرض الوصاية وتكريس الحرّيات. من هنا أدعو إلى أن يتشكّل نضال يفهم الحراك بصفته مسارات لا مسيرات فقط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار| سمير قسيمي: زاد الحراك أسئلتي وأوقفني على عبثية الوجود