18-فبراير-2020

الشاعر عبد القادر رابحي (فيسبوك/الترا جزائر)

"في التأثيث لفراغ القصيدة"، هو آخر إصدارات الشاعر والباحث الجزائري عبد القادر رابحي، الصادر مؤخرًا عن "الوطن اليوم" الجزائرية. ولئن كان رابحي في إصداراته السابقة، قد تناول قضايا تتعلّق بالهوية والتاريخ، فقد خصّص كتابه الجديد للشعر، وتناوله من خلال "مقاربات في التشكيل الشعري".

عبد القادر رابحي: لقد كانت معركة الأشكال الشعرية معركة فلسفية وجمالية بالأساس  

يتحدّث رابحي في حوار مع "الترا جزائر"، عن إشكاليات القصيدة المعاصرة، ويربطها بأسئلة الهوية والتاريخ، التي يتناولها من خلال النقاشات والسجالات التي يطرحها مع مختلف الفاعلين الثقافيين على السوشيل ميديا، حيث يعتقد أن "مشكلة الشاعر الحقيقية هي مع اللغة"، ويؤكّد بالمقابل أن "الهويّة هي المحفّز الباطن لتحريك عجلة التاريخ".

اقرأ/ي أيضًا: حوار | صبرينة قريشي: هزيمة الوطن حضاريًا هي هزيمة نكراء لفنّانيه

  • هل أصبح الفراغ في القصيدة الجديدة هو القاعدة؟ وهل يمكن فعلا تأثيثه؟

ثمّة إشكالات متعلقة بالشعر، حاولتُ إعادة طرحها في هذا الكتيب الذي أشرت إليه، وهي إشكالات قديمة لا تزال تثير جدلًا كبيرًا لدى الأجيال الجديدة من الشعراء في العالم العربي، وفي الجزائر خاصّة. تتعلق أساسًا بما يمكن تسميته اليوم بمعركة الأشكال الشعرية التي كانت دائمًا دافعًا جماليًا وفلسفيًا لتبرير الشعريات المتعاقبة عبر العصور، فهي تتجدّد وفقًا لما يطرحه كل عصر، من آفاق تخييل مرتبطة بالتطوّر الحاصل في بنيات الوعي الثقافي والحضاري لدى الشعوب، وكذا بالنسبة لكتابة الشعر في عصرنا الحالي.

لقد كانت معركة الأشكال الشعرية معركة فلسفية وجمالية بالأساس، وكانت تطرح في كل مرة نموذجًا مختلفًا حوله، ونقاشًا يمتح من واقع المساءلة الفكرية والثقافية، ويذهب إلى استقصاء ما قاله السابقون في القضية.

حاولتُ في ثلاث دراسات، وفي كتيب من حجم الجيب لا يتعدّى المائة صفحة، أن أستعيد هذه الإشكالات المتعلقة بقضايا الوزن واللغة والشكل، وعلاقتهما الحميمية بالكتابة الشعرية، وأن أبحث في علاقاتها المعقدة بالواقع الثقافي وبمدى تأثيرها في صياغة الذوق الشعري، وصناعة الأذن المتلقية الواعية، بمدى اندراج صورة القصيدة البصرية والسمعية في الواقع الاجتماعي والتاريخي لأمّة من الأمم، والواعية كذلك بمدى استيعاب سلّم التطوّر الحاصل في قاعدة التلقي عبر المراحل التاريخية.

إنها إشكالية قديمة جديدة، تستعيدها النخب الثقافية كلما حصل تغيّرٌ ما في هذا السلّم، وسارع إلى مناداة التصورات الجاهزة، للدفاع عما يعتقد البعض أنه تهديد للأسس القديمة التي انبنت عليها الكتابة الشعرية .

  • عن ثنائية الشعر والمعرفة، هل ما تزال "جدلية أبي تمّام/البحتري" مطروحة في عصرنا هذا؟ أم انتصر نموذج أبي تّمام؟

من ذا يستطيع أن يتصوّر وجود شعر بدون معرفة؟ وهل الشعر غير المعرفة أصلًا؟ لقد طرح الشعراء والنقاد القدامى، إشكالية كيف يستطيع الشاعر أن يختصر العالم في ما كان، ولا يزال يعتقد أنه القول النهائي، وهو قول الشاعر.. إنه القول الوحيد الذي لا يمكن أن يُقلّد، على عكس كل الفنون الأخرى.

بإمكانك أن ترسم لوحة لفنان كبير ويعترف العالم بكونها لوحة مقلّدة وتخلق قيمتها الجمالية المضافة هي كذلك. وكذلك الأمر بالنسبة للفنون الأخرى كالنحت والغناء والمسرح والسينما وغيرها من الفنون. وهذا ما لا يمكن أن نفعله في الشعر؛ لأننا لو فعلناه، فنحن لا ندخل في الإعادة والتكرار فحسب على عكس الفنون الأخرى، ولكن سيُعتبر سرقة، فـ (قفا نبك..) هي لامرئ القيس وحده وسيبقى له وحده تحيل إليه وجوديًا وتاريخيًا، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن تكون لغيره.

مشكلة الشاعر الحقيقية هي مع اللغة. ما طرحه الشاعر أبو تمام في عصره، لا يخرج عن إشكالية محاولة إعادة صياغة الوجود عن طريق اللغة، وليس التأريخ له فقط. إنه الإشكال نفسه الذي اعترض هايدغر، وهو يقرأ أشعار هولدرلين.

المعرفة، بما هي تجاوز فلسفي، هي ضرورة الشعر الوجودية التي بدونها لا ينبئ الشعر إلا عن فراغ. ومن هنا صعوبة التأثيث الذي ينقل العالم بالشعر إلى عوالم تخييلية لم تكن معروفة من قبل.

  • عبد القادر رابحي مهموم بأسئلة الهوية والتاريخ، وأصبح ينحو إلى "النقد الثقافي"، هل ضاقت بك المناهج الأخرى، وهل النقد الثقافي كفيل بالإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى؟

في الشعر، كما في الكتابة الخارجة عن الشعر، أعني الدراسات الأكاديمية أو المقالات، لا يمكننا الخروج عن إشكالية الهويّة والتاريخ والحداثة. إنه العالم نفسه الذي يستأثر بمشاغلنا الوجودية كما لو أننا نؤسّس للعالم لأوّل مرة.

إنها الأسئلة نفسها التي تؤرّق المبدع والشاعر، والمفكر والفيلسوف والسياسي وعالم الاجتماع في كل العصور. تصاغ هذه الإشكالات، وتُناقش وفقا لأدوات العصر الفكرية والعلمية والمنهجية. ذلك أنها كانت، ولا تزال، أساسًا محفزًا للصرتع التاريخي بين القديم والحديث، بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والجديد.

مسألة المنهج هي مسألة تقنية فقط، ما دامت هذه الإشكالات حاضرة في عمق ما يطرحه الإبداع الفكري والفلسفي من مشاكل متعلقة بمصير الإنسان وبحريته وبتاريخه.

العالم ليس بريئًا، ومجرد أن تغفل لحظة واحدة عن مصيرك ستكون مهدّدًا في مصيرك. ومن هنا صراع الهوية الذي يريد العديد من المثقّفين أن ينكروا دوره الفاعل في تحريك عجلة التاريخ.

العولمة لم تستطع أن تفرغ التاريخ من إشكالات الهويّة، بل على العكس تمامًا. لقد أعادت إثارتها من جديد بعد ما تبيّن أن الهوية هي المحفز الباطن لتحريك عجلة التاريخ وتغيير مصائر الشعوب.

لقد حاولت في كتاب (الهوية والتاريخ والحداثة) أن أنظر، بطريقة سجالية/سجالية - أي متحيّزة وواضحة - إلى هذه الإشكالات وكيف تقدّمها لنا الخطابات المُعولمة، في صورة مخالفة لحقيقتها التي تتناقض مع التاريخ.

ما الجدوى من أن أربح العالم وأخسر نفسي؟ وما الجدوى من أن أُسلِّم الأرض مقابل أن أعيش فقط؟ وما الجدوى من أن أنتصر في معركة الحداثة وأنهزم في معركة الوجود؟ وهل بإمكاني أن أنتصر بهما ولهما ومن أجلهما معًا، من دون أن أخسر نفسي وذاتي وتاريخي وهويتي؟ هل هذا ممكن؟ ولماذا هو غير ممكن الآن؟ إنها الأسئلة التي تستأثر بها الخطابات الثقافية في الوقت الراهن، ومن ضمنها النقد الثقافي، وهي أسئلة سابقة زمنيًا ومتجذرة في تاريخ الصراعات الحضارية، وطالما حاولت المناهج السابقة أن تجيب عنها بآلياتها الخاصّة بها.

ربما كان النقد الثقافي والدراسات الثقافية أكثر حدّية في مساءلة ما تركته المناهج الأخرى جانبًا، وفي محاولتها الحفر في ما أصبح معروفًا بالعوالم المضمرة، التي تركتها المناهج الأخرى عمدًا أو تناستها داخل الأنساق الإبداعية عمومًا.

  • بعيدًا عن الانغلاق الأكاديمي، تحاول الاقتراب من "فلسفة الواقع"، كيف توفّق بين هذا وذاك؟

الحقيقة أن إشكالات الراهن واقع مفروض على كل كاتب أو مبدع أو مثقّف في وقتنا الحالي. والمثقفون مجبرون بحكم الدور الفاعل الذي يفرضه عليهم الواقع كذلك، أن يشاركوا في النقاش المفتوح الذي أصبحت تُتيحه وسائل التواصل الحديثة. وربما أعطت هذه المشاركات صورةً للمثقفين الفاعلين غير الصورة المنزوية داخل الأسيجة الجامعية، المحدّدة سلفًا بالمنظورات الأكاديمية الجافة. ربّما تفطن المثقف إلى أن العصر عصر ثورة رقمية، تضاهي في خطورتها وفاعليتها ما أحدثته الثورة العلمية في عصر النهضة في أوربا. فلا غرابة في أن تجد العديد من المثقّفين يخوضون في قضايا يطرحها مصير الشعوب التي ينتمون إليها، والتي تشهد تحولّات جذرية في إعادة صياغة قضايا الهوية والتاريخ من منظورات جديدة.

ربما كان من الواجب، ومن هذا الباب بالذات، أن يتفاعل المثقف بإمكاناته، مع هذه القضايا في ما تطرحه المنابر الإعلامية من مساحات كتابة ونقاش.

ربّما كان دور المثقف في حدّ ذاته، في هذه النقاشات، محلّ نقاش إشكاليّ حادٍّ نظرًا لتلاشي قوّة تأثيره في الواقع، على الرغم من الفسحة الكبيرة التي أتاحتها له وسائل التواصل المعاصرة.

هل ثمة من تزييف آخر لدور المثقّف المعاصر، من خلال إعطائه حرّية المشاركة الواسعة بالنقاش الحرّ وإبداء الرأي في العالم الافتراضي، مقابل إبعاده عمدًا عن المشاركة الحقيقية في عالم الواقع؟ ثمّة توجسّات كبيرة من حضور الدور الفاعل للمثقف في الواقع. كما أن ثمة تخوفات كبيرة- على مستوى القراءة الفلسفية والاجتماعية لدور المثقّف- من هذا التغييب القسري للمثقّفين، عن صياغة الرؤى المستقبلية للواقع القريب والبعيد، والمشاركة الفعالة في صناعة الواقع المرتبط بحقيقة مصير الشعوب التي ينتمي إليها هؤلاء المثقّفون.

أتحدّث هنا عن المثقف في العالم العربي، خاصّة حيث تتهدّد الشعوب والدول مخاطر تاريخية ووجودية حقيقية. هل نحن في عصر (المثقّف الافتراضي)، بعد أن انتهينا منذ زمن من عصر المثقف العضوي؟

  • تكاد لا تتوقّف عن السجالات الثقافية من خلال أسلوب الرسائل، هل تقترح بديلًا عن "فراغ" شبكات التواصل الاجتماعي؟

ربما أعاد العالم الافتراضي أسلوب الرسائل من جديد إلى الواجهة، لكن بطرق جديدة تعتمد على سرعة كتابة الرسائل وسرعة وصولها، بعد أن كانت مهيمنة في فترات تاريخية سابقة.

إنّ فنّ الرسائل ليس جديدًا، وقد عرفته كل الحضارات، وقد كتب فيه العرب قديمًا أبلغ وأعمق ما كتبوه في المواضيع التي تناولوها. ولا يخفى علينا، ما تركه الفلاسفة والأدباء والأمراء والوزراء من رسائل هي الآن قيمة مضافة، في مختلف مجالات العلوم في التراث العربي القديم والحديث. ما يتيحه الجانب السّجالي في الرسائل، هو الخروج المتعمّد عن الخطة المدروسة والابتعاد المنهج الصارم والتركيز على العمق في تناول الموضوع، مع الاستئناس بالجانب الأخلاقي في ما تتيحه الرسائل من حميمية وصدق.

لقد حاولت في كتيب (الهوية والتاريخ والحداثة)، أن أعتمد على أسلوب الرسائل، لكي أطرح هذه القضايا من وجهة نظر حميمية وصادقة، من دون ادعاء الإلمام بكل جوانبها، وللقارئ الحكم عليها. لقد كان الهدف الحقيقي، هو طرح القضايا التي تطرّقنا إليها ومحاولة مناقشتها.

عبد القادر رابحي: ربّما لأننا لا نملك الإجابات، فنحن نُسارع إلى طرح الأسئلة

  • أخيرًا، متى يتوقف عبد القادر رابحي عن طرح الأسئلة؟

ربّما لأننا لا نملك الإجابات، فنحن نُسارع إلى طرح الأسئلة، على ما في الأسئلة من إجابات، أو محاولة البحث عنها أحيانًا.

 

قرأ/ي أيضًا:

المثقفون والفنانون الشباب.. روافد الحراك الشعبي في الجزائر

جدل في الثقافة.. وزارة للمسرح وأخرى للشعر؟