لا تختلف احتفالات الناجحين بشهادة البكالوريا كثيرًا عن احتفالات الجماهير بفوز المنتخب الجزائري، إذ يُصبح يوم الإعلان عن النتائج، حدثًا اجتماعيًا يشارك فيه أصدقاء الناجح وأبناء حيه وأقاربه، وينخرط الجميع في يوم إعلان النتائج في الاحتفال في الشارع.
تقول ياسمينة إنّها عاهدت نفسها وعائلتها أن تصبح مهندسة مباني وديكور وتساعد والدها البنّاء
تمظهرات الاحتفال بشهادة البكالوريا تحديدًا، يجعل من هذا الامتحان حدثًا اجتماعيًا طقوسيًا، إذ تصبح طرق الاحتفال به هستيرية في كثير من الحالات؛ فتستمرّ النسوة في إطلاق الزغاريد من الشرفات على مدار اليوم، وتتعالى أبواق السيّارات في الشوارع، وتشتعل السماء بالشماريخ والمفرقعات، وفي كثير من الأحيان يتولّى الناجحون مهمّة الاحتفال بسيّارات أوليائهم، وهو ما يظهر في قيادتهم المتهوّرة ومناوراتهم الخطيرة فور الإعلان عن النتائج.
سرعان ما تنخرط صحف جزائرية في هذه الأجواء، إذ غالبًا ما تكون عناوين الصحف في اليوم الموالي لإعلان النتائج متوقّعة، وتأتي على شاكلة "إغماءات ومحاولات انتحار بعد الإفراج على نتائج الباكالوريا".
الاهتمام الاجتماعي بشهادة البكالوريا وطريقة الاحتفاء بالناجحين، تتجاوز في كل مظاهرها عن الاحتفاء بشهادات دراسية أعلى مثل الماستر والدكتوراه، والتي في الغالب يكون النجاح فيها تحصيل حاصل بعد المرحلة الجامعية، فضلًا على ذلك، تؤثّر الاحتفالات العلنية بشكل مبالغ فيه، على نفسية الراسبين الذين يعدّون بمئات الآلاف، إذ لا تتجاوز نسبة النجاح بحسب إحصاءات رسمية معدّل 55 في المائة.
الأب المُلهم
هنا، تروي السيّدة سكينة، أم لسبعة أبناء من منطقة الرواشد بولاية ميلة شرقي الجزائر، قصّتة نجاح ابنتها ياسمينة، فهي أمٌّ لم يسعف الحظ أبناءها في دخول الجامعة، ولم تعرف طعم الفرح بنجاحهم، فأغلبهم اليوم بطالون، غير أن ابنتها صنعت الفرق، وحصلت على شهادة البكالوريا بعد أربع إخفاقات متتالية وهي في عمر التاسعة والعشرين.
لقد أدخلت الفتاة ياسمينة الفرح على أسرتها، وأصبحت اليوم تدرس وتشتغل في إحدى شركات الهندسة بأسطنبول، بعدما نجاحها في اختبار القبول في إحدى كليّات الهندسة المعمارية، تقول ياسمينة إنّها عاهدت نفسها وعائلتها أن تصبح مهندسة مباني وديكور، وتساعد والدها البناء الذي لا يكفي عمله غير المستقرّ على إعالة أسرته، مضيفة أنها حُرمت من التعليم لسنوات طويلة وأصابها الإحباط والاكتئاب، فكلمة فاشل كانت قاسية جدًا عليها على حدّ تعبيرها.
تعتبر الأخصائية النفسانية نبيلة بوجريو في حديث إلى " الترا جزائر" أنّ حالة ياسمينة هي واحدة من بين آلاف الحالات ممن لا يسلّط عليهم الضوء، ولا يلتفت إليهم لا المجتمع ولا الإعلام، موضّحة أنّ "تهنئة الناجح مفعولها طيّب، لكن الوقوف إلى جانب الراسب مفعولها سحري، وخصوصًا إن قام المجتمع بنمذجة الناجح بعد تجربة الفشل التي مرّ بها".
تُلفت بوجريو، إلى أن المجتمع الجزائري بات يكرّس فكرة ضرورة النجاح في البكالوريا، ويُسرف في الاحتفاء بالناجحين، وهو ما يُعطي انطباعًا أن التلميذ الراسب أشبه بمن أرتكب جريمة، وهذا في حدّ ذاته أمرٌ قاتل ويمكن أن يتحوّل مع مرور الزمن إلى عقد لا يحمد عقباها".
عودة بعد 18 سنة
أحصت وزارة التربية الجزائرية أزيد من 250 ألف راسب في شهادة البكالوريا في إحدى الدوارات السابقة، وهي أرقام مذهلة، ومخيفة في آن واحد، وهو ما يدفع إلى التساؤل حول التركيز على الفائزين دون الانتباه إلى مصير البقية؟.
سؤال طرحته الأستاذة الجامعية وهيبة بلهاني، المتخصّصة في علوم أمراض التواصل واللغة، مشدّدة في تصريح لـ "الترا جزائر" بأنها طالما دعت إلى تحفيز كل تلميذ فشل في امتحان، معتبرة أن كل الامتحانات متشابهة ولا ينبغي تهويل الأمر على حدّ قولها.
من يصدق أن هذه الأستاذة التي تحاضر اليوم في الجامعة، وتقدم يد المساعدة لمرضى التوحّد ومشاكل الكلام، هي تلك ابنة مدينة قسنطينة التي غابت عن الأعين بعد رسوبها في الدراسة، ولكنّها اليوم، فضّلت اليوم التخصّص في العلوم العصبية والمعرفية، لتساعد المصابين بأمراض اللغة والتواصل.
كان مسارها العلمي مفاجئًا لعائلتها، فهي التي أخفت عن الجميع خبر إعادتها إجراء امتحان البكالوريا بعد انقطاع عن الدراسة دام ثمانية عشر سنة، كلل بعدها بالنجاح والالتحاق بالجامعة، هنا، تعتبر المتحدّثة، أنّ ما حدث معها كانت اختبارًا حقيقيًا في الدراسة والحياة معًا.
اجتازت وهيبة الامتحانات أوّل مرّة في سنة 1991، وهي في فترة من أصعب الفترات التي مرّت بها الجزائر، فترة صعبة على حياتها أيضًا، إذ فشلت في تخطي تلك عقبة البكالوريا لمرّتين، وتُصاب بخيبة أمل كبيرة، تقول: "ما حزّ في قلبي تلك الورقة المكتوب عليه بين قوسين (راسبة)، لقد علقت بذهني إلى يومنا هذا، ودفعتي تلك الكلمة إلى التخلّي عن الدراسة نهائيًا".
انفصلت وهيبة عن التحصيل الدراسي إلى غاية سنة 2010، وتحصّلت على شهادة البكالوريا بمعدل يقترب من 13 من عشرين، وقتها لم تفكر قط سوى في علوم الأرطوفونيا، وهو ما كان لها، بعد نيلها شهادة الليسانس ثم شهادة الماستر ثم اختبار الالتحاق بقسم الدكتوراه، والآن تعكف على مناقشة أطروحة الدكتوراه في أمراض اللغة والتواصل،و في مقابل إسهامها الأسبوعي في دورات تدريبية للأسر والجمعيات، تهتمُّ بالمصابين بمرض التوحد والأطفال الذين يعانون من مشاكل في النطق.
تقول وهيبة:" انشروا قصّتي لتشحذوا همم النفوس اليائسة، فعدم نيل البكالوريا مرّات عديدة معناه أن الجامعة تناديك فلا تصمّوا آذانكم".
البداية فقط
"غريبة هي أمور الجامعة الجزائرية، الكثيرون يحصرونها في شهادة والبعض يرونها سعي متواصل للتحصيل داخل مدرجاتها ولكن خارجها أفيد وأكثر"، هذا ما يراه الإعلامي جعفر بن صالح، معتبرًا أن الجامعة ماهي إلا شغف الحصول على العلم، ولكن تنفيذه وتطبيقه فهو في الشارع وفي الحياة.
ارتأى بن صالح أن يُدرج مساهمته البسيطة عبر تدوينة فيسبوكية للتخفيف على الراسبين في شهادة الباكالوريا، حيث قال فيها إنّه أخفق أربع مرّات ولكنه اليوم يزاول وظيفته أستاذًا جامعيًا وكاتبًا إعلاميًا.
يروي المتحدّث، أنه عشية امتحان نيله لشهادة البكالوريا، ساعد أهله في حصد القمح في أرض العائلة، وأنه أراد مشاركة قصّته في صيغة جبر خواطر انكسرت بسبب الفشل في نيل الشهادة، على حدّ تعبيره.
يقول المتحدّث لـ" الترا جزائر" إن الفشل مرّة ومرتين وثلاث مرات وحتى عشر مرات ليس نهاية العالم، "المحاولة وحدها من يكشف إصرار أيّ شخص للوصول إلى الجامعة، ودراسة تخصص يحبّه"، موضحًا أنه دوّن ذلك فلا بد أن يجد التلاميذ ممن لم يتمكنوا من تخطي عتبة البكالوريا طريقًا آخر، لأنّ الحياة حسبه ليست الجامعة فقط.
كثير من الناجحين في شهادة البكالوريا قطعوا طريقًا طويلة محفوفة بالتعب والسعي
تتشابه قصص الكفاح، فكثير من الناجحين قطعوا طريقًا طويلة محفوفة بالتعب والسعي، مثلما هي قصّة مروان لغديري (42 سنة) من مدينة أدرار جنوبي البلاد، فهو لم يفز بشهادة الباكالوريا إلا بعد أن جرّب حظه لست مرّات، وفي مكل مرّة كان يتقبّل النتيجة ويعيد الكرّة من جديد، ولكنه لم يرضخ، فالفشل بالنسبة إليه هو تضميد جرح سابق، هنا، يقول في حديث إلى " الترا جزائر"، إنّ أدرار منطقة صحراوية شاسعة، علمته التحدّي والصبر وهو ما تعلّمه أيضًا من امتحان البكالوريا على حدّ تعبيره.