06-مايو-2022
شارع أودان بالجزائر العاصمة (الصورة: فايز نورالدين/أ.ف.ب)

فاجأت العمَّة الكُبرى رقية غيشي، أبناء شقيقها المتوفّي منذ أزيد من ثلاثين سنة بدعوتهم على غداء يوم عيد الفطر. الدعوة لم تكن متوقّعة خصوصًا وأن وفاة الأخ الوحيد شتّت الأبناء وفرّقتهم ظروف حياتهم اليومية والسعي وراء لُقمة العيش، بينما هي عاشت مرتحِلة بين عديد المناطق الجزائرية بحكم وظيفة زوجها، لكن بقيت غصّة اللمّة في بيت العائلة في قلبها، وأمنية بالكاد حاولت تحقيقها.

توارثت عائلات جزائرية كثيرة عادة الإبقاء على بيت العائلة مفتوحًا طيلة أيام عيد الفطر لاستقبال التهاني وإقامة الاحتفالات

منذ زمن طويل راودتها الفِكرة، بل كانت حُلمًاصعب التنفيذ خصوصًا في محاولة جمعهم في يوم واحد، وفي مكان واحد، وفي العيد المقدّس لدى المسلمين بعد صيام شهر الرّحمة والمغفرة.

تحقّقت الأمنية، وتمكّنت العمَّة الوحيدة لأبناء السي رشيد، أن تجمع شملهم، في مشروع تمّ التحضير له على قدم وساق، إذ تمكنت من جمع شمل الأبناء وأحفاد شقيقها تحت شجرة العنب والياسمين في الدّار الكبيرة التي تركها الأجداد، وحول مائدة مزينة بأشهى الأطباق وعلى رأسهم طبق الشخشوخة التقليدي، فضلًا عن حلويات العيد يزينها مقرود الكوشةوالبقلاوة، ولكن في لفتة لم تكن في برنامج الجميع، أدخلت العمّة السّرور على قلوب الجميع، جلست العائلة في فناء الدار الكبيرة، وبدأ كلّ واحد يتذكّر ذكريات الطفولة، وضحكاتهم تخلّلت الجلسة التي طالت إلى ساعة الفجر والسّحور.

محطة العودة

لا يختلف كثير من الجزائريين حول عادة لمّ شمل العائلة في بيت كبيرها، سواءً كان الجد والجدة، أو الأب أو الأخ الأكبر بعد موت الوالدين، إذ يولي الجزائريون اهتمامًا بهذا التفصيل المهمّ لدى قاع واسع منهم، ويحالون توريثه لأحفادهم.

وقال فيصل مرّاح لـ"الترا جزائر" أن الأعياد الدينية على وجه خاص والمناسبات والأفراح تزيد فرحتها وتتوسع إن دارت مراسمها بين أحضان البيت العائلي الكبير، " الذي منه خرجنا وإليه نعود" على حدّ تعبيره.

ولفت مرّاح (38 سنة) وهو موظف بشركة أشغال ومقاولات بولاية "الجلفة" غرب العاصمة الجزائرية، أنه يقضي كلّ أيام عمله في ولاية تبعد عن مسقط رأسه بولاية خنشلة بـ 790 كيلومترًا، غير أنه يفضّل أن يقضي الأعياد في بيت جدّه بمنطقة باباربولاية خنشلة، لأنه المكان الوحيد الذي يلمّ شمل العائلة ويحتفظ فيه بذكريات كبيرة.

يولي الجزائريون اهتماما بهذا التفصيل في أيام الأعياد، إذ تجتمع الأسر في بيت العائلة الكبير، وهي عادة تشترك فيها الكثير من العائلات وحتّى المجتمعات خاصّة منها العربية، إذ يرى البعض أن البيت الوحيد الذي يدخله الجميع دون استئذان هو بيت الأجداد.

عُنوان الفَرح والحُزن

لا توجد لمّة تُعوِّض لمّة الدّار الكبيرة، لدى الكثير من العائلات الجزائرية، ولا حنين إلا للدّار الكبيرة، كما قالت كريمة بولعراس لـ"الترا جزائر" موضحة أنها تحنّ للمّة دومًا، إذ هي " الفضاء الذي يضمّ تفاصيل سنوات الطفولة، وذكريات خطوات المشي الأولى، والولادات الأولى لأفراد العائلة، ومختلف الأحلام التي يحلمها الأبناء وهم صغارا"

كما وصفت محدثةّ الترا جزائر" أن الدار الكبيرة هي المكان والتاريخ، وهي الجدران التي تلملم الجراحات وتزفّ الأفراح، وتحتضن الأعياد والأعراس والحفلات وتلمّ أفرادها بعد الشّتات، وتكفكِف دموعهم".

العودة للدار الكبيرة أمرٌ متاح، في كل لحظة وفي كلّ توقيت، فهي الباب التي لا تغلق على أحد، بل لا تغلق بمفتاح، ويمتلك مفتاحها جميع أفراد العائلة، والدخول إليها كالمولود من جديد، أما الذي يبتعد عنها يبقى كأي مفقود إلى غاية توقيت العودة.

عُنوان الدَّار الكبيرة معروف للعامّ والخاصّ، تتوسَّط حيًّا أو شارعًا أو قرية أو مدينة، فيها كبرنا وفيها فرحنا وفيها حزنا، وإليها العودة دومًا.رغم التغييرات والتحولات الطارئة في مكونات البيوت الجزائرية إلا أن أثاث الدار الكبيرة غالبًا ما لا يتغيّر، إذ تحرص ربة البيت الاحتفاظ بكلّ ما تعلق بذاكرتها من ذكريات.

في هذا المضمار ترى السيدة زبيدة بن عبد الرحمن، 79 سنة أنها لا تقدر على فراق بيتها أو أثاثها وحتى الأواني القديمة تحنّ إليها ولا تستطيع تغييرها إلا إذا أصابتها الخدوش والصدأ، على حدّ تعبيرها.

أثاث الزمن القديم هو الأبهى والأجمل، كما قالت محدّثة " الترا جزائر" حيث لا تبالي بما هو عصري أو متجدّد، مضيفة" كم هي جميلة تلك المائدة التي توضع على الأرض، وذلك الوعاء النحاسي الذي يعود وجوده في البيت إلى يوم الزفاف، وما أجملها تلك المزهرية التي يوضع فيها ماء الورد المقطر، والسكرية النحاسية التي تستخدم لوضع السكر في السابق، كلها أشياء قديمة ثمينة، إنها من الزمن الجميل".

مكان وذكريات

يعتبر البعض أن لبيت العائلة الكبرى رمزية تختلف كثيرًا عن بيوت الأولاد والأحفاد مهما كان معمارها ومساحتها، فالبعض يراها مركز السكينة وتحتفظ بحميمة خاصة، بينما ينظر لها البعض بأنها منبع الولادة الأولى ومحطة النهاية.

لقد كانت الأسرة الجزائرية تركيبة ممتدة من الجد والأولاد والأحفاد، وأزواجهم، تجسدها روابط الدم والقرابة، كما قال أستاذ علم الاجتماع سمير عبد اللاوي لـ" الترا جزائر: موضحًا أن العودة للدار الكبيرة هو العودة للمنزل الواحد والشراكة الجماعية في الفضاء المكاني والحياة الاجتماعية برئاسة الأب الأكبر أو رئيس العائلة.

ويمكن الإشارة هنا إلى أن بعض العائلات في الجزائر توارثت عادة الإبقاء على بيت العائلة مفتوحًا طيلة أيام عيد الفطر، لاستقبال التهاني وإقامة الاحتفالات بمختلف الأطباق الشعبية، يشارك فيها الأقارب والجيران، مثلما ذكرت مليكة حدو من منطقة سيدي لعجال غرب الجزائر بـ"الترا جزائر" معترفة بقيمة المكان بقولها "بيت الجْدُود ما فيه حدود" على حدّ تعبيرها.

رغم التحولات التي تعرفها العائلة الجزائرية بسبب تطور المجتمع الجزائري، مازالت مسايرة للمثل القائل: "بيت العايلة إذا ماكليتش فيه تبات للدفا"

رغم التحولات التي تعرفها العائلة الجزائرية بسبب تطور المجتمع الجزائري، مازالت مسايرة للمثل القائل: "بيت العايلة إذا ماكليتش فيه تبات للدفا" أي أن بيت العائلة الكبيرة إذا لم تجد يه ما تأكل يإمكانك أن تنام دفيه دافئًا بلا خوف ولا قلق، وهو ما يفسّر عدم تخلي كثير من العائلات عن بيوت أجدادهم وعدم بيعها بعد رحيل الآباء الأوائل حيث يبقى متوارثًَا لاجتماع العائلة في المناسبات العائلية وإقامة الاجتماعات العائلية.