هل يستطيع باحث في الفلسفة أن يكتب رواية دون أن يقع تحت تأثير اللغة الفلسفية أو قراءاته الفلسفية المتعددة؟ إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة الحديثة، عرفناه بمؤلّفاته الفلسفية المهمّة، لاسيما كتاباته عن مارتن هايدغر، واليوم يفاجئنا بكتابة رواية "هالوسين" الصادرة عن منشورات "الجزائر تقرأ" العام االماضي.
تخيلت رواية "هالوسين" لإسماعيل مهنانة، وباءً ضرب شمال إفريقيا ليحوّل الناس إلى متعصّبين يدفعهم صوتٌ خفيٌ نحو الموت
قبل الشروع في قراءة الرواية، كنتُ سألتُ نفسي: ماذا يُمكن أن يضيفه باحثٌ في الفلسفة إلى الرواية؟ الأكيد أنّ الفلسفة لم تكن يومًا غريبة عن الأدب، بل أصبحنا نقرأ روايات عالمية أبطالها فلاسفة، على غرار رواية "عندما بكى نيتشه " لـ إرفين يالوم، أو رواية "علاج شوبنهاور " للروائي نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: قصص "أخبار الرازي".. هل يحكم الجنون العالم؟!
هل استطاع الروائي تغييب شخصيته الفلسفية عن العملية السردية؟ عند الانتهاء من القراءة، أعتقد بأنّ الروائي كتب لنا رواية متّزنة من حيث أنّها لم تسقط في المعالجات الفلسفية لقصّة متخيّلة كان موضوعها أقرب إلى الخيال العلمي، حيث تخيّلت وباءً من طبيعة مختلفة ضرب شمال إفريقيا ليحوّل الناس إلى متعصّبين يدفعهم صوتٌ خفيٌ نحو الموت.
إلى حدٍّ ما كأننا أمام الموضوع الأثير لأفلام الزومبي، التي تنطلق دائمًا من البنية السردية نفسها: وجود فيروس يُصيب البشر ويحوّلهم إلى وحوش، ليضطر الأبطال للبحث عن علاج ما قبل فناء الحضارة البشرية.
ومع كل ذلك، ضمّن الروائي بعض الأفكار الفلسفية، ولا أعتبرها عيبًا فنيًا بقدر ما هي إثراءٌ للنصّ السردي، خاصّة ما تعلق بموقف شخصيات الرواية من الدين ومن الصراع الحضاري بين الشمال والجنوب، أو موقفها من فكرة "الأصول".
ولعلّ المقاربة الأهم داخل الرواية كانت تصوّر الرواية لطبيعة هذا الوباء. وهو ما سنحاول الكشف عنه من خلال هذه القراءة.
وباء الأصول
هل هناك علاقة بين بحث الحوّاس -بطل الرواية- عن عن أصل الفيروس، وبين بحثه عن أصله (والده)؟ ما علاقة الأصول بالفيروس؟ ففقدان الحوّاس لوالده الذي هاجر واختفى، وقصّة الفيروس الذي أفقد الناس علاقتهم بماضيهم، وأكل ذاكرتهم، وصاروا خاضعين لصوتٍ داخلي يدفعهم نحو الهلاك، لا يُمكن أن تكون هذه المقابلة مجرّد حدث صدفوي في الرواية.
يلعبُ الزمن دورًا حاسمًا في رواية مهنانة؛ فقد اعتمد على تشظي اللعبة السردية إلى استرجاعات، بالعودة إلى ماضي شخصية الحوّاس، وإلى ماضي والده، ناهيك أنّ مفتاح فهم الفايروس هو بالبحث في أصوله القديمة، وهو ما دفع بالحوّاس للبحث عن كتابٍ قديم بعنوان " شهداء الكلام المجذوم" أّلفه راهبٌ إسباني يُدعى خيسوس دو ترينادا، يزعم بأنّه يمتلك الإجابة عن سؤاله.
يلتصق الماضي بالفيروس، كما أنّ الرواية حرصت على تشييد هذا الزمن على محطات تاريخية خاصّة جدًا، وهي التراجيديات الطبيعية والاجتماعية والسياسية التي ضربت تاريخ الجزائر المعاصر؛ من لحظة الإرهاب الدموي، إلى فيضانات باب الواد، وزلزال بومرداس، وأحداث الربيع الأمازيغي الأسود، وهي محطّات تاريخية وصفها في الرواية بأنّها خلقت البيئة المناسبة لانتشار فيروس "الهالوسين" مثلما تنتشر النار في الهشيم.
ذكرتني الرواية برواية أخرى لألبير كامو هي "الطاعون"، وهي الرواية التي كتبها لينتقد الفاشية التي كانت تزحف في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية، فقد رمز للفاشية بوباء خطير هو الطاعون أو "الموت الأسود" كما كان يُطلق عليه في العصور الوسطى. فالايديولوجيات الشمولية تشبه وباءً خطيرًا يطال البشر فيخرّب نظامهم المناعي، ويفتكّ بهم.
ضمن هذه الرؤية، تخيّل إسماعيل مهنانة وباءً أطلق عليه اسم "الهالوسين"، اجتاح شمال إفريقيا، ومن أعراضه الخطيرة إصابة المريض بفقدان الذهن على الربط الآلي بين الوقائع والمعاني، ودخوله في حالة من الهذيان، بحيث يكون تحت تأثير صوت داخلي يخرج من أعماقه، هو ما يوجّهه ويتحكّم في قراراته.
إذ نُدرك بأنّ هذا الوباء يُصيب الجهاز العقلي والنفسي، ما يجعله مرضًا نفسيًا وعقليًا أكثر منه مرضًا بيولوجيا، وهنا بالذات تكمن صعوبة العثور على طريقة للعلاج منه.
وفي مقابل البحث عن أصل الفيروس، كانت أمام الحوّاس مهمّة أخرى تتمثّل في البحث عن والده ربيع حساني المناضل الشيوعي السابق، ورئيس نقابة العمال المغاربيين في فرنسا، فقد هاجر واختفى بعد أن يئس من تحقيق يتوبيته الاشتراكية.
لعب الروائي على ثنائية الشمال/الجنوب من خلال التوزيع التالي: فالشمال يمثل الحضارة والتمدّن ومخابر البحث الطبّي؛ فهو يعمل كباحث متعاقد في مخبر البحوث حول الأوبئة في باريس، وهو على تواصل دائم بمخبر ايفانيسونس بكوبنهاجن. والجنوب الذي يمثل أرضًا للأوبئة الفتاكة، وللتخّلف، فحتى الطبيعة لم تكن رحيمة به. يحاول الحوّاس أن يلعب دور الوسيط بين الشمال والجنوب، بالبحث عن علاج للوباء، وأكيد أنّ هذا العلاج، إن وُجد، سيكون أوروبيًا، ممّا يعني أنّ نجاة الجنوب من الانقراض مرهون به.
هل الدين وباء؟
في إحدى القطارات المتجهة إلى الشمال، التقى الحوّاس بصحفي متقاعد يُدعى إيرفن غوتفريد، وقد وصفه بأنه شبيه بفرويد، اللقاء لم يكن صدفة عابرة، بل في نظري مهّد القارئ لتقبّل مجموعة من الأفكار حول "الهالوسين"؛ فهذا الصحفي متخصّص في شؤون الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بشكلِ عام، وكان مراسلًا لصحف وقنوات عالمية، مهتمًا بظاهرة الإرهاب العابر للقارات.
لقاء الحوّاس بشبيه فرويد (هل هذا التشابه كان بريئًا في سياق الرواية؟) كان مناسبًا لطرح أسئلة جوهرية حول الفايروس، خاصّة وأن إيرفن سأله عن علاقة "الهالوسين" بالإرهاب؟ هذا يعني أنّ ما يحدث في العالم الإسلامي من إرهاب قد يكون بسبب هذا الوباء، او على الأقل بسبب وجود علاقة بينهما.
بالنسبة للحواس، يظنّ بأنّ قصّة "الهالوسين" ضاربة في جذور المجتمعات الإسلامية، وهو ليس وليد المرحلة الحديثة. من هنا، تبدأ الرواية في منح إحدى عناصرها لتفسير "الهالوسين"، فقد ربطته بالمجتمعات المتديّنة، الأمر الذي يعني أنّ ثمة علاقة بين الدين و"الهالوسين".
يسترجع الحوّاس بداية ظهور هذا الوباء في الجزائر، حيث كانت الجزائر تحت رحمة الإرهابيين، حيث كان "الجميع يتوجّس الموت عند أوّل حاجز مزيف أو حقيقي"، وفي ذلك الزمن ظهرت أخبار عن انتشار وباءٍ خطير يحوّل الناس إلى أصوليين ومتعصّبين وإرهابيين. يقول الحوّاس: "ظهر الغثيان في آلجي بظهور فيروس الهالوسين"، علامة صحيّة أن تشعر بالغثيان لأنها تعني أن جسدك يرفض الفيروس ويقاومه".
الغثيان الذي يتحدّث عنه الحوّاس لا يمت صلة بالحالة التي يمرّ بها الجسد في حالة مرض، بحيث يرغب في عملية إخراج الآكل الفاسد من أحشائه، لكنه غثيان بالمعنى الفلسفي للكلمة (غثيان سارتر) الذي يعني الموقف العدمي من العالم بأكمله؛ بحيث تفقد الأشياء قيمتها الحقيقة، وتفقد الحياة معناها، وتصير مجرّد مسرحية عبثية. عدم الإكتراث بالعالم يمنح للإنسان، وفق تصوّر الحوّاس، القدرة على مقاومة فيروس "الهالوسين"، أو بالأحرى فيروس التعصّب الديني.
بعد بحث طويل ومؤرق، انتهى الحوّاس إلى نتيجة وهي أنّ "الفيروس هو هذا اللاشيء الذي ينخرنا جميعًا". إذ يرتقي موقف الحوّاس من "الهالوسين" إلى مستويات من التجريد الفلسفي، وكأنّ الوباء هو حالة ميتافيزيقية بالأساس، وربّما هذه هي طبيعته الحقيقية في الرواية.
كما أنه اكتشف بأنّ الوباء يتنقّل عبر الكلام، ما يجعل المجتمعات الشفوية أكثر عرضة له: "إنّ المجتمعات القديمة كانت أكثر عرضة للفيروس لأنها لم تكن مجتمعات فهم بقدر ما كانت مجتمعات خضوع. كانت تخضع لكلام بدون أية محاولة للفهم لأنّ الكلام نفسه كان يمنع الفهم ويعتبره خطيئة كبرى، يبدو أنّ الفهم ظاهرة حديثة انتشرت بانتشار الديموقراطية وبرامج الأمية".
إنّ التفسيرات التي قدمها الحوّاس للوباء تكشف عن أنه من طبيعة أنثروبولوجية، ونفسية واجتماعية، فالمجتمعات التي لا تفكّر، التي تخضع للكلام دون فحصه أو فهمه هي مجتمعات هالوسينية. لهذا يستقر الوباء في كلام المريض، ويتوغّل في لغته.
هذه المجتمعات المصابة بهذا الوباء هي التي تصالحت معه، واعتبرته مظهرًا طبيعيًا فيها، على النحو الذي جسّدته شخصية عمر، إمام الإقامة الجامعية، الذي ادعى القدرة على التواصل مع الوباء، وفهم لغة المرضى، بل والتحكّم فيهم.
كان عُمر -السلفي- يعتبر الفيروس مجرّد وجهة نظر لابد من تقبلها، لهذا اقترح التصالح معه. ومن جهة أخرى نظر إليه بوصفه نعمة إلهية. استطاعت خطب عمر التي كان يلقيها على مريديه، الذين كان عددهم يزداد يوما بعد يوم، أن يحول "الهالوسين" إلى قضيّة للتفاوض مع السلطة لأجل الاعتراف به، مقابل أن يضمن عمر وأتباعه لها شرعية الاستمرارية في الحكم.
إلى هنا، تحوّل الفايروس إلى مشكلة سياسية بالأساس. ألا نُدرك هنا قضيّة محورية، نبّهت إليها الرواية، وهي أنّ السلطة في الجزائر حوّلت كل القضايا المصيرية إلى مسائل سياسية، حتى إذا تعلّق الأمر بوباء؟ هل تستطيع السياسة تقديم حلول لكل معضلات الإنسان؟
توصّل الحوّاس إلى هذا الاستنتاج بأنّ "الهالوسين" ليس ظاهرة بيولوجية، بل ينبغي البحث عنه في الأنثروبولوحيا أو في التحليل النفسي أو في التاريخ. إنه وباء من طبيعة ثقافية بالأساس، لأنّه يصيب الجهاز النفسي والعقلي للإنسان، ويصيب المجتمعات الشفوية، ويتنقل عبر الكلام، ويعدي من خلال اللغة، وأصوله لها علاقة بمجتمعات قديمة ورثت قيم الخضوع بدل الفهم.
لقد اكتشف الحوّاس أنّ صديقته اليهودية إيمي بدأت تهتم بالدين الإسلامي، فأصبحت تسأله كثيرًا عن تاريخ الإسلام، وعن حياة النبي محمد، وعن طقوس العبادة والمعاملات في هذا الدين الذي أخذ يثير فضولها يوما بعد يوم. قصّة الحوّاس مع تحوّلات إيمي جاءت في سياق تمثيلي لمراحل تحوّل الذات من دين إلى دين، وهي الأعراض نفسها التي تصيب الإنسان المصاب بـ"الهالوسين".
في الأخير ترحل إيمي عن الحوّاس، بعد أن ارتدت الحجاب، والتزمت التزامًا كاملًا، ليكتشف بعدها أنّها موجودة في سورية، في قلب الحرب السورية. لماذا يكون مآل المتشدّد دينيًا هو الهجرة إلى مناطق التوتّر والحرب؟ إنه صوت "الهالوسين" الذي يدفع بالناس نحو خيارات الموت.
إن من أشدّ أعراض "الهالوسين" هو أن الشخص المصاب به ينسى ماضيه، وينسى اسمه (في حالة إيمي التي غيّرت اسمها بعد إسلامها)، وينسى أسماء الأشياء، وينسى الأمكنة والأشخاص. بل إنه يطال حتى اللغة نفسها، بحيث يؤدّي الفيروس إلى إعادة تسمية كل شيء، أي إعادة تشييد العالم من جديد. لقد ساهم "الهالوسين"، في انهيار العالم القديم، وهو ما استغلته السلطة لصالحها.
في الأخير، لم يتوصّل الحوّاس إلى معرفة حقيقة الوباء، لكنه في المقابل وصل إلى مبنى "فرانسيس جوليفال" حيث يقيم فيه والده الذي فقده منذ سنوات طويلة، ليكتشف بأنّ هذا المناضل الشيوعي قد فقد عقله بعد سنوات من التشرد في باريس. لكن، ما الذي حدث للحواس بعد أن اكتشف والده؟ لم يحدث أي شيء سوى انفتاح شقوق من جدار الذاكرة، كأنّ اللقاء بالوالد لم يكن إلاّ طريقة لممارسة حزن عابر، في الوقت الذي أصبح "الهالوسين" منتشرا في كل مكان.
النهاية المفتوحة في رواية "هالوسين" تعني أنّ وباءً من طبيعة فلسفية ونفسية وفكرية يصعب إيقافه بالسبل العلمية
أتخيّل أنّ النهاية المفتوحة، تعني أنّ وباء من طبيعة فلسفية ونفسية وفكرية يصعب إيقافه بالسبل العلمية، فالعملية أعقد من ذلك، والمستقبل يقف في الرواية مثل صورة معتّمة.
اقرأ/ي أيضًا: