22-سبتمبر-2019

محطة المسافرين البريّة "كبار معطوبي حرب التحرير" في العاصمة (الصورة: موقع شركة سوغرال)

يستفيق الطفل ياسين من نومه، على صوت نادل المقهى وهو يباشر عمله الصباحي، بأحد مقاهي محطّة نقل المسافرين البريّة "كبار معطوبي حرب التحرير" في العاصمة. بدا منزعجًا من صوت صناديق المشروبات الغازية التي يسحبها النادل على الأرض نحو المحلّ، فالاستيقاظ على وقع أحذية العابرين، أو على صوت عمّال محطّات المسافرين، كان ضريبة يومية، يدفعها كلّ من يفترش أروقة هذا المكان.

لا يعرف الطفل ياسين، الذي يبدو أنّه في السادسة من العمر، شيئًا عن عمره أو تاريخ ميلاده 

لا يعرف الطفل ياسين، الذي يبدو أنّه في السادسة من العمر، شيئًا عن عمره أو تاريخ ميلاده أو حتى عائلته، يشيح بعينه طالبًا مساعدته في الحصول على وجبة إفطار، فقد بدا أنّ الجوع قد نال منه، يرتشف كوب حليب مضافًا إليه قليل من القهوة، يتناوله مع قطعة خبز بالمربّى، كما هي عادة الجزائريين في إفطار الصباح، وهو يُجيب عن سؤال متعلّق بالمكان الذي جاء منه، "لا أدري من أين جئت، بعض الناس يقولون لي إنّني من ولاية برج بوعريريج، وآخرون يقولون إنني من ولاية سعيدة"، يستدرك المتحدّث قائلًا "لماذا تسألينني؟".

اقرأ/ي أيضًا: النقل المدرسي في الجزائر... همّ الطلاب قبل الدرس

"خرّوبة".. عائلة أخرى

كانت هذه إجابة متوقّعة من طفل يعيش بين أروقة محطّة "كبار معطوبي حرب التحرير" أو "خرّوبة" كما يُطلق عليها، أحيانًا يفترش الأرض، وأحيانًا أخرى يتكئ على جدار من جدران تلك المقاهي المتراصفة في الطابق الأرضي، يستطرد إنّ "هذه المحطّة آمنة، ويتوفّر فيها الطعام، فغالبًا ما يجود المسافرون عليّ بالمال أو بالطعام".

في مثل هذا العمر، لم يعرف ياسين مقاعد الدراسة، وهو الذي استقرّ في العاصمة منذ سنوات فقط، وجد ضالته في محطة المسافرين ليلًا، بعدما قضى حياته الماضية في التسكّع من مكان إلى آخر.

 لم يعرف طعم نوم على السرير منذ سنوات، ولم يشرب قهوته الصباحية مثل بقيّة الأطفال في البيت العائلي. كان يعيش حياة التشرّد في شوارع المدن، متنقّلا بين ولايتي بومرداس والجزائر، يهيم يوميًا مشيًا على الأقدام في الأسواق الشعبية، أحيانًا يضطر إلى السرقة، وأحيانًا أخرى يجود عليه المارّة بالقليل من الأكل، إلى أن استقرّ به الوضع في هذا المكان.

يُعلّق ياسين، وهو يُشير إلى المارّة المتنقلّين بين شبابيك التذاكر "هذه عائلتي"، وهو الذي عاش متنقلًا بين أحياء المدن بلا مأوى، هاربًا من أعين رجال الشرطة، حتى يتفادى نقله إلى إحدى دور رعاية الأطفال المشرّدين.

مكان آمن

يعرف مستخدمو هذه المحطّة البرّية، التي تُعتبر مركز عبور إلى كلّ ولايات الوطن، الثماني والأربعين، أنّ المكان صار مأوىً لكثير من المشرّدين، ممن لفظتهم ظروف الحياة، فهي فضاء آلاف المسافرين يوميًا، وُيمكن لأيّ شخصٍ أن يتسلّل إليه دون أن يسألك أحد أين تذهب؟ هنا، تقول الشابة ثريّا (31 سنة) لـ "الترا جزائر" إن المحطّة مكان مغطّى ودافئ في الشتاء، وبارد في الصيف، لتوفّرها نظام خاصّ بالتهوية والتدفئة والتبريد، "تلتقي فيه كل الوجوه من مختلف الولايات، ولا يعرفك فيه أحد".

قصّتها مؤلمة جدًا، وكان من الصعب أن تثق في محدّثها، خوفًا من أن ينتشر خبرها ويبحث عنها أهلها، على حدّ قولها، فهي تعترف أن "من يدخل محطّات السفر، فهو دون هويّة، فلا أحد يشير إليك بالبنان، أو يتعرّض إليك بالإهانة، فالجميع هنا مسافرون منشغلون بأمورهم الخاصّة".

قبل سنوات، كانت ثريّا شابّة طموحة، تحبّ الحياة، رفضت أن تذعِن لمعاملة عائلتها، فزوجة والدها أرادت ربط قرانها بشيخ طاعن في السنّ بعد أن توفيت أمّها، فلم تجد خلاصًا من هذه المشكلة إلا في ترك بيت العائلة، وهي التي صبرت على كل إساءات زوجة أبيها، على حدّ تعبيرها.

تركت ثريّا بيتها العائلي، الواقع في أحد المناطق القريبة من ولاية عين الدفلى غربي البلاد، حملت حقيبتها وقصدت ولاية البليدة، ومنها إلى العاصمة، لم تجد مكانًا يأويها رغم أنها بحثت كثيرًا. حاولت العمل خادمة في البيوت، لكن لم تجد من يستأمنها، وهي اليوم تقيم في هذه المحطة، تقول المتحدّثة، "أفضّل أن أبقى هنا، على أن أعود إلي البيت العائلي، وتحمّل قساوة أهله".

تجذب محطة "خروبة"، فئات كثيرة من المشرّدين والمتسوّلين، باعتبارها فضاءً يتوفّر على مطاعم ومقاهٍ وأماكن للجلوس، فضلًا عن أكشاك الرحلات الداخلية نحو معظم الولايات الجزائرية، فهي بالنسبة لمن هم في مثل حالة ثريا، مكان آمن لقضاء الليل.

لقمة العيش

على خلاف ذلك، وجد البعض في المحطّة البرّية التي تقع في قلب العاصمة، فرصة للحصول على لقمة العيش الكريم، فالشاب عبد الهادي (32 سنة)، القادم من منطقة بوسعادة ولاية المسيلة الداخلية، وهو يتحدّث إلى "الترا جزائر"، يعترف أنّه حصل على وظيفة هنا بعد رحلة طويلة للبحث عن عمل.

 يقول المتحدّث، إنّه "بعد أربع سنوات من رحلة البحث عن وظيفة، عقب تخرّجه من كليّة الاقتصاد بالعاصمة، التقى بزميل له في الدراسة، عرض عليه العمل في مطعم بالمحطّة كنادلٍ، والمبيت في زاوية من زوايا المطعم الصغير".

 لقد أصبح هذا المكان هو عالمه الوحيد، يلبّي مطالب الزبائن نهارًا، ويسكن إليه ليلًا، وذلك لعدم مقدرته توفير تكاليف الإيجار. يعلّق عبد الهادي بأن العالم خارج هذا المكان لا يعنيه منذ التحاقه بالعمل في هذه الوظيفة.

يحلم عبد الهادي بأن يطلق مشروعه التجاري الخاص، معبّرًا عن أمله في مواصلة جدّه وكدّه لتحقيق طموحه، بعدما قطع حبل البحث عن وظيفة تناسب تخصّصه، سواءً في مؤسّسات عمومية أو خاصّة، على حدّ قوله.

لقمة العيش تفرض على البعض تحمّل عبء الابتعاد عن الأسرة، والصبر على عملٍ يوفّر بضع دنانير لصاحبه، فهذه تكاليف الخبزة الحلال، يقول الشاب سيد علي (41 سنة) في حديث إلى "الترا جزائر"، إذ يقضي هذا الشاب ليلته أمام شبابيك إحدى الوكالات السياحية، بالقرب من محطّة المسافرين الشرقية، بولاية قسنطينة شرقي البلاد، بعد يوم عملٍ شاق، يقضيه في حمل حقائب المسافرين، أو تنظيف المقاهي والحافلات، مقابل مبلغ زهيد.

تظلّ محطّات المسافرين في مختلف مناطق الوطن، ملاذًا آمنًا لكثيرين ممن تضيق بهم فضاءات الحياة

تظلّ محطّات المسافرين في مختلف مناطق الوطن، ملاذًا آمنًا لكثيرين ممن تضيق بهم فضاءات الحياة، وتتسّع لهم حقائب المسافرين، يلتقون بآلاف العابرين يوميًا، ويقاسمونهم ساعات الانتظار الطويلة. يرحل الجميع، ويبقى سكّان محطّات المسافرين عالقين في الزمن، في انتظار رحلتهم التي يبدو أنّها لن تأتي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يحيي قطار تونس-الجزائر مشروع قطار "الوحدة"؟

الحافلة في الجزائر.. عالم من ثلاثين مقعدًا