يعني مصطلح "التويزة" في الثقافة الشعبية الجزائرية تعاون الجماعة على مساعدة الفرد، إمّا بالمال أو بالجهد العضلي، لتشييد بيت أو حرث أرض أو جمع محصول أو شراء غرض تستدعيه حاجته إليه. وللنساء أيضًا "التويزة" الخاصّة بهن، كأن يساعدن إحداهن على إعداد كسكسي العرس، أو إتمام منسوج معيّن، أو تزيين البيت.
تتخذ التويزة، تعاون الجماعة فيما بينها في الثقافة الشعبية الجزائرية، صورًا جديدة ويساهم في تطورها اعتماد مواقع التواصل الاجتماعي
وقد تتعدّى أشكالُ المساعدة صالح الفرد إلى الصالح العام، كإصلاح طريق أو بناء مرفق أو تشجير أرض أو حفر بئر، فتكون مشاركة الجميع، في هذه الحالة، غير اختيارية بالنسبة للأفراد، إذ يترتّب عن تأخر أحدهم عنها ما يسمّى شعبيًا بـ"الخطيّة"، وهي غرامة مالية أو وليمة تفرضها الجماعة عليه.
لفتت هذه الرّوح التضامنية الجزائرية انتباه المنظّر الشيوعي كارل ماركس حين نزل للاستشفاء في مدينة بسكرة، 400 كيلومترًا إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، عام 1882، فعبّر عن انبهاره بها في أكثر من رسالة أرسلها إلى رفيقه فريديريك انجلز، قائلًا له إن الجزائريين يطبّقون روح "البيان الشّيوعي"، الذي أصدراه معًا، من غير أن يسمعوا به.
لقد لعبت روح التضامن بين الجزائريين دورًا حاسمًا في الحفاظ على حياتهم، في ظلّ حرمان استعماري مبرمج عاشوه ما بين سنتي 1830 و1962. وفي أن تقف ثورة التحرير على قدمين صلبتين، 1954 ـ 1962، إذ كانت عبارة "الفرد للجماعة والجماعة للفرد" سلوكًا يمارس في الواقع، لا مجرّد شعار يُرفع في اللافتات.
اقرأ/ي أيضًا: التطوع ملاذ الموريتانيين من السياسة
ظلّت الأنماط التقليدية في التضامن سائدةً في الفضاء الجزائري، إلى غاية السنوات الخمس الأخيرة، "حيث كان لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي دور حاسم في خلق انزياحات كثيرة على مستوى التفكير والسلوك، منها مفهوم التضامن نفسه وطرق ممارسته"، يقول قادة زاوي أحد المدوّنين الأوائل في الجزائر.
يشرح محدّث "الترا صوت" فكرته: "تفرّغ الجزائريون في السنوات الأولى من ظهور "فيسبوك" لاكتشاف أنفسهم، في ظلّ القطائع المختلفة، التي كانت تحول بينهم وبين أن يعرفوا بعضهم، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة، ثمّ تفرّغوا في السّنوات الخمس الأخيرة، بعد تجاوز فترة الانبهار بالمنبر الجديد، إلى خلق أنماط جديدة لممارسة روحهم المدنية، يأتي ابتكارُ طرقِ تضامنٍ مختلفةٍ في مقدّمتها".
في السّياق، يقول الصّحفي عبد الله بن مهل لـ"الترا صوت": "الجزائريون ملّوا من تلاعبات قطاع واسع من الجمعيات الخيرية، "فقد اكتشفوا أن كثيرًا منها تأسّس لأغراض شخصية، ولتبييض الصّورة والمال، لصالح شخص من الأشخاص أو حزب من الأحزاب، وما هو نزيه منها يشتغل في مواسم معيّنة، مثل شهر رمضان والأعياد والدخول المدرسي". يضيف: "لذلك شكّل ظهور شباب "ناس الخير"، بصفتهم واحدة من ثمار التواصل عبر "فيسبوك"، بحفاظهم على عدم انتمائهم لجهة ما، وتوسيعهم مفهوم التضامن إلى حقول أخرى، حدثًا اجتماعيًا في البلاد".
لقد كانت حملات التضامن، يقول عبد بن مهل، حكرًا على الدّوائر الحكومية والحزبية والجمعوية، بكل ما يترتب عن ذلك من خضوع الفعل الخيري للابتزازات المختلفة، فصار على يد شباب فيسبوك الجامعيين والفنانين والنشطاء الحقوقيين فعلًا إنسانيًا صرفًا، وسلوكًا حضاريًا يؤسّس لوعي جديد، في ممارسة المجتمع المدني لواجباته ومهامّه المنوطة به.
كانت حملات التضامن في السابق حكرًا على الدوائر الحكومية والحزبية والجمعوية، بكل ما يترتب عن ذلك من خضوع الفعل الخيري للابتزازات
بات كافيًا في الجزائر، أن يعلن محتاج من المحتاجين إلى مساعدة مالية، لإجراء عملية جراحية مثلًا، في الدّاخل أو الخارج، لأن يتلقّف شباب فيسبوك النداء، ويحوّلوه إلى قضية رأي عام، تحت شعار "كلّنا فلان". وسرعان ما تنتقل عمليات التضامن معه من الافتراضي إلى الواقع، فيتطوّع مئات الشباب في المحافظات الثماني والأربعين، لجمع التبرّعات في حصّالات تحمل صورة المعني، فيما يلبسون هم قمصانًا عليها صورته واسمه عادة.
اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني في مصر..صراع الدولة والمواطنين
في القطار الرابط بين مدينتي الثنية والجزائر العاصمة، كان أربعة شباب جامعيين يطفون على الركّاب من غير أيّ ضجيج، فشعار "كلنا أمين" المطبوع على قمصانهم البيضاء، وصورته المطبوعة على الحصّالات، وتبنّي قضيته في فيسبوك، عناصر كافية للفت الانتباه إلى وجودهم. يقول أسامة، طالب هندسة مدنية: "لقد تجاوزنا منطق الصّراخ في جمع المال، إما من باب التسوّل أو التضامن. فنحن جيل الصّورة تفكيرًا وممارسةً".
سألناه عن مدى تفاعل الجزائريين مع هذا النّوع من التضامن، فقال: "العبرة في هذا المسعى ليست بكثرة المتبرّعين، بل بكثرة المتطوّعين لجمع التبرّعات، فحسب معلوماتي يوجد 925 متطوّعًا على المستوى الوطني، لجمع مبلغ 70 ألف دولار أمريكي، تتطلّبها العملية الجراحية، التي يحتاجها الشابّ أمين في فرنسا، وهو مبلغ يصبح بسيطًا مع عدد المتطوّعين".
آخر عملية عرفتها الجزائر من هذا النوع، خلال تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تعلّقت بالفنان المسرحي بلال بن زويكة، من مدينة وهران، 500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة. يقول الممثل أمين ملّاح إن بلال أجرى عملية جراحية في الجزائر العاصمة لاستئصال ورم خبيث لكنها فشلت، ممّا حمله على اللجوء إلى تركيا، حيث وجد نفسه مطالبًا بمبلغ يقترب من 100 ألف دولار أمريكي، "وهو مبلغ خيالي بالنسبة لشاب يعيش على ما يُتاح له من فرص قليلة في التمثيل".
"حوّل أبناء حيّه القضية إلى فيسبوك، ثم نقلها بعض الفنانين إلى القنوات الفضائية المستقلّة"، يقول أمين ملاح لـ"الترا صوت"، فاستطاع أن يجمع المبلغ خلال خمسة أيّام لا غير. لقد كانت مشاهد إنسانية عميقة ومؤثّرة. شباب متطوّعون يجوبون الشوارع والمحالّ التجارية والأسواق والحدائق والساحات العامّة ووسائل النقل، ومحسنون يعطون من غير أي تردّد أو تشكيك أو تعليق على العملية، ما عدا الدعاء للمريض وللمتطوعين.
ولفت ملّاح الانتباه إلى أنه من أوجه التضامن المرافقة في قضية بلال بن زويكة تبرّع نخبة من المسرحيين بعائدات العروض. يقول: "إنها فرصة للفنّان الجزائري لأن ينخرط بشكل موسّع في مسعى الخير، بعائدات عروضه، وباستغلال اسمه في الترويج للقضية الإنسانية المتبنّاة".
اقرأ/ي أيضًا: