ما يزال قرار غلق جريدة "ليبيرتي" الناطقة بالفرنسية وإيقافها عن النشاط نهائيًا من طرف مالكها رجل الأعمال يسعد ربراب، يصنع الحدث في الشارع الجزائري وفي الصحافة المحلية والعربية والعالمية، ولدى المنظمات الحقوقية وفي الساحة الإعلامية والسياسية، إضافة إلى مواقع التواصل التي عجت بالعديد من ردود الأفعال التي جاءت في أغلبها رافضة ومندّدة بهذا الحدث الغريب الذي اعتبره كثيرون بمثابة "الاغتيال" لصوت مهم من أصوات الصحافة المكتوبة في الجزائر.
كريم كبير: جريدة "ليبيرتي" تمتلك تاريخًا حافلًا ومشوارًا نضاليًا امتد على مدار 30 سنة تخللته معارك كثيرة للدفاع عن الحريات الفردية والجماعية في الجزائر
لعل الغريب في هذا قرار غلق الجريدة، هو القرار الذي لا ينم كما يبدو عن أية أزمة مالية كانت أو سياسية قد يواجهها هذا الصرح الإعلامي حسب العديد من المتابعين للشأن الإعلامي، لأن مالك المؤسسة يسعد ربراب كان قد قرر وبشكل مفاجئ ونهائي -حسب ما صُرِّح به سابقًا- إغلاق هذا المنبر، ما رآه البعض بمثابة خطوة لمحاباة للسلطة ولكسب رضاها.
مع ذلك، فإن هذا الغلق قد تسبب في إحالة الكثير من الصحافيين والإداريين على البطالة رغم بعض التعويضات، في مجال يعاني فيه العديد من عمال وصحافيي الجرائد المكتوبة بالأصل في الجزائر من الشح المادي وقلة الدعم ومصادر الدخل والإشهار، إضافة إلى عزوف إداراتها عن التوظيف ومنح الرواتب، أو اللجوء إلى استغلال هؤلاء أحيانًا بشكل مجاني لعدة أشهر، علاوة على مشاكل التضييق على الحرّيات التي تهدد أيا منهم بالسجن في أية لحظة بسبب مقال ما.+
رسالة يسعد ربراب
عقب هذا القرار، وبعد ما ترتب عنه من ردود أفعال رافضة، آثر يسعد ربراب أن يكتب رسالة في آخر عدد صادر منها ليوم 14 نيسان/أفريل، حيث خاطب فيها العمال والصحافيين، إضافة إلى الرأي العام، قائلًا إنه يتفهم مشاعر الرفض والاحتجاج التي عقبت قراره ذاك، وأرجع أسباب الغلق إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجه الجريدة مثلها مثل معظم الصحف المكتوبة، ومدى الخسائر التي تتكبدها هذه المؤسسات جراء العزوف عن اقتناء النسخ الورقية وتراجع المقروئية واللجوء إلى المنصات الإلكترونية، وأن الجريدة تعاني منذ مدة من خسائر جمة في التوزيع إضافة إلى قلة الإعلانات.
أكد ربراب في نفس الرسالة بأنه وضع لمجمع "سيفيتال" خطة وتوجها جديدًا يعلن عنه قريبا نظرًا لانسحابه الشخصي من الحياة العملية بسبب عامل السن، ما جعله يعتمد انسحابًا فعليًا بعد مشوار طويل مما أسماه بـ"الجهود والتضحيات".
قدم ربراب تحية إلى المثقفين، ورجال ونساء السياسة الذين دعوه إلى الإبقاء على الجريدة، وأكد أن هذه اليومية كانت بمثابة مغامرة جميلة، مثمرة وغنية بالنسبة لجميع من ساهموا في تطويرها، جريدة عملت على الدفاع عن الحريات وعلى تقديم المعلومة الدقيقة لأكبر عدد من جمهورها الكبير، كما وجه تحيته لأجيال القراء التي واكبت الجريدة وكانت وفية لها، وكانت سببًا في وجودها واستمراريتها، إضافة إلى أجيال متعاقبة من العمال والصحافيين الذين واكبوا المهمة الشاقة لإخراج هذه الصحيفة يوميا طوال تلك السنوات، وترحم على أرواح ضحايا الإرهاب من عمالها، والمسجونين جراء ما كتبوه في الجريدة.
هل تشفع هذه الرسالة ليسعد ربراب هذا الاغتيال في حق يومية "ليبيرتي"؟ وهل كان من الضروري فعلًا أن ينهي حياة هذا المنبر ويوقف العديد من الأقلام ليحيلها إلى المجهول دون أن يرسم أي خطة مستقبلية قد تنتقل بالجريدة إلى نسخة إلكترونية نشيطة بنفس الروح ونفس الطاقم، إضافة إلى طاقات شبابية متجددة تتكفل بشق التكنولوجيا والتطوير الإلكتروني لهذا المنبر ؟
هل هنالك فعلا ما يبرر توقيف أي صرح إعلامي بشكل ارتجالي غير مبرر في زمن تتناقص وتشحّ فيه يوما بعد يوم منابر التعبير الحر والدفاع عن حقوق الشعب وحرياته في هذا البلد؟
من قلب الجريدة
من بين أبناء جريدة "ليبرتي"، خصنا الصحافي كريم كبير بحديث لـ"الترا جزائر"، حيث صرح أن خبر الغلق كان بمثابة مفاجأة محزنة جدًا وغير متوقعة لهم بصفهتم صحافيين، خصوصًا وأن الشركة لا تعاني مشاكلًا من الناحية المادية حسب علمه، وأكد أن غلق هذه الجريدة كان خسارة كبيرة لكل التيار الديمقراطي في الجزائر الذي آمن بالحرية والنضال، ليس فقط لهم كصحافيين، بل كان خسارة أيضًا لكل شخص يحاول أن يحقق مشروع مجتمع ديمقراطي تقدمي.
يضيف المتحدث أنه وزملائه لا يصدقون رواية يسعد ربراب الذي أرجع سبب هذا الغلق إلى الصعوبات الاقتصادية، حيث جاء هذا القرار مخيبًا جدًا لآمال جميع عمال المؤسسة.
أكد كريم كبير أن جريدة "ليبيرتي" تمتلك تاريخًا حافلًا ومشوارًا نضاليا امتد على مدى ثلاثين سنة، تخللته معارك كثيرة للدفاع عن الحريات الفردية والجماعية في الجزائر، من أجل الديمقراطية، كما عاش جيل من الجريدة تحديات كبيرة خلال فترة العشرية السوداء في مواجهة التشدد الاسلامي، وقد فقدوا خلالها صحافيين اثنين و سائقَيْنِ أيضا راحوا ضحية الاغتيال، وشهدت الجريدة خلال سنوات عدة وإلى وقت قريب، سجن عدة صحافيين بسبب ما كتبوه، إضافة إلى العديد من القضايا المرفوعة لدى القضاء.
تحدث الصحافي هنا على حجم المعاناة التي جابهت الجريدة وطاقمها جراء التضييق على الصحافيين وعلى المؤسسة خاصة خلال فترة الحراك السلمي، حيث هوجموا من طرف وزير الاتصال آنذاك، وحتى من طرف الرئيس، ورُفعت عليهم قضية من طرف المدير العام لسونطراك، حيث وضع صحافي "ليبيرتي" الذي حاوره سابقا تحت الرقابة القضائية.
في الواقع، يسمح القانون للمالك ببيع المؤسسة بكل حرية، حسب كريم كبير الذي أضاف أنهم لم يتمكنوا من تغيير هذا القرار حتى باقتراح شراء أسهم المؤسسة أو بيعها إلى مالك آخر، حيث آثر ربراب حسبه أن (يقتل) هذا الصرح الإعلامي.
أما عن إمكانية تفكير كل منهم في مستقبله الصحافي، حتى وإن لم تتم بعد معالجة أمور المستحقات المالية والتقاعد المبكر، قال "كبير" أنهم قد يفكرون مستقبلا في طرح حلول أخرى للعمل، مثل إطلاق موقع الكتروني ما؛ مع أنهم لم يجتمعوا بعد واقعيا لاتخاذ الخطوة المقبلة.
دعا الصحافي كريم كبير هنا إلى الاعتراف بأن الوضع الحالي للصحافة في الجزائر صعب جدا، وغير مشجع للعمل، خاصة في مواجهة وضعية معقدة وبيئة سياسية لا تسمح بالعمل بأريحية، فالجميع حسبه يدركون جيدا أن حرية التعبير في هذه الفترة مقيدة، ولا يمكن أن تتحرر الأصوات إلا في بيئة ديمقراطية شفافة وحرة، وهذا ما لا يسمح به النظام الحالي للأسف، وأنه لا يمكننا الحديث عن وجود حرية تعبير أو عن صحافة حرة حاليا، ما يعني أننا بحاجة إلى مواصلة المعركة معا جميعا، كصحافيين ، وكمجتمع جزائري بشكل عام.
ليبيرتي و"القتل غير الرحيم"
من جهته، قال الصحافي طارق حفيظ في حديث لألترا جزائر أن غلق جريدة "ليبيرتي" يعد خسارة كبيرة جدا للصحافة المكتوبة في الجزائر، فرونكوفونية كانت أو معرّبة، تماما مثلما خسرنا منابر صحافية مهمة أخرى في السنوات الماضية، مثل جريدة "لا تريبون" وجريدة "لوماتان"، وإن اختلفت أسباب الغلق بين جريدة وأخرى، لأن قرار غلق جريدة "لوماتان" على سبيل المثال يعد سياسيا محضا، حيث اتخذ الرئيس السابق بوتفليقة آنذاك هذا القرار لإسكات صوت الجريدة الذي كان يزعجه، أما "لا تريبون" فكانت مشكلتها الإفلاس الذي يهدد معظم الصحف الأخرى في الجزائر.
يضيف طارق حفيظ أن قرار إيقاف جريدة "ليبيرتي" هو بالأحرى قرار شخصي غير مفهوم، اتخذه المالك الذي لا يعاني بتاتا من أزمة مالية وليس مهددا بالافلاس، بل إنه ضمن قائمة أكثر رجال الأعمال ثراء في إحصائيات أخيرة، والجريدة في حد ذاتها ليس لديها مشاكل مالية أو أنها كانت عاجزة عن دفع مستحقات موظفيها.
في ذات السياق، يعتقد المتحدث أن هذا الغلق لا يتعلق بمشكلة سياسية تعانيها الجريدة مع السلطة، وأن المالك يسعد ربراب كان بإمكانه أن يبيع الجريدة لجهات أخرى تضمن استمراريتها، لكنه اتخذ قرارا غريبا ومجحفا وغير مبرر بإيقافها تماما ومحو تاريخ صحافي نضالي كامل من الوجود، ما يعبر عن سلوك دكتاتوري لهذا الرجل الذي قرر وكفى، بلا أي جهود لإنقاذ الجريدة وعمالها وتاريخها.
أكد الصحافي أن ما يجب فهمه هو أن "القتل غير الرحيم" لهذه الجريدة لم يبدأ منذ أيام أو أسابيع أو شهور، بل إنه يعود إلى فترة أطول بكثير، وقد بدأ بتحويل فئة مهمة من الصحافيين النخبويين إلى التقاعد المبكر على مدى سنتين، أشخاصٌ كانوا في قمة العطاء لهذا المنبر، ومع ذلك تم الاستغناء عنهم بشكل غريب، وهذا ما اعتبره المتحدث بدايةً للاستغناء عن هذا المنبر.
ذكّر الصحافي طارق حفيظ هنا بوجوب عدم نسيان شروع يسعد ربراب في شراء مجمع الخبر بمبلغ خيالي قبل سنوات، ثم تم منع هذه العملية من طرف السلطات في ذلك الوقت، والآن وحسب عدة أصداء ومصادر، تبدو العملية في طريقها إلى الحل، حيث يعتقد المتحدث هنا أن ربراب سيتمكن أخيرا من الحصول على المجمع.
هنا، يتساءل طارق حفيظ إذا ما كانت هنالك نية لربراب لإدماج جريدة "ليبيرتي" في مجمع الخبر وإعادة إطلاقها من جديد، ثم أضاف أن هذا الأمر قد يكون ممكنا، ولكن لا يمكن الجزم بأي شيء حاليا في ظل غياب معلومات مؤكدة عن كل ما يحدث.
في الأخير، يؤكد حفيظ أن الصحافة الوطنية اليوم قد فقدت عنوانا مهما جدا، وأقلاما جادة قامت بعملها لسنوات على أكمل وجه، منهم الصحافي الكاتب مصطفى حموش الذي يعد مدرسة كبيرة، وخاصة الرسام الكاريكاتوري الشهير ديلام الذي كان وما يزال من أهم الكاريكاتوريين في الصحافة الجزائرية، وأحد أهم سفراء الكاريكاتور الجزائري في العالم، صاحب بصمة خاصة أضافت الكثير لهذه الجريدة المغتالة، حيث وجد مساحة حرة عبر فيها برسوماته لسنوات طويلة وها هو الآن يفقدها.
لم لا تُباع "ليبيرتي" لتعيش؟
عبر الناشط جلال لوز في تصريح لـ "لترا جزائر" عن تفاجئه من قرار الغلق النهائي للجريدة، وقال إنه حتى إذا ما نظرنا إلى الموضوع من زاوية سياسية فإن الأمر يصبح أغرب، لأن الجريدة بتاريخها وتراكمات الخبرة المهنية التي بحوزتها حسبه، لم تصنع ذلك الاستثناء الكبير في المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد حاليا، وحتى وإن حدث ذلك ولو نسبيا (كما يحلو للبعض تحليل قضيتها)، فإن هنالك دائمًا طرق كثيرة لمعالجة الأمر قبل إصدار قرار الغلق النهائي.
يضيف جلال لوز، أنه لا يملك إطلاعًا كبيرًا على الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذا القرار لأنها غامضة ومبهمة، لكن ما يثير دهشته هو اغتيال علامة "ليبيرتي" أو المؤسسة "ليبيرتي" التي كان على ملاكها أن يتخلصوا منها "إن أرادوا ذلك" بطرح أسهمها للإكتتاب، أو بيعها كاملة لمن يدفع وتنتهي مسؤوليتهم.
يؤكد المتحدث هنا أن الأمر ممكنٌ قطعًا، تماما مثلما حدث سابقا مع نفس الجريدة التي تغيّر مُلَّاكُها وآلت لرجل الأعمال يسعد ربراب، وكما يحدث في كل جميع أنحاء العالم، حيث خص بالذكر جريدة "واشنطن بوست" التي اشتراها رجل الأعمال "جيف بيزوس" سنة 2013 مقابل 250 مليون دولار في صفقة اقتصادية بحتة، بعيدة كل البعد عن القراءات السياسية من وحي الخيالات المتجاذبة إيديولوجيًا وجهويًا كما يحدث عندنا دائمًا.
هنا، يتساءل جلال لوز: "كيف يمكن غلق مؤسسة ربحية لها وجود في سوق الصحافة المحلية، وكذا سمعة إقليمية معتبرة." كما أن العلامات التجارية، يكون لها ثمن كلما تقادمت، فهل خفي ذلك على ملاكها؟"
يضيف الناشط أن صدور القرار من رجل الأعمال يسعد ربراب أمر مثير للاستغراب إذا ما كان فعلا صاحبه، لأن هذا الرجل بعقليته الرأسمالية لا يمكنه أن يخسر من أجل الخسارة، وهو الذي اشترى علامة "براند" الفرنسية وضخ من أجلها مبالغ ضخمة لإعادة بعثها بعد إفلاسها، عوض التأسيس لعلامة جديدة مهما كان موطنها.
أما من الناحية المهنية، فيعتقد المتحدث هنا، أن الساحة الإعلامية الجزائرية تحتاج إلى مؤسّسات عريقة على شاكلة "ليبرتي" وغيرها، بغض النظر عن توجهات كلٍّ منها، فالحديد هنا يخص المهنة والساحة المهنية، لتتمكن الصحافة من العزف بآلات متنوعة ومتناسقة تمنحنا سمفونية ترقى لمصاف السمفونيات الإعلامية العالمية يوما ما، عوض استعمال آلة واحدة من طرف الجميع وطوال الوقت، لتصيبنا بصداع حاد يجعلنا للأسف نطالب بإخراسها جميعًا، حفاظًا على أسماعنا من التلوث السمعي المنجر عن ذلك.
جلال لوز: الساحة الإعلامية الجزائرية تحتاج إلى مؤسّسات عريقة على شاكلة "ليبرتي" وغيرها، بغض النظر عن توجهات كلٍّ منها
في الأخير يأمل جلال لوز أن نبتعد عن "تحليلات العوالم الموازية" ونكتفي بتسمية الأشياء بمسمياتها، في انتظار الأيام المقبلة التي قد تكشف الأسباب الحقيقية لغلق "ليبيرتي".