21-أبريل-2020

تطوّع بعض المخرجين الجزائريين بتقديم عروض افتراضية مجانية لأفلامهم (تصوير: كارل كورت/Getty)

فتح الحجر المنزلي في الجزائر، نوافذ غير معهودةٍ للاستغراق في الأعمال الفنيّة، وبما أن الفنون والثقافة هي نوعٌ من الخَلقِ والانتاجيةِ الفكرية التي يقوم بها البشر، حتّى يمنحوا ماهيةً مُجديةً لوجودهم على وجه الأرض، انطلقت مبادراتٌ كثيرة لإثارة حواس "المحجورين" إزاء الجمال الفنّي، من خلال فضاءات مواقع التواصل، قصد الخروج من إحساس الحجر، فالنفس البشرية تَطيبُ بالموسيقى والأدب والرسم والمسرح، وعلى رأي الفيلسوف أرسطو، يمكن للفنّ أن يصنع ما عجزت الطبيعة عن خلقه، وفي عصر الجوائح والأوبئة تذهب المأساة  كأحد فنون المحاكاة مع الوقت، إلى تحقيق نوع من "التطهير" من انفعالات الخوف أو الشفقة.

انطلقت مبادرات فردية عدة قام بها بعض الإعلاميين والفنانين، للترفيه عن رواد مواقع التواصل الاجتماعي

عبء الفن أهون من عبء الحَبس

يبرّر إذن تطهير البشر من تراكمات الحبس هذه، محاولاتِ "العابئينَ بالفنِّ" لتخليص الناس من الهلع المحيط بهم وهم حبيسو المنازل وشعورهم بالخوف، لهذا يحاول بعض المثقفين والصحافيين والمهتمين بالفنّ، منذ بداية الحجر المنزلي الذي فرضه  انتشار وباء (كوفيد-19)، في الجزائر كما في بقية أنحاء العالم، خلقَ جوّ ثقافي افتراضي منوّع، بعد أن عرفت النشاطات الثقافية والفنية والأدبية الرسمية منها والخاصة -على قِلّتها وشحِّ ميزانياتها وفضاءاتها- توقفًا اضطراريًا، إضافة إلى إلغاء كل العروض الفنية والحفلات والمسرحيات والأمسيات الأدبية والمعارض على قلّتها، إذ جاء هذا بعد دعوة السلطة إلى ضرورة الالتزام بشروط التباعد الاجتماعي، وتفادي التجمّعات التي قد تسمح للفيروس بالانتشار جراء الاختلاط والاحتكاك المباشر.

اقرأ/ي أيضًا: "انزياحات".. عنوان يفجّر الجمود الثقافي في الجزائر

مبادراتٌ لدرءِ الضّجر

 في انتظار عودة الحياة إلى شكلها المعتاد، استجابت القطاعات الثقافية العامة والخاصّة لهذه الدعوة والتزمت بهذا التوقّف، لكن التحدّي الأكبر كان في إمكانية توفير جوّ تثقيفي وفنّي للأفراد، لحثهم على المكوث في منازلهم والالتزام بهذا الحجر، فالضغوطات النفسية التي تواجه بشرًا محبوسين بين أربعة جدران، قد تفتك بأعصابهم مثلما قد يفعل الفيروس بحياتهم.

لهذا، كان على الفاعلين الثقافيين التحرّك بشكلٍ ذكيّ، لإيجاد حلول تساعد الناس على التأقلم مع الحجر والتخلّص من الضجر من خلال برامج منوعة، تشمل مختلف المجالات الفنية والأدبية والسينمائية عبر الإنترنت، إذ أضحت الوسيلة الوحيدة للتواصل بين ملايين المواطنين المحتجزين في منازلهم.

ولائم من المحتوى المجاني

عند بداية تطبيق الحجر المنزلي، انطلقت مبادرات فردية عدة قام بها بعض الإعلاميين والفنانين، للترفيه عن رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت عدّة صفحات ومجموعات،اختصت في توفير مواد فنية وروابط  على الإنترنت، لبرامج تعنى بالفنّ والسينما  والأدب، وقد تمّيزت هذه المنصات بإقبال كبير لرواد الإنترنت، بحثًا منهم عن كل سبل التسلية والتثقيف بغية نسيان أخبار الموت والعدوى، ومن خلال هذا المحتوى المجاني

تحصل الناس على فرصة الاطلاع على الإنتاج الفنّي والمسرحي والسينمائي الجزائري، بعد أن كانت هذه العروض حكرًا على المهرجانات العالمية والوطنية، وخشبات المسرح في مواعيد متباعدة نظرًا لقلتها في الواقع، وبسبب منع عرض البعض منها أيضًا في الجزائر،  مثل فيلم بابيشة، إضافة إلى أفلام كثيرة صنعت تاريخ السينما الجزائرية وحاضرها أيضًا.

السينما ملاذ المحجورين

كما كان متوقعًا، تطوع بعض المخرجين الجزائريين بتقديم عروض افتراضية مجانية لأفلامهم، حيث قام المخرج مالك بن اسماعيل، بنشر رابط مجاني لفيلم "الصين ما تزال بعيدة إضافة إلى الفيلم الوثائقي "اغترابات"، والفيلم القصير "ديمقراطية".

كما وضع بعض المخرجين الهوّاة والشباب روابط أعمالهم في مجموعات "السينيفيل"، التي خصصّت للسينما في زمن الحجر، إضافة إلى نشر عروض أفلام عربية وعالمية صنعت تاريخ السينما وأحدثت الفارق في المهرجانات العالمية.

بدوره، قام المركز الوطني للسينماتوغرافيا (سينماتيك الجزائر)، بفتح مسابقة لأحسن "أفيش سينمائي"  في إطار نشاطه الافتراضي الخاص بفترة الحجر المنزلي، حيث خصصت المسابقة للأغلفة الأصلية التي يكون محورها حول فيلم جزائري أو عالمي، وحددت مهلة المسابقة بين 12 و30 نيسان/أفريل الجاري، كما أطلق المركز في وقت سابق نشاطات عدة بالتعاون مع وزارة الثقافة منها نقاش واجتماع عبر الإنترنت، وعروض افتراضية منها أسبوع أفلام الهجرة، إضافة إلى متابعة عروض أفلام خاّصة بحيّ القصبة في السينما، خمسينية الأوسكار الجزائري، سلسلة أفلام المخرج العالمي فرانسيس فورد كوبولا بمناسبة ميلاده الثمانين.

المسرح يصنع ركحًا على اليوتيوب

لم يَحِد المسرح عن هذه المبادرات، حيث قرّرت إدارات المسرح  في عدة ولايات، إطلاق عروض لمسرحيات نجحت في كسر الجمود الذي خيم لسنوات على المسرح الوطني، واستقطاب مئات المشاهدين إلى ركح المسرح، وتم ذلك عبر عروض مؤقّتة على قنوات اليوتيوب الخاصّة بالمسرح الوطني  ومنصّات أخرى خاصّة بهذه المسارح، حيث تم تقديم مسرحية جي بي أس لمخرجها محمد شرشال، والتي فازت في شهر كانون الثاني/جانفي الفارط، بجائزة أحسن عرض في المهرجان العربي للمسرح بالأردن، إضافة إلى عروض مسرحيات مختلفة صنعت الحدث في ركح المسرح، مثل طرشاقة وكشرودة لأحمد رزاق، والعديد من العروض القديمة لمسرحيات أثرت خشبة أبي الفنون على قناة يوتيوب الخاصّة بالمسرح الوطني، كمسرحية الحافلة تسير للمرحوم عز الدين مجوبي، وقالوا العرب قالوا وغيرها.

من جهته، صرح الممثل المسرحي رمزي لبيوض، في حديث إلى "الترا جزائر"، بأن مسرح قسنطينة الجهوي، كان قد أطلق مسابقة للأطفال في الشعر، الرسم و القصة القصيرة، وستعلن نتائجها في وقتٍ لاحق، وأكّد الممثل، أن المسابقة جادت كمبادرة من المسرح لفكّ العزلة عن الطفل ومنحه فرصة للإبداع واستغلال فترة الحجر في أموٍر تنمّي ذوقه الفني والتحسيس بمخاطر فيروس كورونا.

إذاعة كورونا الدولية

يبدو أن الأفكار تتوالى من وحي الحجر، حيث خرج علينا الصحافي عبد الله بن عدودة، بفكرة هذه الإذاعة الافتراضية التي بدأها بشكلٍ هزلي على حسابه الفيسبوكي، وكانت المتنفّس الذي لاقى استحسانًا كبيرًا، من روّاد الموقع الذين صاروا ينتظرون موعدها بفارغ الصبر خلال الأسبوع، والآن صار هذا الفضاء يستضيف وجوهًا وفنية مهمّة مثل كمال داوود، كمال عبدات وغيرهم.

هنا، يقول عبد الله بن عدودة، أن هذه المبادرة  كانت في الأوّل مجرد مزحة، إذ كان يعاني من الضجر في الحجر المنزلي كالجميع، ومن هنا فكر المتحدّث في عمل "لايفات مسموعة" على صفحته الفيسبوكية، شارك فيها الأصدقاءَ كلّ ليلةٍ مقاطع موسيقية للتسلية، وحينما وجد أن الأمر لاقى استحسانًا من الأصدقاء، وذاع سيط تلك الفترات المباشرة العفوية، انتقلت الفكرة إلى مستوى أكبر، من خلال نقاش نشأ في التعليقات حول أغاني الراي، إضافة إلى أحاديث فكاهية حول هذا الفن، وهنا جاءت مشاركة الأستاذ فيصل صحبي برأيه في الموضوع بصفته مختصًّا.

أضاف عبد الله، أنه فكّر في عمل لايف مشترك مع فيصل صحبي بعد ذلك، للتعمق أكثر في الحديث عن فنّ الراي، ثم انضمت المنشطة سهام التي شاركت بصفتها مختصّة نفسانية في موضوع حول تداعيات الحجر المنزلي على نفسياّت المحجورين، أما المنشطة صابرة، فقد تكفّلت بالحديث عن الشق السياسي، إضافة إلى صاحب موقع المنشار نزيم بأية، والصافي سعيد جعفر.

هكذا توالت وتعددت حسب عبد الله مواضيع ونقاشات هذا البث، أهمّها "دقيقة هيهات" الذي تكفل بها جعفر سلامات، وقد تم تسجيل هذه الفترات على موقع  ساوندكلاود لأرشفتها.

أكّد بن عدودة  أن الفكرة بدأت بنوع من التسلية، وبما أنه يمتلك خبرةً اكتسبها من خلال عمله في الإذاعة والتلفزيون، فقد أدرك كيفية إحداث توازن بين الأحاديث الجادة والفكاهية منها خلال هذه الفسحات المباشرة، وقد لاقى العدد الأول حماسا ورواجا كبيرين، بحكم أن الناس كانوا بحاجة ماسة إلى متنفس ينسون به سجنهم ذاك، ومن هنا طور بن عدودة الوضع قليلا باستضافة أشخاص أثروا المباشر، إضافة إلى فترات من الموسيقى المختارة بعناية.

قرّرت إدارات المسرح  في عدة ولايات، إطلاق عروض لمسرحيات نجحت في كسر الجمود الذي خيم لسنوات

في سؤال حول إمكانية تواصل بث هذه الإذاعة بعد انتهاء الحجر، قال بن عدودة، إن الأمر واردٌ جدًا، لأنّ ينتوي إنشاء مشروع إذاعة ويب، رغم أن هناك مشكلة تكمن في كونه مغتربًا وزملاؤه في الإذاعة كلّهم في الجزائر، وكما هو جلي، هناك صعوبات تواجه هذا النوع من المشاريع في الجزائر، جرّاء المنع والقمع الإعلامي لهذه المشاريع، لكنه على العموم، أكد أنه يخطّط لتحويل راديو كورونا إلى إذاعة ويب حقيقية، دون إغفال الأولوية لجمهورها الأوّل في الفيسبوك، وهو ما يعمل على التفكير فيه من الناحية التقنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشاب مامي يفتح قلبه: اكتشفت الحياة أثناء محنتي

الكاميرا الخفية في الجزائر.. برامج "الرعب" تستثمر في وباء كورونا