01-نوفمبر-2022
علي لابوانت

مشهد من فيلم معركة الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

ما تزال صورة علي عمار الملقب بـ “علي لابوانت" عالقة في ذاكرة الأجيال، خصوصًا عند فئة الشباب، حيث تَرفع بعض جماهير النوادي الكروية في كثير من المرات "تيفو" أو لافتة تحمل صورة للشهيد علي لابوانت بالمدرجات، وعلى طول بعض أحياء وأزقة شوارع القصبة بالعاصمة يبدع رسامو الشوارع في رسم تصاميم فنية تعيد علي لابوانت إلى حاضنته الثورية، وتُدَوَن على الجدران شعارات تحكي عن بطولاته، حيث يُعد واحدًا من أبطال معركة الجزائر وفدائيي العاصمة.

كان علي عمار فتى في الثالثة عشر من العمر، وعبر أحد ممرات جبل زكار بمليانة، تمكّن من السطو على شاحنة عسكرية فرنسية كانت محملة بألبسة و معدات

ما يميّز قصة علي عمار، أنها تَعكس لوحدها مسار التحولات التي طَبعت الثورة المسلحة التي انطلقت في الفاتح تشرين الثاني/نوفمبر عام 1954، فالشهيد علي عمار لم يكن مناضلًا في الحركة الوطنية، ولم يعرف النضال السياسي وأبجديات الحركة الاستقلالية وتطوراتها، بل بالعكس كان شابًا ينشط ضمن عصابات الأحياء القصبة، فكيف تَحول علي عمار إلى مقاوم وثوري؟ جُندت القوات الاستعمارية أكثر من 150 ألف عسكري وشبه عسكري للقضاء على فدائي القصبة، كان علي لابوانت واحدًا من أبطالها.

طفولة علي عمار 

نشأ علي عمار وتربى في مدينة مليانة، من مواليد 14 أيار/ماي عام 1930، عُرف عنه منذ الصغر بشغبة ومشاكساته، كان ينحدر من عائلة فقيرة جدًا، والده مُلقب بأحمد عبد الرحمان عمار ووالدته تلكية فاطمة، وهو أصغر أفراد أسرته المتكونة من الأخت الكبر يامنة وأحمدوباية، توفي والده وهو لا يزال طفلًا، فتزوجت والدته بالمدعو بحري مسعود، لم يعرف علي عمار طريق المدرسة، وكان الشارع ملجأه الوحيد لسد رمق جوعه، لهذا السبب كان الكثير التشاجر والعراك بالشوارع.

كان لوجود الاستعمار الفرنسي بالجزائر، سببًا مباشرًا في انتشار مظاهر الحرمان والبؤس والفقر وسط الأهالي، ما دفع علي عمار إلى القيام بأعمال النشل والسطو على مزارع المستوطنين، وسلب ما تحمله القطارات والمستودعات من مواد غذائية وسلع استهلاكية.

خلال الحرب العالمية الثانية في سنة 1943، كان علي عمار فتى في الثالثة عشر من العمر، وعبر أحد ممرات جبل زكار بالمليانة، تمكّن من السطو على شاحنة عسكرية فرنسية كانت محملة بألبسة و معدات، غير أن الحراس والجنود تمكنوا من إلقاء القبض عليه، وسُجن على إثر ذلك لأول مرة، وتعرض للضرب المبرح على يد أعوان السجن، وهي حادثة بقيت راسخة في ذاكرة علي لابوانت.

الانتقال إلى العاصمة

دفع ضيق العيش والتهميش التي تَعرضت إليه عائلة علي عمار في ولاية مليانة، إلى تَنَقُل الأسرة إلى العاصمة سنة 1945، واستقرت في حي "بوانت بيسكاد" سابقا "حي رايس حميدو" حاليًا.

كان علي عمار قوي البنية، صلبًا وشديد البأس، تلقى تربصًا مهنيًا كبناء في مركز التكوين المهني بالحراش، وانضم إلى نادي الملاكمة بباب الواد، كان كثير النشاط في سوق الساعات الثلاثة بباب الواد، ونتيجة لتجارته الموازية ومخالفاته القانونية، تلقى يومًا صفعة على يد الشرطي الملقب بـ "حميد"، لم يتقبل تلك الحادثة وكان يروي بحرقة تفاصيلها لرفقاء الكفاح.

في سياق متصل، وفي العشرينات من عمره بدأ علي عمار يتردد على حي القصبة، وتمكن من أن يفرض وجوده وسط العصابات المنظمة بالعاصمة، والتي كان يقودها المدعو طاهر الشريف رفقة مصطفى حميش، أثبت علي عمار حضوره بفضل ذكائه وسرعة تحركاته ونشاطه وشجاعته، لكن مسار علي عمار سيعرف تحولًا تاريخيًا من الأدنى إلى الأعلى، ليكتب اسمه من ذهب في تاريخ الثورة التحريرية.

قصة حب تجمع علي وزبيدة  

جُبلَ علي عمار على الخشونة والحدة في التعامل والطباع ، غير أن الحب تمكن من التسلل إلى فؤاده، بعدما تعرف على فتاة تدعى زبيدة، ورغم شح المعلومات عن الفتاة وظروف نهاية العلاقة، غير أن للقصة لفتة جميلة، تُبرز الجانب الرجولي والرومنسي عند علي عمار، حيث كانت زبيدة فتاة تشتغل عند الإخوة حميش، الذين كانوا يستغلون الفتيات ويرغموهن على أداء كل النشاطات غير القانونية، ونظرًا إلى رقتها ولٌطفها تعاطف  علي عمار مع ظروفها، وأصر على انسحابها من عصابة الإخوة حميش، غير أن خوف زبيدة على مصيرها ومصير علي من انتقام أحد أعضاء العصابة  المدعو "الروجي"، رفضت الهروب رفقته، لكن وأمام إلحاح وإصرار علي عمار، وتحديه لـ مصطفى حميش، جعل العصابة تَتقبل مغادرة زبيدة ورحيلها، ليتمكن علي من إخراجها من براثن الفساد والانحراف.

السجن

في العشرينات من العمر تتحول حياة علي إلى مسار آخر في مواجهة العصابات، ففي 1950 تُلقي عليه الشرطة الفرنسية القبض، ويسجن لمدة عامين في سجن سركاجي بالعاصمة، وهناك تعرف علي عمار على أفراد أعنف عصابات الأحياء، الأمر الذي انعكس على طباعه وسلوكه.

في سنة 1952 يتمكن علي لابوانت من الحصول على سلاح ناري، وتشكيل جماعة من أبناء القصبة، محاولًا فرض سطوته، تمكن علي من الاستحواذ على حدود نشاط قرب القصبة، بعد الانقضاض على عصابة "مُحا الصغير"،في معركة عرفت اشتباكات بالأسلحة النارية، أُصيب "مُحا الصغير" بجروح خطيرة في شارع علي بومنجل.

بعد الحادثة تم توقيف علي عمار من طرف الشرطة الفرنسية، وحكم عليه بجناية محاولة القتل العمدي، في سجن سركاجي تمكن علي عمار من فرض سطوته وسلطانه، وهو الأمر الذي أزعج الشرطة وإدارة السجن، بسبب أن علي عمار لم يكن مخبرًا أو متعاونًا مع الإدارة والأجهزة الأمنية، ليتم ترحليه إلى سجن البرواڨية.

صحوة الضمير الوطني

كانت يوميات علي عمار روتينية في سجن البرواڨية، لكن بداية من أواخر سنة 1954، بدأت أفواج جديدة من السجناء تتوافد على سجن البرواڨية، انتبه علي عمار إلى انضباط وانتظام وصبر هؤلاء السجناء الجدد،  وتسائل عن غايتهم وسبب تعرضهم إلى الحبس والسجن، فأوضح له رفقائه أنهم جماعة من الناس يريدون الاستقلال.

حاول علي لابوانب الاقتراب من بعض السجناء السياسيين ممن تعرف عليهم سابقًا بالقصبة، وبات يبحث عن سبب اعتزازهم وسعادتهم وهم في السجن، أخبره أحد المناضلين أن الثورة المسلحة ضد الاستعمار وأعوانه قد اشتعلت، ارتبك علي من هذه المصطلحات، التي لم يكن يفقه فيها أشياء كثيرة.

دون معرفة التفاصيل، أدرك علي عمار أن شيئًا ما يجمعه رفقة المساجين المناضلين، ألا وهو كراهية الشرطة وأعون الدولة الاستعمارية، تخللت اللقاءات مع المناضلين بالسجن تلقينه لمعاني الحرية والاستقلال، والاستماع إلى دروس عن الوطنية، وعن أسباب سلب الكرامة واللاعدالة والبأس والحرمان، وأن الثورة قضية وطنية وليست شخصية.

وأمام تسارع الأحداث بالخارج، قرر علي لابوانب رفقة مروان ڨناوي تنظيم عملية فرار من السجن، وتم الهروب في يوم الـ 22 من شهر نسيان/ أبريل عام 1955 عبر حقول ومزارع الكروم اللذان كانا يشتغلان فيها.

تمكن علي لابوانت من البقاء بعيدًا ومختفيًا، يترصد الأخبار والأحداث، إلى غاية 15 من أيلول/ سبتمبر 1955، حيث جرت عملية استهداف أحد أعوان شرطة الاستعلامات المدعو "لعزيب الحاج السعيد"، من تنفيذ عزوز قدور وكاب عبد الرحمان، وهما من تنظيم الحركة المسلحة الجزائرية، وشكلت هذه الحادثة أول عملية فدائية في أسفل القصبة واستشهاد عزوز قدور بعد المطاردة، وهو الحدث الذي أسقط جدار التردد والخوف عند الكثير من مناضلي الثورة المسلحة، لكن عامل الثقة وكيفية الانضمام كانت تطرح الكثير من الأسئلة.

اللقاء مع ياسف سعدي

تمكن علي لابوابت من الاتصال بالمدعو أحمد الشايب الملقب  بـ "الغراب"، وأخبره عن رغبته في الالتحاق بالثورة، كان "الغراب" في اتصال مباشر مع ياسف سعدي المدعو "السي جعفر" والذي كلفه بالإشراف على تنظيم سرايا الفدائيين وتطهير أحياء القصبة من المخبرين والجواسيس وسط العصابات المعروف عنها التعامل مع الشرطة.

كان انضمام علي لابوانت إلى سرايا الفدائيين قرارًا صعبًا، نظرًا إلى سوابقه القضائية، خاصّة أنه كان محل بحث ومراقبة من طرف الشرطة، علاوة على ذلك المعروف عن علي عدم الانضباط، وصعب التحكم فيه، لكن ياسف كان بحاجة إلى شباب من أمثال علي عمار.

تم تحضير أول لقاء بين ياسف وعلي في شارع حداد عبد الرزاق (مستشفى آيت أيدير حاليًا)، في البداية طرح ياسف سعدي عليه جملة من الأسئلة، موضحًا له أبعاد الثورة، ملحًا على احترام قواعدها وشروط الانضمام، ومشددًا على الانضباط.

مباشرة سطر وخطط ياسف له خطة استهداف شرطي، في 40 شارع علي عمار حاليًا، موضحًا له أسلوب الكمين  وأن يكون الاستهداف من الخلف، متمنيًا له التوفيق.

في اليوم الموالي كان علي لابوانت في الموعد جاهزًا ومتحمسًا، فجأة وقفت امرأة بجانبه وأشارت إلى الشرطي المعني بالاغتيال، ومكان السلاح الناريالموجود في قفة كانت تحملها، انتظر علي خروج الشرطي من المقهى، ومباشرة بعد خروج الشرطي من المكان، وجد علي لابوانب منتصبًا وجهًا لوجه أمام الشرطي مصوبًا السلاح على رأسه قائلًا "خذ يا خبيث"، غير أن الرصاصة لم تنطلق، أعاد علي الكرة لمرة الثانية والثالثة لكن يبدو أن الرصاصة لم تخرج، وأمام الموقف المفاجئ وغير المتوقع وبالقبضة المسدس ينهال عليه ضربًا ويسقطه أرضًا ويهرب بسرعة من المكان متسللًا وسط المارة.

اشتد غضب علي عمار من ياسف سعدي، متوهمًا أن العملية المقصود منها التخلص منه، وبعد اجتماع ياسف سعدي رفقة علي عمار، وقبل أن ينطق علي بكلمة، عاتبه السي جعفر بشدة وقوة على عدم احترامه لقواعد العملية والتعليمات الصادرة عن الاستهداف من الخلف وليس الاستهداف المباشر، مشيرًا أن المخالفة قد يترتب عليه معاقبته نتيجة عدم الانضباط. بعدها أوضح له ياسف أن السلاح الناري كان بدون ذخيرة بشكل متعمد، من أجل اختبار شجاعته ومصداقيته، قائلًا "الانضمام إلى الثورة يحتاج إلى ضريبة غالية الثمن".

تمكن علي لابوانت من إعطاء نفس جديد إلى معركة الجزائر، من خلال تطهير القصبة من العمالة

بعد التحاق علي لابوانت بفدائي القصبة، والانضمام إلى سرايا " أحمد الغراب" انقلبت حياة علي لابوانت رأسًا على عقب، وباتت الثورة والكفاح المسلح هدفه القادم، وقد تمكن علي لابوانت من إعطاء نفس جديد إلى معركة الجزائر، من خلال تطهير القصبة من العمالة والتشرد وتفكيك كل عصابات مدينة القصبة وانضمام جيل جديد من الثوار والفدائيين.