14-أغسطس-2022
مشهد من فيلم معركة الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

مشهد من فيلم معركة الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

منتصف ليلة العاشر من شهر آب/أوت سنة 1956 اهتزت مدينة القصبة على وقع انفجار قنبلة شديدة الانفجار، مخلفة المئات من القتلى والجرحى من الأطفال والنساء وكبار السن، وٌضعت قنبلة من طرف منظمة إرهابية من أنصار الجزائر فرنسية، ودُست بإحكام وسط البنيان المرصوص الذي شكل هندسة مدينة القصبة عمدًا قصد إلحاق الضرر بأكبر قدر ممكن وسط كامل الأحياء المجاورة والمنازل المتداخلة.

عُرف عمر الصغير بخفته وسرعته ومعرفته بكل دروب حي القصبة العتيق، وكانت عيناه لا تغفلان أثناء لعبه مع أقرانه مراقبًا كل غريب يدخل الحي 

صبيحة ذلك اليوم ووسط الأحزان والبحث عن الجثث تحت الرماد ما يزال، يَكسر الفدائي المدعو علي عمار الملقب بـ “علي لابوانت" صمت الاستياء والغضب، وينغمس عفويًا في مسيرة وانتفاضة شعبية، يلتحق بها كافة سكان مدينة القصبة، وأمام الموقف الصعب واستعداد فوج المظليين الفرنسيين لسحق الانتفاضة، كان من الواجب توقيفها.

فكر قادة الثورة في إرسال أحد العناصر من أجل تفادي المجزرة، لكن أغلب العناصر كانت تحت مراقبة ومتابعة شديدة من طرف مصالح القوات الفرنسية، فجأة ورد اسم ياسف عمر المدعو "Le Ptit Omar" أو عمر الصغير، لأداء مهمة إلغاء المسيرة.

عُرف عن "عمر الصغير" الخفة والسرعة، والدراية بكل دروب أحياء ومداخل ومخارج القصبة، على بعد أمتار من اقتراب الحشد من القوات الاستعمارية المجهزة لإطلاق النيران، ومن حيث لم يحتسب أحد، اخترق عمر الصغير عبر أحد الممرات مقدمة المسيرة مطالبًا علي لابوانت بضرورة توقيف المسيرة، وأن تعليمات صدرت من "الجبهة" وهي مختصر لحزب جبهة التحرير الوطني، بـ لزوم إيقاف الاحتجاج الشعبي، تفاديًا لمزيد من سقوط الضحايا والموتى، وأن الجبهة ستتوعد بالانتقام.

كان عمر رقيق البنية، هزيل الهيئة، ما تسبب في سقوطه  عدة مرات أمام تدافع الجماهير، لكنه أصر واستمر في إبلاغ الرسالة، حينها صاح علي لابوانت "حابسوا"، وعلى حين غرة سكنت الجماهير وتراجعت إلى الوراء فورًا.

عمر الصغير

من هو عمر الصغير؟

ولد عمر الصغير في 07 كانون الثاني/جانفي 1944 في بيت جده في حي القصبة، وكان الثالث من بين تسعة أطفال، كان والده أحمد صانع زراب ومدربًا في فن الملاكمة، أما والداته السيدة ذهبية كانت ربة بيت تُشرف على أبنائها التسعة والعائلة الكبيرة ياسف.

كان يسكن عمر الصغير رفقة عائلة ياسف الكبيرة، بين أحضان جده وجدته وصحبة أعمامه وأبناء عمومته على غرار عمه ياسف سعدي، وقد ترك الدراسة في السنوات الأولى، إذ انتفض رافضًا وهو تلميذ في السنوات الأولى من التعليم النشيد الفرنسي والاحتفاء بالتاريخ الفرنسي، وتمرد على التمييز العنصري في حق أطفال الجزائر.

بداية الوعي الوطني

منذ نعومة أظافره عُرف عن عمر الصغير، الذكاء وقوة الفطنة والملاحظة والانتباه والفضول، كان كثير الجلوس والارتباط بجده، الذي سافر إلى عديد من الأماكن والدول، ما مكنُه من اكتساب خبرة في الحياة والتجارة، انعكست عن تَمَلُكه مخبزة، وطاولات بيع الحضر والفواكه في الأسواق وبعض "الدويرات" بأحياء القصبة.

نما وتطور الحس الوطني عند عمر الصغير من شهادات جده، التي كانت تروي بطولات الأمير عبد القادر، والشيخ المقراني ومقاومة فاطمة لالة نسومر، والشيخ بوعمامة، لقد شكلت تلك الروايات والقصص مخزونة في الذاكرة مصدرًا أساسيًا في نمو وعيه الوطني.

فطنة عمر الصغير بالوضع الاستيطاني، جعلته يَلُح على مرافقة والده إلى اجتماعات حزب الشعب الجزائري، رغم معارضة الوالدة، لكن الطفل عمر أصر على حضور نقاشات أفراد الحركة الوطنية، رغم أنه لم يكن يستوعب الكثير من الأمور، لكن حدة نقاشات كانت تثير بداخله الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام.

انظم عمر الصغير رفقة ابن عمه ياسف محمود  إلى فرقة الكشافة الإسلامية، التي كانت تنظم رحلات وخرجات ميدانية، تهدف إلى إنماء الحس الوطني في أنفس وعقول أطفال القصبة، وكانت النزهة إلى سيد فرج تتحول إلى وقفة ومحطة من أجل استرجاع الذاكرة التاريخية والحديث عن الاستيطان الفرنسي وتضحيات الأهالي وطلبة الطريقة الرحمانية.

البدايات

مع بداية اندلاع الثورة، كانت القصبة قلعة للثوار، وقلب العمليات الفدائية، ومسرحًا للكمائن والاشتباكات المسلحة، وشهد بيت ومخبزة عائلة ياسف حركية ونشاطًا ثوريًا بارزًا، الأمر الذي أثار في نفسية عمر الصغير فضولًا ورغبة في خدمة الثورة، مؤمنًا أنه مع موعد تاريخي هام.

كان عمر الصغير رفقة أطفال القصبة يلعبون في أزقة شوارع المدينة، لكن كانت أعين عمر لا تنام ولا تغفل عن أيّة حركة مشبوهة أو شخص مجهول يَلج الحي، فبينما عمر يلعب رفقة ابن عمه محمود تسلل شخص غريب عن الحي، أثار تردد وسلوك الغريب شكوك عمر الصغير، الذي بات يراقبه عن بعد، اقترب منه عمر الصغير موجهًا له رسالة مشفرة "رد بالك.. المشورة تعك راهي تبان" "منديلك يتدلى سيدي" فَهم الغريب أن عمر يقصد أن المسدس المخبأ تحت الجاكيت ظَهر للعيان.

في البداية اعتدل الرجل وقام بحركة سريعة وعفوية وأعاد إخفاء المسدس، بعدها أخبر الغريب عمر الصغير أنه أضاع الطريق، وطلب منه إرشاده إلى عنوان يقع وسط مدينة القصبة، وهي المهمة التي أداها عمر بإتقان واحترافية، حتى تردد أن عمر قد اختطفه رجل غريب.

أٌخبر عمه ياسف سعدي الذي كان قائد المنطقة المستقلة للعاصمة بالقصبة، واستحسن التدبير الطفل رغم خوفه على الصغير، وشرَع ياسف سعدي بالاستعانة بابن أخيه من أجل مرافقة واستقبال الثوار في أحياء القصبة وشراء الجرائد، كما بايع عمر الصغير على حفظ السر والكتمان والنظام.

لقاء مع علي لابوانت   

خلال الثورة التحريرية، كانت وسائل التواصل غاية في الصعوبة، وبالتالي كان تبادل الرسائل من بين وسائل الاتصال وإلحاق الأوامر، وعلى ضوء تسارع الأحداث انتقل عمر الصغير من مرابط ومرشد إلى عنصر اتصال وحلقة ربط بين الفدائيين، وقد اختير هذا المرة، من أجل إيصال رسالة إلى شخص لم يسبق أن شاهده، ويتعلق الأمر بـ"علي لابوانت".

كان الموعود أمام ضريح الوالي سيدي محمد شريف، وكانت كلمة سر "الرجل عندو زوج وجوه.. واحد يبكي واحد يضحك"، يلتحق عمر الصغير بالمكان ويقوم باستطلاع الأوضاع هناك، يُراقب شخص في عقد أواخر العشرينات، يرتدي "قشابية بُنية اللون، وتبدو عليه ملامح الصلابة والصرامة، يدنو منه عمر، في الأول كانت ردة فعل "علي لابوانت" عنيفة "واش تحوس... أيا أمشي البعيد".

تشجع عمر وتلفظ بكلمة السر، بسرعة تسلم علي لابوانت الرسالة، وانسحب عمر مباشرة، فتعليمات الجبهة هي الالتزام الدقيق بالأوامر والخطوات.

فجأة ينادي علي على عمر الصغير ويسأله هل تعرف القراءة... أجاب عمر بنعم.

جلسا الإثنان على أدراج القصبة، عمر يقرأ مضمون الرسالة و"علي لابوابت" في الصمت يتأمل في شجاعة الطفل الصغير، واللذان ستجمعهما حياة كفاحية ونضالية سويًا، ويترفقان طوال الوقت في أحياء القصبة، ولم ينقطعا عن العمل بجانب البعض، إلى غاية أن استشهدا سويًا.

أبطال معركة الجزائر

عمر الصغير يستقبل العربي بن مهيدي

كانت من أصعب المهمات وأخطرها، الثورة قد بلغت ذروتها، وكانت القصبة على موعد مع تحضير اجتماعات قادة الثورة واستقبال أحد أبطالها المتمثل في العربي بن مهيدي.

أدرك عمر الصغير أهمية القيادي القادم، عبر الإلحاح والتخطيط الدقيق من طرف المدعو "جعفر" وهو الاسم الحركي لياسف سعدي، كانت نقطة وموعد اللقاء مخبزة والد جعفر.

وقف عمر الصغير أمام محل جده طوال اليوم، منتبهًا إلى كل شخص يحمل صفات قياديه وينطق كلمة السر، إلى غاية أن وطأت أقدم رجل في الثلاثينات أنيق المظهر والشكل، تبدو أعصابه هادئة ملامحه قوية الشخصية، ويتلفظ بشكل واضح كلمة السر، حينها بادر عمر بتحية التقدير والاحترام طالبًا منه مرافقته إلى غاية المخبئ.

رغم حداثة سن عمر الصغير البالغ اثنتي عشر عام، فقد استطاع عُمر أن يكون ضمن النواة الصلبة للفدائيين في القصبة، وشارك في تأمين ممرات حاملات القنابل على غرار عمليات قادتها حسيبة بن بوعلي وجميلة بوحيرد، واستطاع تخطي الحواجز الأمنية، كما عمل بفضل قدرته على تجنيد أطفال القصبة من ربط شبكات نقل الأسلحة والرسائل، والاستطلاع، وساهم عمر في تطهير القصبة من مظاهر التشرد التي كانت تسئ إلى الجزائري.

مهمة أخيرة

بعد إضراب 28 كانون الثاني/جانفي 1957 شهدت القصبة أكبر عمليات التمشيط ومداهمات البيوت وحملة الاعتقالات، وبحسب مصادر تاريخية بلغت عدد المعتقلين أكثر من 25 ألف معتقل، تسببت في اختفاء قسري لأكثر من 9000 جزائري، وقد اشتد الحصار على القصبة أقصاه.

كانت آخر مهمة قام بها عمر الصغير، هي تسليم رسالة من "علي لابوانتé بخط حسيبة بن بوعلي إلى مقر محل حلاقة بحي سوسطارة، حينها تمكن عمر من الإفلات من قبضة عساكر فرنسا التي كانت تتفقد آثاره نظرًا إلى خطورته.

بعدها أحس عمر الصغير أن موعد الرحيل قد اقتربت ساعته، فكان لا بد من إلقاء النظرة وتوديع والدته التي لم يراها طوال ستة أشهر الأخيرة، وتمكن عمر من ترتيب لقائه الأخير مع والدته السيدة ذهبية، حيث تجلت أسمى صور براءة الطفل وهو يحتضن أمه، راجيًا منها السماح له أن ينام لآخر ليلة بجانب أفراد عائلته وأخوته الصغار، ولكن لأسباب أمنية ووقائية رفضت الأم حمايةً له ولباقي الفدائيين.

كانت الرسالة التي وصلت إلى محل الحلاقة، تتداول بين أيادي العدو الفرنسي، وكانت الرسالة تتضمن عنوان إقامة كل من "علي لابوانت" وحسيبة بن بوعلي ومحمود بوحميدي وعمر الصغير.

في الثامن من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1957 كان الموعد مع مرور شاحنة لجمع النفايات بعد حظر التجول لتَنقُلَ كل من علي وحسيبة ومحمود وعمر خارج القصبة، غير أن ساعتان قبل الموعد كانت القوات الاستعمارية من المظليين تحاصر البناية الواقعة أسفل القصبة 05 Rue Abderames، وهي دويرة تابعة لعائلة موساوي بوعلام يطلق عليها "دار لڨلاص".

قوات الاستعمار الفرنسي قصفت المنزل الذي يختبئ فيه عمر الصغير رفقة مجاهدين وكان عمره لا يتجاوز 12 سنة 

عبر مكبرات الصوت طالبت قوات الفوج المظليين عمر الصغير بالاستسلام، يسكن الصمت المكان، ثم تطالب من حسيبة بن بوعلي الخروج من المخبأ، حينها يخترق السكون صوت حسيبة عاليًا: أفضل الموت رفقة إخواني على أن أسلم نفسي إلى العدو". تصدر الأوامر بتفجير البناية، وتدوي زغاريد وتَعُجَ سماء القصبة بصيحات "تحيا الجزائر" معلنة استشهاد أبطال معركة الجزائر، كان الطفل عمر الصغير من بين من صنع مجدها.