"لم أعد أستطيع النوم.. أريد العودة لوطني وأهلي لأعايش معهم الظروف الصعبة، والتي يظل الأصعب منها أن تعيش هذه اللحظات بعيدًا عن غزة وأنت تسمع أخبار الموت".
الصحفي عماد أبو شاويش عالقٌ في الجزائر رفقة أسرته المكونة من ثلاثة أفراد منذ العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بسبب الحرب على غزة
هذا ما أخبرني به عماد أبو شاويش، وهو صحفي فلسطيني، عالقٌ بالجزائر منذ العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عقب عملية طوفان الأقصى بغزة وبدء "إسرائيل" حربها الشاملة على القطاع، والذي راح ضحيته حتى الآن 12 ألف شهيد وشهيدة على الأقل، نسبة صادمة منهم من الأطفال، ومن بينهم أيضًا زهاء 50 صحفيًا وصحفيّة وعائلاتهم.
حاولتُ التواصل مبكرًا مع عماد غير أنّ الظروف القاهرة حالت دون إتمام الحوار معه في كلّ مرّة. لكن، عادونا الاتصال به ظُهر الخميس التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، للحديث عن قضيته وحالته وأسرته بعد رفض السفارة المصرية بالجزائر منحه تأشيرة السفر بسبب الحرب في غزة. يختصر لنا عماد انشغاله المتواصل منذ أكثر من شهر ويقول: "أقضي يوميًا وقتي بين مقر بلدية بئر العاتر بولاية تبسة أقصى شرق الجزائر (الحدود مع تونس)، وقاعات الأنترنيت، لمراسلة أصدقاءٍ مُقربين من الصحفيين الجزائريين وحتى موظفي الخطوط الجوية المصرية، علّي أتوصّل إلى جهة يمكن أن تسهل لي عودتي إلى غزة في هذه الظروف الصعبة رفقة عائلتي.
ويقول عماد (36 عامًا) الذي دخل الجزائر قبل انطلاق عملية طوفان الأقصى لزيارة عائلة زوجته الجزائرية، إنه يُحس بمشاعر متضاربة تجمع بين الغربة والحيرة والقلق على الأهل في غزة والرغبة في التواجد هناك، خاصة في ظل تواصل العدوان الإسرائيلي على أهالي القطاع، والذي ألحاق دمارًا واسعًا بواقع منكوب أصلًا، بفعل سنوات طويلة من الحصار.
ويجزم الصحفي الفلسطيني، المنحدر من حي النصيرات بغزة، أنّ "كل شيء تغير بعد السابع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كان من المفروض العودة إلى غزة بتاريخ العاشر من نفس الشهر، لكن كل الرحلات عُلّقت. اتصلت بالخطوط الجوية المصرية التي اقتنيت تذكرة الذهاب والإياب لدى وكالاتها، فتم إبلاغي أنه تم إلغاء الرحلات بسبب ظروف الحرب. حاولت مرة أخرى مع الخطوط الجوية الجزائرية لكنّي لم أتلق قبولًا من الطرف المصري لتمكيني من دخول القطاع ومنحي التأشيرة."
وبحسرة شديدة يواصل عماد حديثه: "أنا اليوم عالقٌ هنا بمنطقة بئر العاتر بتبسة، عند أسرة زوجتي، لا أتواصل مع السفارة، كما أعيش وضعية مالية جد صعبة، فما جمعتُه من مال دفعته بمعبر رفح لأستطيع الخروج من غزة."
ليكمل: "رسوم المعبر وصلت مبلغ 100 دولار عن الشخص الواحد (قبل الحرب)"، مضيفًا: "رغم أن الجزائريين كانوا ولا يزالون يعاملونني بمثابة أخ، لكني أريد العودة في أقرب وقت ممكن لأتواجد رفقة عائلتي في هذه الظروف".
أول زيارة للجزائر
بعد مرور عام عن زواج عماد من السيدة نسمة أبو شاويش، وهي فلسطينية حاملة للجنسية الجزائرية، تبلغ من العمر 33 سنة، سنة 2012، قرّرا زيارة الجزائر، بمناسبة ولادة بنتهما البِكر رهف، وكان ذلك عام 2013، لكن الظروف لم تسمح بحصول الزيارة وقتها. وفي تموز/جويلية من عام 2014 خلال العدوان الصهيوني على غزة، قام وقتها السفير الجزائري بمصر ندير العرباوي، بالإشراف على إجلاء 130 عائلة جزائرية مقيمة بغزة، منها عائلة عماد بحكم تمتع زوجته بالجنسية الجزائرية.
يقول عماد: "خلال تلك الفترة دخلنا إلى الجزائر وبقينا بعض الوقت في ضيافة صهري إلى غاية إعادة فتح المعبر. كان لزامًا علينا العودة إلى غزة للعمل والشغل والاستقرار، بعدها لم نتمكن من دخول الجزائر مجددًا بسبب الظروف التي كُنّا نمرّ بها كفلسطينيين، ونتيجة غلق معبر رفح في كل مرة."
يضيف المتحدث: "أجرينا وقتها العديد من المحاولات لزيارة تبسة، لكن جميعها باءت بالفشل، وخلال سنة 2019 أردنا القدوم لزيارة صهري (أب زووجتي)، الذي كان في حالة صحية صعبة جدًّا لكننا لم نتمكن من ذلك، وتوفي الأخير رحمه الله حتى دون أن نلقي عليه النظرة الأخيرة.وبحلول سنة 2023 عزمنا على محاولة دخول الجزائر مرة أخرى، لكن في كل مرة كُنّا نصطدم بسلسلة من العراقيل، خاصة وأن 80 ألف شخص مقيم في قطاع غزة كانوا يحاولون الخروج منها في نفس الوقت للعمل والعلاج وحتى أصحاب الجنسية المزدوجة، لزيارة أهاليهم، وأودعوا جميعهم طلبات لدى الجانب المصري، في حين كانت تقوم السلطات هناك بإتاحة المرور لـ 200 شخص فقط يوميًا.
يردف أبو رهف: "هذا الظرف دفعني للتواصل مع مجموعة من الأشخاص في مصر، كما دفعت 500 دولار عن الشخص الواحد من أفراد أسرتي بمجموع 2000 دولار لنتمكن من المرور وتمت العملية بنجاح بعد كولسة كبيرة".
غادرنا غزة في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي وتحديدًا بتاريخ 29 من نفس الشهر، يؤكد محدثنا، مضيفا: "توجهنا إلى مسكن عائلة زوجتي بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر بمنطقة بئر العاتر، الحدودية مع تونس، كان يُفترض أن تنتهي الزيارة منتصف الشهر، لكن الأمور تغيّرت بصفة جذرية، بعد عملية طوفان الأقصى، هذا الوضع جعلنا نعيش أحاسيس صعبة، أن تترك عائلتك وأهلك وأقاربك يواجهون القصف المستمر، وتبقى تنتظر الأخبار من وراء التلفاز أو الهاتف وأنت على بعد 8 آلاف كيلومتر أو أكثر".
يوم النصر
يعود عماد ليروي لنا ما حدث ليلة السابع من تشرين الأول/الأول فيقول: "نِمت وتركت الهاتف قريبًا من وسادتي، ولأني صحفي، ومُنتمٍ إلى مجموعات عديدة تضمُّ صحفيين عبر تيليغرام، بدأت الرسائل تصلني في حدود الساعة الرابعة صباحًا بتوقيت الجزائر، كانت عبارة عن تساؤلات حول ما يحدث في القطاع؟ لكن لا أحد يعلم، اتصلت بصديقي الذي يشتغل صحفيًا أيضا، لكنه هو الآخر لم يكن يملك المعلومة، ولا يعرف ما يحدث."
ويواصل: "بعدها بساعات انتشر الخبر، المقاومة قصفت الاحتلال الغاشم بـ 200 صاروخ خرج من القطاع نحو "إسرائيل"، توجيه ضربات قوية، نعم لقد كان طوفان الأقصى".
"كانت هذه العملية نقطة فارقة جدًا في القضية الفلسطينية التي حاول بعض الأجانب من أصدقاء "إسرائيل" وشركائها، وحتى من العرب المطبعين تصفيتها"، مردفًا: "فلسطين تتعرض في السنوات الأخيرة للطمس، في كل المنابر الدولية، ليأتيهم الرد بهذه القوة، من قبل منفذي عملية "طوفان الأقصى".
ويشدد عماد بالقول: "إلّا أنّنا لم نكن نتوقع أن يكون ردّ الإسرائيليين بهذه الهمجية واللاإنسانية عبر استهداف المواطنين العُزل والأطفال والمستشفيات، ملحقين بهم أضرارًا لم يتوقعها أحد من قبل".
استشهاد 25 صحفيًا صديقًا
بغصّة كبيرة، يروي عماد أبو شاويش، الذي يشتغل صحفيًا بمؤسستي التلفزيون الفلسطيني وإذاعة الشباب الفلسطينية وكذا مترجمًا متعاونًا مع وسائل إعلام محلية وأجنبية، كيف ودّعَ زملاء المهنة وأصدقاء الصحافة، وعددهم 25 زميلًا، كلهم استشهدوا في عمليات القصف الإسرائيلي الذي لا يزال يستهدف المدنيين العُزل بغزة.
واستذكر أسماء عدد منهم وهم: محمد الصالحي، محمد جرغون، سعيد الطويل، وابن عمه الإعلامي عمر أبو شاويش، كلهم أصدقاء عماد الذين استشهدوا في هذه الحرب وآخرون كثر، ذنبهم الوحيد أنهم لا يتوانون في نقل صورة الحقيقة ومعاناة الشعب الفلسطيني والدمار الذي يتعرض له القطاع، وفق محدّث "الترا جزائر".
يقول عماد: "شاركت معهم في تغطية المؤتمرات وتقاسمنا أدوات العمل، الكاميرات، الخوذة في بعض الأحيان وحتى مئزر الصحفي. اشتغلنا طيلة سنوات في الندوات وغطينا مختلف الأحداث، لم أتوقع أن أودّعهم جميعًا في ظرف أيام معدودات."
يسكت قليلا ليضيف: "تركت الخوذة والمئزر لدى صديقي عائد النجّار، هذا الأخير استشهد في الحرب، فما عساني أن أقول اليوم إلّا أنهم شهداء القلم وشهداء الصورة وشهداء الصوت".
واغتنم عماد الفرصة لينعي استشهاد عائلة الصحفي البارز وائل الدحدوح، قائلًا: "إن استهداف الصحفيين الفلسطينيين من طرف الصهاينة ما هو إلّا محاولة لطمس صوت الحقيقة والصورة الفعلية للمجازر المرتكبة يومًا بعد يوم من طرف الاحتلال الصهيوني."
مؤكّدًا هنا أنّ "هذا المحتل الغاشم الذي أعلن حربه على الإعلاميين أيضًا أملًا منه في أن يُسكِت لسان الحق، ولكن هيهات.."
أمل في العودة
يأمل عماد، الأب لثلاثة أطفال هم رهف وجمال ويافا أن تتدخّل السفارة الفلسطينية والخارجية الجزائرية لمساعدته على العودة إلى أرضه غزّة، مؤكّدًا أنّه "لا يمكنني المكوث أكثر بعيدًا عن الوطن، لا أتحمل الغياب عن غزة، عن أهلي.." يخبرنا عماد: "لم أعد أستطيع النوم بعد مشاهدتي للصور والفيديوهات، أشعر بالرعب والقلق، أريد العودة لوطني وأهلي لأعايش معهم الظروف الصعبة، والتي يظل الأصعب منها أن تعيش هذه اللحظات بعيدًا عن غزة وأنت تسمع أخبار الموت والاستهداف والهدم والردم”.